الأحد، 31 أكتوبر 2010
الاثنين، 25 أكتوبر 2010
وما زالت المؤامرة على العالم الإسلامي مستمرة[21/10/2010]

رسالة من: أ. د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن والاه.. وبعد؛
الصهاينة وراء أخطر مشروعات التقسيم في القرن العشرين:
كان من أسباب غزوة الأحزاب التي تجمعت فيها قبائل العرب المعادين للإسلام بقيادة قريش لاستئصال هذا الدين وأتباعه؛ خروج وفد من يهود المدينة المنورة برئاسة- حيي بن أخطب- إلى مكة وغيرها من ديار الجزيرة العربية، ليحرض قريش والقبائل الأخرى على قتال المسلمين وحصارهم والقضاء عليهم.
نفس الدور قام به "د. برنارد لويس" في هذا القرن، وهو صهيوني التوجه "أمريكي الجنسية" إنجليزي الأصل، ويعمل أستاذًا في جامعة "برنستون" الأمريكية، ومتخصص في تاريخ الطوائف الإسلامية ومشهور بعدائه للإسلام والمسلمين، وقد قدم مشروعه لتقسيم الدول الإسلامية، واعتمدته إنجلترا وأمريكا أساسًا لسياستهما في المنطقة منذ عام 1980م.
* وفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية صرَّح مستشار الأمن القومي "بريجنسكي" في عهد الرئيس الأمريكي "ريجان"، أن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن (1980م)؛ هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود "سايكس- بيكو"؟!.
* عقب إطلاق هذا التصريح بدأ "برنارد لويس" وضع مشروعه الشهير الخاص بتفكيك جميع الدول العربية والإسلامية، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من "الكانتونات" والدويلات العرقية والدينية والمذهبية الطائفية.. وقد أرفق بمشروعه المفصل مجموعة من الخرائط المعدة تحت إشرافه، تشمل جميع الدول الإسلامية والعربية المرشحة للتفتيت بوحي من تصريح "بريجنسكي".
* في عام 1983م وافق الكونجرس الأمريكي بالإجماع في جلسة سرية على مشروع "برنارد لويس"، وبذلك تم تقنين هذا المشروع واعتماده وإدراجه في ملفات السياسات الأمريكية الإستراتيجية، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الترويج لفكرة النظام الشرق أوسطي؛ ليحل محل النظام الإقليمي العربي والإسلامي الراهن، وينزع العرب نزعًا من عروبتهم وإسلامهم.
مشاريع الهيمنة تتوالى على العالم الإسلامي
وفي ظل ضعف الأنظمة العربية، فإن قوى الهيمنة أخذت تتلاعب بمصير الأمة، وتتحايل على تكريس انفراطها وطمس هويتها، فكانت فكرة الشرق الأوسط الجديد تارة والكبير تارة أخرى من تلك الصياغات المفخخة التي تستهدف الهوية العربية والإسلامية للأمة، وتفتح الباب لإقحام الكيان الصهيوني وتعزيز شرعيته كدولة في المنطقة.
"الشرق الأوسط الجديد" فكرة صهيونية أطلقها "شيمون بيريز"، و"الشرق الأوسط الكبير" تطوير أمريكي لها دعت إليه إدارة الرئيس بوش بعد أحداث 11 سبتمبر، وبعد ذلك ظهرت فكرة الشراكة الأورومتوسطية لتشكل بابًا آخر من أبواب الغواية، وأخيرًا خرج علينا الرئيس الفرنسي ساركوزي في عام 2007م بمشروعه "الاتحاد من أجل المتوسط" الذي ضم 43 دولة، بينها 9 دول عربية، بالإضافة إلى الكيان الصهيوني.
لماذا بدأت مؤامرة التقسيم بالسودان؟
يعتبر السودان هو أكثر الدول العربية امتدادًا في جسد إفريقيا، وقد أعطته هذه الميزة بُعدًا إستراتيجيًّا عبر التاريخ وعبر الحاضر، فهو المعبر العربي والإسلامي إلى إفريقيا سياسيًّا وجغرافيًّا وحضاريًّا، وهو الجسر الذي تتعاون فيه الحضارتان الإسلامية والإفريقية بسبب موقعه الجغرافي، وبحكم تكوينه السكاني؛ حيث يتشكل السودان من أعراق متعددة يندمج فيها الجنس العربي والإفريقي؛ ومن ثم فإن الدعوة إلى تقسيم السودان المدعومة غربيًّا وصهيونيًّا ستمثل سدًّا منيعًا بين العالم الإسلامي والعربي وشعوب القارة الإفريقية؛ حيث من المعلوم تاريخيًّا أن أرض السودان منذ دخلها الإسلام هي الجسر الذي تعبر عليه الثقافة العربية والإسلامية إلى معظم الدول الإفريقية، وقيام تلك الدولة الجنوبية سوف يهدد هذا التواصل.
كما أن الغرب يتوقع- إذا ما انقسم السودان- أن يُحدِث انقلابًا خطيرًا في الوضع الإستراتيجي في المنطقة المحيطة به وفي وسط إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقي، وفي السيطرة على البحر الأحمر.
التحضير لانفصال الجنوب
في أثناء زيارته للسودان، أعلن نائب الرئيس الأمريكي (جون بايدن) عن عزم الولايات المتحدة للاعتراف بدولة جنوب السودان إذا ما انتهت نتائج الاستفتاء على تقرير المصير إلى الانفصال، واكتملت الصورة بالتصريحات الروسية والصينية التي لا تخلو من دلالة على توافر الغطاء الدولي للانفصال، وأن الأمريكان والصهاينة حريصون على ذلك؛ حتى ولو لم تأتِ النتيجة على هواهم، وهذا ما حدث في العراق، ويجهز مسرح أحداث دول أخرى لنفس السيناريو، ولعل تصريح أوباما الأخير بأنه إذا لم يتم الاستفتاء فسيكون هناك الملايين من القتلى، وكأنه يحضر لمجزرة كبرى في الجنوب.
لقد أكدت صحيفة (واشنطن تايمز) أن أمريكا تقدم دعمًا ماليًّا سنويًّا، يقدر بمليار دولار للجنوب السوداني، وإن هذه المبالغ الضخمة تصرف في تدريب رجال الأمن، وتشكيل ما وصفه بجيش قادر على حماية المنطقة.
تحديات ما بعد الانفصال
هناك العديد من التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية يُتوقع حدوثها منها:
1- حرب بين الشمال والجنوب بسبب الاختلاف على ترسيم الحدود في منطقة "آبيي" الغنية بالبترول، والتي لم تحسم بعد.
2- أن تسرى عدوى الانفصال من الجنوب إلى حركات التمرد في دارفور، وجنوب كردفان والنيل الأزرق وربما شرق السودان.
3- ازدياد الضغوط الدولية على السودان في مجالات التعامل مع المحكمة الدولية الجنائية، ورعاية حقوق الإنسان بقصد الضغط على الحكومة حتى تستجيب لمطالب حركات التمرد الأخرى.
4- تقلص نصيب حكومة السودان من عائدات بترول الجنوب، والتي يبلغ حاليًّا 80%؛ ما يسبب مشاكل كبيرة لشمال السودان.
5- الخطر المائي حيث إن حصة مصر من مياه النيل تبلغ 55 مليار م3، مقابل 18 مليار م3 للسودان؛ وهو الأمر الذي ترفضه حركة التمرد في جنوب السودان، وترى أن حصة مصر كبيرة؛ ولذا تطالب باتفاق جديد، بجانب أنها تريد بيع مياه النيل والاستفادة منها، وسوف تسعى- بدعم صهيوني وأمريكي- إلى إقامة السدود لحجز المياه والتحكم فيها؛ الأمر الذي قد يسبب لمصر خسارة كبيرة، وخاصة بعد أن أصبحت مهددة بالدخول في دائرة الخطر المائي وحرب المياه.
ثم ماذا بعد الجنوب السوداني؟
سيكون انفصال الجنوب الخطوة الأولى في مشروع تغيير خرائط المنطقة، ولكي لا يبدو الأمر وكأنه مجرد مؤامرة صهيو-أمريكية قديمة، فإن العمل على قيام دويلة فلسطينية سيكون جزءًا من مشروع تغيير الخرائط، كي يكتسب فيها الكيان الصهيوني شرعية وجود، ويسمح للصهاينة بالانخراط في كل شئون المنطقة، وهذا يعني أن مصطلح الصهاينة الأعداء يُراد له أن يغيب ليظهر مكانه دولة يهودية مقبولة ومعترف بها في المنطقة.
إن إعادة تقسيم فلسطين بعد ظهور دولة جنوب السودان يمكن أن يضفى شرعية تلقائية على إمكانية تقسيم العراق كخطوة تالية، وقبله أو بعده؛ فإن محاولة فصل الجنوب اليمني عن شماله قد يكتسب زخمًا سياسيًّا أكبر، وما دام يشعر الجميع بأنه يمكن التعايش مع ظهور كيانات جديدة فإن العدوى يمكن أن تنتقل لتشمل دولاً أخرى.
ويبقى الأمل في نصر الله
على الرغم مما يحدث للمسلمين في السودان وفلسطين والعراق واليمن وكشمير والصين والشيشان وغيرها من بقاع الأرض؛ فإن ثقتنا ويقيننا في نصر الله يُهِّون علينا ذلك، ويدفعنا إلى العمل بجد ونشاط للأخذ بأسباب النصر، فالله تعالى يقول: ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 7)، والوحدة العربية الإسلامية الآن هي الحل الوحيد، ليتمكن المسلمون من الدفاع عن دينهم ومقدساتهم وأنفسهم وأعراضهم، وأوطانهم وثرواتهم، وحتى يستطيعوا أن يعيشوا ويواجهوا التكتلات العالمية السياسية والعسكرية والاقتصادية، وطغيان النظام العالمي الجديد، فبالوحدة يستعيدون هيبتهم وتفوقهم الحضاري، ويكون لهم الثقل الدولي الكبير الذي يمكنهم من صد الهجمات الشرسة المتتالية عليهم؛ لأننا نرى تداعي الأكلة على قصعتنا، باعتبارنا فريسة سهلة بسبب تفككنا، فهيا نتحد ونتعاون بدءًا من الشعوب، فهي صاحبة الكلمة، ثم لننتظر وعد الله لنا بالنصر والتمكين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55)﴾ (النور)، ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51)﴾ (غافر)، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: من الآية 30)، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾ (الأنفال).
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21)
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن والاه.. وبعد؛
الصهاينة وراء أخطر مشروعات التقسيم في القرن العشرين:
كان من أسباب غزوة الأحزاب التي تجمعت فيها قبائل العرب المعادين للإسلام بقيادة قريش لاستئصال هذا الدين وأتباعه؛ خروج وفد من يهود المدينة المنورة برئاسة- حيي بن أخطب- إلى مكة وغيرها من ديار الجزيرة العربية، ليحرض قريش والقبائل الأخرى على قتال المسلمين وحصارهم والقضاء عليهم.
نفس الدور قام به "د. برنارد لويس" في هذا القرن، وهو صهيوني التوجه "أمريكي الجنسية" إنجليزي الأصل، ويعمل أستاذًا في جامعة "برنستون" الأمريكية، ومتخصص في تاريخ الطوائف الإسلامية ومشهور بعدائه للإسلام والمسلمين، وقد قدم مشروعه لتقسيم الدول الإسلامية، واعتمدته إنجلترا وأمريكا أساسًا لسياستهما في المنطقة منذ عام 1980م.
* وفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية صرَّح مستشار الأمن القومي "بريجنسكي" في عهد الرئيس الأمريكي "ريجان"، أن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن (1980م)؛ هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود "سايكس- بيكو"؟!.
* عقب إطلاق هذا التصريح بدأ "برنارد لويس" وضع مشروعه الشهير الخاص بتفكيك جميع الدول العربية والإسلامية، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من "الكانتونات" والدويلات العرقية والدينية والمذهبية الطائفية.. وقد أرفق بمشروعه المفصل مجموعة من الخرائط المعدة تحت إشرافه، تشمل جميع الدول الإسلامية والعربية المرشحة للتفتيت بوحي من تصريح "بريجنسكي".
* في عام 1983م وافق الكونجرس الأمريكي بالإجماع في جلسة سرية على مشروع "برنارد لويس"، وبذلك تم تقنين هذا المشروع واعتماده وإدراجه في ملفات السياسات الأمريكية الإستراتيجية، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الترويج لفكرة النظام الشرق أوسطي؛ ليحل محل النظام الإقليمي العربي والإسلامي الراهن، وينزع العرب نزعًا من عروبتهم وإسلامهم.
مشاريع الهيمنة تتوالى على العالم الإسلامي
وفي ظل ضعف الأنظمة العربية، فإن قوى الهيمنة أخذت تتلاعب بمصير الأمة، وتتحايل على تكريس انفراطها وطمس هويتها، فكانت فكرة الشرق الأوسط الجديد تارة والكبير تارة أخرى من تلك الصياغات المفخخة التي تستهدف الهوية العربية والإسلامية للأمة، وتفتح الباب لإقحام الكيان الصهيوني وتعزيز شرعيته كدولة في المنطقة.
"الشرق الأوسط الجديد" فكرة صهيونية أطلقها "شيمون بيريز"، و"الشرق الأوسط الكبير" تطوير أمريكي لها دعت إليه إدارة الرئيس بوش بعد أحداث 11 سبتمبر، وبعد ذلك ظهرت فكرة الشراكة الأورومتوسطية لتشكل بابًا آخر من أبواب الغواية، وأخيرًا خرج علينا الرئيس الفرنسي ساركوزي في عام 2007م بمشروعه "الاتحاد من أجل المتوسط" الذي ضم 43 دولة، بينها 9 دول عربية، بالإضافة إلى الكيان الصهيوني.
لماذا بدأت مؤامرة التقسيم بالسودان؟
يعتبر السودان هو أكثر الدول العربية امتدادًا في جسد إفريقيا، وقد أعطته هذه الميزة بُعدًا إستراتيجيًّا عبر التاريخ وعبر الحاضر، فهو المعبر العربي والإسلامي إلى إفريقيا سياسيًّا وجغرافيًّا وحضاريًّا، وهو الجسر الذي تتعاون فيه الحضارتان الإسلامية والإفريقية بسبب موقعه الجغرافي، وبحكم تكوينه السكاني؛ حيث يتشكل السودان من أعراق متعددة يندمج فيها الجنس العربي والإفريقي؛ ومن ثم فإن الدعوة إلى تقسيم السودان المدعومة غربيًّا وصهيونيًّا ستمثل سدًّا منيعًا بين العالم الإسلامي والعربي وشعوب القارة الإفريقية؛ حيث من المعلوم تاريخيًّا أن أرض السودان منذ دخلها الإسلام هي الجسر الذي تعبر عليه الثقافة العربية والإسلامية إلى معظم الدول الإفريقية، وقيام تلك الدولة الجنوبية سوف يهدد هذا التواصل.
كما أن الغرب يتوقع- إذا ما انقسم السودان- أن يُحدِث انقلابًا خطيرًا في الوضع الإستراتيجي في المنطقة المحيطة به وفي وسط إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقي، وفي السيطرة على البحر الأحمر.
التحضير لانفصال الجنوب
في أثناء زيارته للسودان، أعلن نائب الرئيس الأمريكي (جون بايدن) عن عزم الولايات المتحدة للاعتراف بدولة جنوب السودان إذا ما انتهت نتائج الاستفتاء على تقرير المصير إلى الانفصال، واكتملت الصورة بالتصريحات الروسية والصينية التي لا تخلو من دلالة على توافر الغطاء الدولي للانفصال، وأن الأمريكان والصهاينة حريصون على ذلك؛ حتى ولو لم تأتِ النتيجة على هواهم، وهذا ما حدث في العراق، ويجهز مسرح أحداث دول أخرى لنفس السيناريو، ولعل تصريح أوباما الأخير بأنه إذا لم يتم الاستفتاء فسيكون هناك الملايين من القتلى، وكأنه يحضر لمجزرة كبرى في الجنوب.
لقد أكدت صحيفة (واشنطن تايمز) أن أمريكا تقدم دعمًا ماليًّا سنويًّا، يقدر بمليار دولار للجنوب السوداني، وإن هذه المبالغ الضخمة تصرف في تدريب رجال الأمن، وتشكيل ما وصفه بجيش قادر على حماية المنطقة.
تحديات ما بعد الانفصال
هناك العديد من التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية يُتوقع حدوثها منها:
1- حرب بين الشمال والجنوب بسبب الاختلاف على ترسيم الحدود في منطقة "آبيي" الغنية بالبترول، والتي لم تحسم بعد.
2- أن تسرى عدوى الانفصال من الجنوب إلى حركات التمرد في دارفور، وجنوب كردفان والنيل الأزرق وربما شرق السودان.
3- ازدياد الضغوط الدولية على السودان في مجالات التعامل مع المحكمة الدولية الجنائية، ورعاية حقوق الإنسان بقصد الضغط على الحكومة حتى تستجيب لمطالب حركات التمرد الأخرى.
4- تقلص نصيب حكومة السودان من عائدات بترول الجنوب، والتي يبلغ حاليًّا 80%؛ ما يسبب مشاكل كبيرة لشمال السودان.
5- الخطر المائي حيث إن حصة مصر من مياه النيل تبلغ 55 مليار م3، مقابل 18 مليار م3 للسودان؛ وهو الأمر الذي ترفضه حركة التمرد في جنوب السودان، وترى أن حصة مصر كبيرة؛ ولذا تطالب باتفاق جديد، بجانب أنها تريد بيع مياه النيل والاستفادة منها، وسوف تسعى- بدعم صهيوني وأمريكي- إلى إقامة السدود لحجز المياه والتحكم فيها؛ الأمر الذي قد يسبب لمصر خسارة كبيرة، وخاصة بعد أن أصبحت مهددة بالدخول في دائرة الخطر المائي وحرب المياه.
ثم ماذا بعد الجنوب السوداني؟
سيكون انفصال الجنوب الخطوة الأولى في مشروع تغيير خرائط المنطقة، ولكي لا يبدو الأمر وكأنه مجرد مؤامرة صهيو-أمريكية قديمة، فإن العمل على قيام دويلة فلسطينية سيكون جزءًا من مشروع تغيير الخرائط، كي يكتسب فيها الكيان الصهيوني شرعية وجود، ويسمح للصهاينة بالانخراط في كل شئون المنطقة، وهذا يعني أن مصطلح الصهاينة الأعداء يُراد له أن يغيب ليظهر مكانه دولة يهودية مقبولة ومعترف بها في المنطقة.
إن إعادة تقسيم فلسطين بعد ظهور دولة جنوب السودان يمكن أن يضفى شرعية تلقائية على إمكانية تقسيم العراق كخطوة تالية، وقبله أو بعده؛ فإن محاولة فصل الجنوب اليمني عن شماله قد يكتسب زخمًا سياسيًّا أكبر، وما دام يشعر الجميع بأنه يمكن التعايش مع ظهور كيانات جديدة فإن العدوى يمكن أن تنتقل لتشمل دولاً أخرى.
ويبقى الأمل في نصر الله
على الرغم مما يحدث للمسلمين في السودان وفلسطين والعراق واليمن وكشمير والصين والشيشان وغيرها من بقاع الأرض؛ فإن ثقتنا ويقيننا في نصر الله يُهِّون علينا ذلك، ويدفعنا إلى العمل بجد ونشاط للأخذ بأسباب النصر، فالله تعالى يقول: ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 7)، والوحدة العربية الإسلامية الآن هي الحل الوحيد، ليتمكن المسلمون من الدفاع عن دينهم ومقدساتهم وأنفسهم وأعراضهم، وأوطانهم وثرواتهم، وحتى يستطيعوا أن يعيشوا ويواجهوا التكتلات العالمية السياسية والعسكرية والاقتصادية، وطغيان النظام العالمي الجديد، فبالوحدة يستعيدون هيبتهم وتفوقهم الحضاري، ويكون لهم الثقل الدولي الكبير الذي يمكنهم من صد الهجمات الشرسة المتتالية عليهم؛ لأننا نرى تداعي الأكلة على قصعتنا، باعتبارنا فريسة سهلة بسبب تفككنا، فهيا نتحد ونتعاون بدءًا من الشعوب، فهي صاحبة الكلمة، ثم لننتظر وعد الله لنا بالنصر والتمكين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55)﴾ (النور)، ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51)﴾ (غافر)، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: من الآية 30)، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾ (الأنفال).
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21)
السبت، 23 أكتوبر 2010
السبت، 16 أكتوبر 2010
الأحد، 10 أكتوبر 2010
هذا كتابنا ينطق بالحق وهذا قرآننا المعجزة الخالدة دستور العالمين[10/10/2010

بقلم: الشيخ/ محمد عبد الله الخطيب
في هذا المقال بيان لبعض خصائص القرآن، وأيضًا بيان لخصائص الإعجاز القرآني، وأنه معجزة دائمة خالدة وصدق من قال (القرآن دستورنا).. يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١)﴾ (الفرقان) وقال سبحانه: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (٨٧)﴾ (ص)، وقال جل شأنه: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (٣)﴾ (الأعراف)، وقال سبحانه: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (٧٨) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠)﴾ (الواقعة)، وقال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)﴾ (إبراهيم).
لهذا وضع المسلمون جميعًا هذا الكتاب المقدَّس في مكانته، وعرفوا له منزلته وقدسيته، وأدركوا حقه عليهم أن ينزلوا على حكمه، وأن يحكِّموه بينهم وبين البشرية، وأن يُقدموه ويُظهروه ويُعظموه، فإذا جاء أي شخص مهما كان وفي أي مكان على ظهر الأرض، وحاول أن يُسيء إلى ما عظَّمه الله عزَّ وجلَّ، فإن المسلمين جميعًا يعتقدون أن بشرًا ما لا يستطيع أن ينال منه، بل هو في الواقع يهين نفسه، وينال من آدميته.. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)﴾ (التوبة)، وفي هذا الحديث الذي رواه الإمام علي بن أبي طالب ما يبين بعض هذه الخصائص: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إنها ستكون فتنة، قلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟! قال: كتاب الله.. فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعت به حتى قالت: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢)﴾ (الجن)، من قال به صدق، ومَن عمل به أجر، ومن حَكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
ولقد تأكد على مرِّ الأزمات والعصور أن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة التي أنزلها الله على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "بقيت الأدلة تتجدد على مر الزمن شاهدة بأن القرآن حق، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم حق، وأن الإسلام العظيم حق ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)﴾ (فصلت)، وتمر القرون بعد القرون والعصور بعد العصور لتُشهد الناس على أنه ليس بعد التوحيد عقيدة، ولا بعد الإسلام شريعة، ولا بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبوة، ولا بعد هديه هدي، ولا بعد البصائر التي أنارت العالمين شيء يستنير به العالمون".
ويقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله: "بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تُشده لها العقول وتقف عندها القدرة البشرية فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذهان والتسليم والإيمان والاطمئنان".
إن كل معجزة كانت تناسب الزمن الذي بعث فيه النبي عليه السلام، فموسى عليه السلام كان السحر قد تقدم في عصره، فكانت معجزته في العصا الفرق بينه وبين السحرة أن عصاه تتحول إلى حية حقيقية تبتلع عمل الذين سحروا أعين الناس، ولم يغيروا حقيقة حبالهم وعصيهم التي بأيديهم، فلما رأوا ما عند موسى عليه السلام كان السجود والإذعان والإيمان؛ لا بموسى، ولكن برب موسى، وتحمَّلوا في سبيل ذلك ما نقلهم النقلة الخالدة العظيمة.. يقول ابن عباس رضي الله عنهما "أصبحوا سحرة، وأضحوا شهداء، وأمسوا يرتعون في الجنة".
ومعجزة سيدنا عيسى عليه السلام كانت لأقوام خضعوا للمادة، ولم يعترفوا بغيرها، فكانت معجزته لإثبات ما وراء المادة، بل إن ولادته نفسها كانت من هذا النوع، وقال وهو في المهد: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١)﴾ (مريم).
ولكن المعجزة الخالدة للقرآن الكريم لم تكن من هذا النوع، بل كانت أمرًا معنويًّا تتأمله العقول والأفهام، وتتعرفه المدارك البشرية في كل الأزمان، ولم يفقد حجيته، ولم يزل إعجازه كرّ الغداة ومرّ العشي.
وهنا قد يثور سؤال في الأذهان: لماذا كانت معجزة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم معنويةً خالدةً ومعجزة الأنبياء قبله حسية موقوتة؟!
يقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في الإجابة عن هذا التساؤل: "إن الجواب عن ذلك مشتق من شريعة محمد ذاتها ومن حقيقة القرآن الكريم؛ فشريعة محمد خالدة باقية، خوطبت بها الأجيال من مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد خوطب بها الناس جميعًا في كل الأرض مهما اختفت أجناسهم وتباينت أقاليمهم، وتضاربت عاداتهم، فكان لا بد أن تكون معجزة النبي متفقةً مع هذا العموم ومتلائمةً مع هذا الخلود".
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة الإنقاذ والحياة للبشرية كلها، للأحمر والأسود والأبيض، على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم وثقافاتهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبعثت إلى الناس كافةً" قال تعالى: ﴿(١٠٦) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾ (الأنبياء).
والقرآن الكريم بحر لا شاطئ له، متدفق، يعطي الجميع، وهو نور للبصائر والأبصار، وفي متناول جميع الخلق على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وللأسف فإن البعض ممن طمس الله على بصيرتهم ليتهم يعرضون عنه لكنهم يأبون إلا أن يلمزوه.
وهذا صنف قديم له امتداد مع الزمن، قال الله عزَّ وجلَّ في شأنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَـكِن لَّا يَعْلَمُونَ (١٣)﴾ (البقرة).
إن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم خالدة باقية، تُرى وتُتلى إلى يوم القيامة، يعلم حقيقة القرآن من التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاينه وخاطبه، ومن جاء بعد عصر الرسول بعشرة قرون، بل بعشرات القرون، ولقد حفظه منزِّله في الأجيال كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ (الحجر).
ونبادر بالقول للذين يفهمون أن حفظ الذكر هو تطبيقه والحكم به، إن تطبيق الذكر كدستور للحياة يحتاج إلى جهد بشري صحيح يُقتدى فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن جاء من بعده، من التزام كامل به، وجهاد دائم في سبيل تطبيقه وهيمنته.
أما حفظه كنصوص فنحن في عالم الواقع المشاهد ننظر من خلال القرون إلى نفاذ وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر، فنرى من الشواهد الكثير، فقد مرت بالمسلمين محنٌ شديدةٌ قاسيةٌ كالتي تمر بها اليوم، وتنقل إلينا الأنباء أنهم في أمريكا يحاولون إحراق المصحف، ثم يأتي التلبيس بأن الذي يحاولون حرقه ليس هو المصحف، ثم يأتي التلبيس الأكبر بمن يشكك في بعض الآيات، وغفل ونسي ما يجب أن يعلمه القاصي والداني أن هذا البنيان من عند الله، وكل آية نزلت على قلب سيد الخلق كان يقول لمن حوله من الصحابة من كتَّاب الوحي: "اجعلوها في سورة كذا، في مكان كذا"، فهو بنيان شيَّده الرب سبحانه وتعالى، ونفَّذه المعصوم صلى الله عليه وسلم كلمةً كلمةً وآيةً آيةً، ووضعه لبنةً لبنةً في كل سورة في مكانها، وكل آية في مكانها، كلٌّ بتوجيه من الخالق سبحانه وتعالى لا دخل للبشر فيه، ولأنه بنيان ليس من صنع البشر بل من عند الله فإن الله عز وجل يحفظ دينه ويحفظ الدستور الخالد والبناء الباقي، حتى أهل الجنة، يقال يوم القيامة لقارئ القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت تفعل في الدنيا إلى أن يقف عند آخر آية يحفظها فيقال له: هذه درجتك وهذا مكانك.
يقول بعض المفسرين حول هذه الآية: "نرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصونًا محفوظًا لا تتبدل فيه كلمة، ولا تحرف فيه جملة، لولا أن هنالك قدرةً خارجيةً عن إرادة البشر أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل، وتصونه من العبث والتحريف".
عقبات
العقبة الأولى: الحكام الذين استساغوا أن يحكموا الأمة بغير القرآن، بينما في القرآن الدستور الإسلامي يوم أن طبق امتلأت الدنيا عدلاً ونورًا، وها هو عمر بن عبد العزيز يضرب مثلاً راقيًا للحاكم المسلم الملتزم، كان يخرج أحيانًا فيسأل القادمين من خارج العاصمة فيقول لهم: كيف تركتم البلاد؟ فيقولون: تركناها الظالم بها مقهور والمظلوم منصور، والغني موفور والفقير مجبور، فيقول رضي الله عنه: "هذه كلمات ما يسرني أن لي بها الدنيا"، والحق أن هذا هو الإسلام، الظالم والمعتدي لا مكان لهم، والمظلوم الجميع ينصرونه ويقفون إلى جواره ويساعدونه حتى يسترد حقه.
بلغ من عظمته رضي الله عنه أن امرأةً في الجيزة فقيرة عجوز جدار بيتها قصير ودجاجها يهرب منها، واللصوص يقتحمون هذه الحوائط، فلم ترسل هذه المرأة لحاكم مصر، لكنها أرسلت مباشرةً إلى الخليفة تخبره بهذا الأمر، فأرسل إلى والي مصر وصلتني رسالة من فرتونة السوداء تقول فيها إن حوائطها قصيرة ودجاجها يهرب منها واللصوص يتسوَّرون هذه الحوائط فقم من الحال وابحث عنها وأمِّن لها دجاجها وابنِ لها الحوائط وأخبرني.
فقام من فوره وأخذ يبحث عنها ويبحث عن اسمها حتى عثر عليها فإذا هي امرأة سوداء عجوز، فقوَّى لها حوائطها وأمَّن لها دجاجها، ثم أرسل إلى الخليفة يخبره بما فعل.
حتى الحيوان في ظل الشريعة الإسلامية لا يُظلم ولا يُحمَّل ما لا يطيق، فهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أمر أن كل رجل يحمِّل دابته أكثر مما تطيق يحاسَب ويُحبس إذا فعل ذلك.
جاءته رضي الله عنه هدية من شرق الأردن فقال: على أي شيء أحضرتموها، قالوا: حملناها على دواب البريد.
فقال: لقد ظلمتموها، وليست هذه مهمتها، وأمر ببيع هذه الهدية وشراء علف للتعويض عما نالها في حمل الهدية.
هذه الأمثلة تملأ التاريخ الإسلامي من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء الراشدين، ثم بعد ذلك في الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية على اختلاف في التطبيق، ثم جاء اليوم الذي ظهر فيه الشيوعيون والعلمانيون والملحدون؛ الذي يكرهون الشريعة الإسلامية وبيدهم أقلام مخرِّبة يصدون بها عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، فألفوا مساوئ للشريعة الإسلامية ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي أباطيل وأضاليل وتلفيق؛ حتى نفر البعض من العودة إلى دين الله وإلى منهجه.
وأقول لهؤلاء وغيرهم الذين صنعوا بالكذب هذه العقبات: إن الله عز وجل يدافع عن دينه ويدافع عن المؤمنين ويكره كل مختال يدعو إلى الباطل ويحارب دين الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)﴾ (الحج).
العقبة الثانية: قعودنا وتصبرنا واستسلامنا للباطل.. لقد قعدنا نحن عن نصرة هذا الحق، وأصبحت عقيدة الإسلام مجمدةً بدون حركة، والشريعة الغراء معطَّلة بدون عمل، والمجتمعات راكدة بدون ثقافة، وأمة متفرقة بدون كيان، وأصبحنا حقيقةً نعيش في زمان ضعفنا فيه عن حماية أنفسنا، وعن حماية عقيدتنا وعن حماية أخلاقنا، وعن حماية عقولنا وإدراكنا، وأصبحنا كلأً مباحًا لكل معتد أثيم، وبدل أعداؤنا علينا كل معروف، وأحلوا مكانه كل منكر من القيم والموازين والتعرِّي من كل خصائص الإنسان وردّه إلى حياة الغابة، حياة البغي والانحراف والظلم.
ووضع التطور والتقدم لهذه الأمراض التي أوردناها تحت عناوين برَّاقة مثل: (الانطلاق) و(التحرر) و(التجديد) و(التحديث)، وكل الألفاظ والعبارات التي لا معنى لها، حتى انطبق على أكثرنا هذا الحديث النبوي المعجز في ألفاظه وفي معانيه، يقول صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، إنكم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".
ومن العقبات التي عطلت الإقبال على الإسلام: إغلاق باب الاجتهاد والتجديد الصحيح في الحياة الإسلامية، وأحيانًا تحجر على بعض العقول أن تعمل في مجال التفكير، وجعلوا الشريعة- كما يقول ابن القيم- قاصرةً ألا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها.
بينما التفكير فريضة إسلامية، والنظر في الكون والتأمل والاختراع والابتكار كلها فرائض، قال تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (١٠١)﴾ (يونس) ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)﴾ (آل عمران).
والرسول صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذًا إلى اليمن قال له: يا معاذ، بم تحكم إذا عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجده في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجده في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو (أي لا أقصر)، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي الله ورسوله.
وقد حبب الرسول صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد، فذكر أن المجتهد إذا أخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران.
إن أعداء الإسلام كانوا- وما زالوا- من أحرص الناس على تغيير هذا الدين أو تبديل نصوص القرآن الكريم، ولو كانوا يستطيعون، وقد ثبت- كما تبينا- أن هذا الأمر مستحيل على بشر أن يغيِّر أو يبدل او يأتي بآية أو سورة أو كلمة أو حرف حتى من مثل هذا القرآن، وقد تحدَّى القرآن على هذا الإنس والجن والشياطين، قال تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)﴾ (الإسراء).
والمؤسف أن البعض من المسلمين- أو من غيرهم- لم يعرفوا إلى الآن أن في حفظ القرآن وتطبيق الشريعة الإسلامية الحياة الطيبة والسعادة والاستقرار والشفاء من أمراض القلوب، بل ومن أمراض الأبدان وإشاعة العدل بين جميع الناس والحب والتعاون بين الأمة كلها.. لا فرق فيها بين مسلم وغير مسلم، كما بينا من سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
وإن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن هاجر إلى المدينة كان من أول ما بدأ به العمل على استقرار أهل المدينة بجميع طوائفهم، فكان دستور المدينة المحفوظ إلى اليوم في كتب السيرة، وفيه وضع النبي صلى الله عليه وسلم لكل طائفة حقوقها، وبيَّن الواجبات عليها، وحرَّم القتل والبغي والعدوان، وأقام الوحدة الوطنية بمعناها الحقيقي، حتى إنه صلى الله عليه وسلم ردَّ مسلمًا كان يستعد للذهاب إلى غزوة خيبر مع المسلمين؛ لأن يهوديًّا من تجار المدينة له دين، فقال له صلى الله عليه وسلم: "لا تخرج معنا حتى تؤدي الدين إلى صاحبك"، والمسلم عرض على اليهودى أنه حين يرجع من خيبر سيعطيه من سهمه هذا الدين، فقال له اليهودي: وما الذي يضمن لي أن تعود من خيبر؟ واشتكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصدر النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرار، فجلس المسلم في طريق المدينة يبكي، ومرت عليه مسلمة فسألته: ما يبكيك؟ قال: دين عليَّ، وأنا عاجز عن سداده والنبي صلى الله عليه وسلم منعني من الخروج معه إلى خيبر، فقالت له المرأة المسلمة: انتظر مكانك حتى آتيك، وذهبت إلى بيتها وكان زوجها قد استُشهد قريبًا وترك ثيابًا، فأحضرتها، وقالت له: خذ هذه الثيات فالبس بعضها وبِعْ بعضها وسدِّد دينك، ثم تخرج مع المسلمين، ففرح الرجل وسدَّد دينه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له بالخروج.
هذا واقع سكان المدينة بفضل الإسلام الذي طبِّق، وبفضل الوحدة الوطنية التي أقامها صلى الله عليه وسلم، وهي الوحدة الوطنية الحقيقة الخالصة الصادقة، في المساواة في الحقوق والواجبات، لا مجاملات ولا قرابة، بل الكل يعمل، والجميع عرفوا طريقهم الصحيح بفضل الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها والبركات التي حلَّت، والفيوضات التي نزلت، والرحمات التي أحاطت بالجميع، الذين عاشوا في أمن وأمان.
ونقول لمن يتلاعب بهم الشيطان، ويدعوهم إلى العبث: إن المسلمين يحترمون جميع الأديان التي نزلت، ويؤمنون بها ويقولون: نحن نؤمن بنوح عليه السلام، ونؤمن بموسى عليه السلام، ونؤمن بيوسف عليه السلام، ونؤمن بعيسى عليه السلام، ونؤمن ونصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ونحبهم جميعًا ونثني عليهم جميعًا، ونوقرهم جميعًا، ونعتقد أنهم جميعًا أدَّوا الرسالة، وبلَّغوا الأمانة، ونصحوا الأمم التي بعثهم الله إليها، كما أمرهم الله عز وجل.
وصدق الله العظيم ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥)﴾ (النساء).
ويقول الحق سبحانه في أخذه العهد والميثاق على جميع النبياء والرسل أن يؤمنوا ويصدِّقوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأن ينصروه ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)﴾ (آل عمران).
اللهم قنا شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ووحِّد بين صفوف هذه الأمة، وقوِّ رابطتها، واهدها السبيل، وأعنا على العودة إلى شريعتك، واشرح صدورنا بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك.. إنك نعم المولى ونعم النصير.
--------
* من علماء الأزهر الشريف.
في هذا المقال بيان لبعض خصائص القرآن، وأيضًا بيان لخصائص الإعجاز القرآني، وأنه معجزة دائمة خالدة وصدق من قال (القرآن دستورنا).. يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١)﴾ (الفرقان) وقال سبحانه: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (٨٧)﴾ (ص)، وقال جل شأنه: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (٣)﴾ (الأعراف)، وقال سبحانه: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (٧٨) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠)﴾ (الواقعة)، وقال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)﴾ (إبراهيم).
لهذا وضع المسلمون جميعًا هذا الكتاب المقدَّس في مكانته، وعرفوا له منزلته وقدسيته، وأدركوا حقه عليهم أن ينزلوا على حكمه، وأن يحكِّموه بينهم وبين البشرية، وأن يُقدموه ويُظهروه ويُعظموه، فإذا جاء أي شخص مهما كان وفي أي مكان على ظهر الأرض، وحاول أن يُسيء إلى ما عظَّمه الله عزَّ وجلَّ، فإن المسلمين جميعًا يعتقدون أن بشرًا ما لا يستطيع أن ينال منه، بل هو في الواقع يهين نفسه، وينال من آدميته.. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)﴾ (التوبة)، وفي هذا الحديث الذي رواه الإمام علي بن أبي طالب ما يبين بعض هذه الخصائص: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إنها ستكون فتنة، قلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟! قال: كتاب الله.. فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعت به حتى قالت: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢)﴾ (الجن)، من قال به صدق، ومَن عمل به أجر، ومن حَكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".
ولقد تأكد على مرِّ الأزمات والعصور أن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة التي أنزلها الله على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "بقيت الأدلة تتجدد على مر الزمن شاهدة بأن القرآن حق، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم حق، وأن الإسلام العظيم حق ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣)﴾ (فصلت)، وتمر القرون بعد القرون والعصور بعد العصور لتُشهد الناس على أنه ليس بعد التوحيد عقيدة، ولا بعد الإسلام شريعة، ولا بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبوة، ولا بعد هديه هدي، ولا بعد البصائر التي أنارت العالمين شيء يستنير به العالمون".
ويقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله: "بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تُشده لها العقول وتقف عندها القدرة البشرية فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذهان والتسليم والإيمان والاطمئنان".
إن كل معجزة كانت تناسب الزمن الذي بعث فيه النبي عليه السلام، فموسى عليه السلام كان السحر قد تقدم في عصره، فكانت معجزته في العصا الفرق بينه وبين السحرة أن عصاه تتحول إلى حية حقيقية تبتلع عمل الذين سحروا أعين الناس، ولم يغيروا حقيقة حبالهم وعصيهم التي بأيديهم، فلما رأوا ما عند موسى عليه السلام كان السجود والإذعان والإيمان؛ لا بموسى، ولكن برب موسى، وتحمَّلوا في سبيل ذلك ما نقلهم النقلة الخالدة العظيمة.. يقول ابن عباس رضي الله عنهما "أصبحوا سحرة، وأضحوا شهداء، وأمسوا يرتعون في الجنة".
ومعجزة سيدنا عيسى عليه السلام كانت لأقوام خضعوا للمادة، ولم يعترفوا بغيرها، فكانت معجزته لإثبات ما وراء المادة، بل إن ولادته نفسها كانت من هذا النوع، وقال وهو في المهد: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١)﴾ (مريم).
ولكن المعجزة الخالدة للقرآن الكريم لم تكن من هذا النوع، بل كانت أمرًا معنويًّا تتأمله العقول والأفهام، وتتعرفه المدارك البشرية في كل الأزمان، ولم يفقد حجيته، ولم يزل إعجازه كرّ الغداة ومرّ العشي.
وهنا قد يثور سؤال في الأذهان: لماذا كانت معجزة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم معنويةً خالدةً ومعجزة الأنبياء قبله حسية موقوتة؟!
يقول الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله في الإجابة عن هذا التساؤل: "إن الجواب عن ذلك مشتق من شريعة محمد ذاتها ومن حقيقة القرآن الكريم؛ فشريعة محمد خالدة باقية، خوطبت بها الأجيال من مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد خوطب بها الناس جميعًا في كل الأرض مهما اختفت أجناسهم وتباينت أقاليمهم، وتضاربت عاداتهم، فكان لا بد أن تكون معجزة النبي متفقةً مع هذا العموم ومتلائمةً مع هذا الخلود".
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل رسالة الإنقاذ والحياة للبشرية كلها، للأحمر والأسود والأبيض، على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم وثقافاتهم، يقول صلى الله عليه وسلم: "وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصةً، وبعثت إلى الناس كافةً" قال تعالى: ﴿(١٠٦) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾ (الأنبياء).
والقرآن الكريم بحر لا شاطئ له، متدفق، يعطي الجميع، وهو نور للبصائر والأبصار، وفي متناول جميع الخلق على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وللأسف فإن البعض ممن طمس الله على بصيرتهم ليتهم يعرضون عنه لكنهم يأبون إلا أن يلمزوه.
وهذا صنف قديم له امتداد مع الزمن، قال الله عزَّ وجلَّ في شأنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَـكِن لَّا يَعْلَمُونَ (١٣)﴾ (البقرة).
إن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم خالدة باقية، تُرى وتُتلى إلى يوم القيامة، يعلم حقيقة القرآن من التقى بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاينه وخاطبه، ومن جاء بعد عصر الرسول بعشرة قرون، بل بعشرات القرون، ولقد حفظه منزِّله في الأجيال كما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)﴾ (الحجر).
ونبادر بالقول للذين يفهمون أن حفظ الذكر هو تطبيقه والحكم به، إن تطبيق الذكر كدستور للحياة يحتاج إلى جهد بشري صحيح يُقتدى فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن جاء من بعده، من التزام كامل به، وجهاد دائم في سبيل تطبيقه وهيمنته.
أما حفظه كنصوص فنحن في عالم الواقع المشاهد ننظر من خلال القرون إلى نفاذ وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر، فنرى من الشواهد الكثير، فقد مرت بالمسلمين محنٌ شديدةٌ قاسيةٌ كالتي تمر بها اليوم، وتنقل إلينا الأنباء أنهم في أمريكا يحاولون إحراق المصحف، ثم يأتي التلبيس بأن الذي يحاولون حرقه ليس هو المصحف، ثم يأتي التلبيس الأكبر بمن يشكك في بعض الآيات، وغفل ونسي ما يجب أن يعلمه القاصي والداني أن هذا البنيان من عند الله، وكل آية نزلت على قلب سيد الخلق كان يقول لمن حوله من الصحابة من كتَّاب الوحي: "اجعلوها في سورة كذا، في مكان كذا"، فهو بنيان شيَّده الرب سبحانه وتعالى، ونفَّذه المعصوم صلى الله عليه وسلم كلمةً كلمةً وآيةً آيةً، ووضعه لبنةً لبنةً في كل سورة في مكانها، وكل آية في مكانها، كلٌّ بتوجيه من الخالق سبحانه وتعالى لا دخل للبشر فيه، ولأنه بنيان ليس من صنع البشر بل من عند الله فإن الله عز وجل يحفظ دينه ويحفظ الدستور الخالد والبناء الباقي، حتى أهل الجنة، يقال يوم القيامة لقارئ القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت تفعل في الدنيا إلى أن يقف عند آخر آية يحفظها فيقال له: هذه درجتك وهذا مكانك.
يقول بعض المفسرين حول هذه الآية: "نرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصونًا محفوظًا لا تتبدل فيه كلمة، ولا تحرف فيه جملة، لولا أن هنالك قدرةً خارجيةً عن إرادة البشر أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل، وتصونه من العبث والتحريف".
عقبات
العقبة الأولى: الحكام الذين استساغوا أن يحكموا الأمة بغير القرآن، بينما في القرآن الدستور الإسلامي يوم أن طبق امتلأت الدنيا عدلاً ونورًا، وها هو عمر بن عبد العزيز يضرب مثلاً راقيًا للحاكم المسلم الملتزم، كان يخرج أحيانًا فيسأل القادمين من خارج العاصمة فيقول لهم: كيف تركتم البلاد؟ فيقولون: تركناها الظالم بها مقهور والمظلوم منصور، والغني موفور والفقير مجبور، فيقول رضي الله عنه: "هذه كلمات ما يسرني أن لي بها الدنيا"، والحق أن هذا هو الإسلام، الظالم والمعتدي لا مكان لهم، والمظلوم الجميع ينصرونه ويقفون إلى جواره ويساعدونه حتى يسترد حقه.
بلغ من عظمته رضي الله عنه أن امرأةً في الجيزة فقيرة عجوز جدار بيتها قصير ودجاجها يهرب منها، واللصوص يقتحمون هذه الحوائط، فلم ترسل هذه المرأة لحاكم مصر، لكنها أرسلت مباشرةً إلى الخليفة تخبره بهذا الأمر، فأرسل إلى والي مصر وصلتني رسالة من فرتونة السوداء تقول فيها إن حوائطها قصيرة ودجاجها يهرب منها واللصوص يتسوَّرون هذه الحوائط فقم من الحال وابحث عنها وأمِّن لها دجاجها وابنِ لها الحوائط وأخبرني.
فقام من فوره وأخذ يبحث عنها ويبحث عن اسمها حتى عثر عليها فإذا هي امرأة سوداء عجوز، فقوَّى لها حوائطها وأمَّن لها دجاجها، ثم أرسل إلى الخليفة يخبره بما فعل.
حتى الحيوان في ظل الشريعة الإسلامية لا يُظلم ولا يُحمَّل ما لا يطيق، فهذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أمر أن كل رجل يحمِّل دابته أكثر مما تطيق يحاسَب ويُحبس إذا فعل ذلك.
جاءته رضي الله عنه هدية من شرق الأردن فقال: على أي شيء أحضرتموها، قالوا: حملناها على دواب البريد.
فقال: لقد ظلمتموها، وليست هذه مهمتها، وأمر ببيع هذه الهدية وشراء علف للتعويض عما نالها في حمل الهدية.
هذه الأمثلة تملأ التاريخ الإسلامي من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء الراشدين، ثم بعد ذلك في الدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية على اختلاف في التطبيق، ثم جاء اليوم الذي ظهر فيه الشيوعيون والعلمانيون والملحدون؛ الذي يكرهون الشريعة الإسلامية وبيدهم أقلام مخرِّبة يصدون بها عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، فألفوا مساوئ للشريعة الإسلامية ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي أباطيل وأضاليل وتلفيق؛ حتى نفر البعض من العودة إلى دين الله وإلى منهجه.
وأقول لهؤلاء وغيرهم الذين صنعوا بالكذب هذه العقبات: إن الله عز وجل يدافع عن دينه ويدافع عن المؤمنين ويكره كل مختال يدعو إلى الباطل ويحارب دين الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)﴾ (الحج).
العقبة الثانية: قعودنا وتصبرنا واستسلامنا للباطل.. لقد قعدنا نحن عن نصرة هذا الحق، وأصبحت عقيدة الإسلام مجمدةً بدون حركة، والشريعة الغراء معطَّلة بدون عمل، والمجتمعات راكدة بدون ثقافة، وأمة متفرقة بدون كيان، وأصبحنا حقيقةً نعيش في زمان ضعفنا فيه عن حماية أنفسنا، وعن حماية عقيدتنا وعن حماية أخلاقنا، وعن حماية عقولنا وإدراكنا، وأصبحنا كلأً مباحًا لكل معتد أثيم، وبدل أعداؤنا علينا كل معروف، وأحلوا مكانه كل منكر من القيم والموازين والتعرِّي من كل خصائص الإنسان وردّه إلى حياة الغابة، حياة البغي والانحراف والظلم.
ووضع التطور والتقدم لهذه الأمراض التي أوردناها تحت عناوين برَّاقة مثل: (الانطلاق) و(التحرر) و(التجديد) و(التحديث)، وكل الألفاظ والعبارات التي لا معنى لها، حتى انطبق على أكثرنا هذا الحديث النبوي المعجز في ألفاظه وفي معانيه، يقول صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا، إنكم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".
ومن العقبات التي عطلت الإقبال على الإسلام: إغلاق باب الاجتهاد والتجديد الصحيح في الحياة الإسلامية، وأحيانًا تحجر على بعض العقول أن تعمل في مجال التفكير، وجعلوا الشريعة- كما يقول ابن القيم- قاصرةً ألا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها.
بينما التفكير فريضة إسلامية، والنظر في الكون والتأمل والاختراع والابتكار كلها فرائض، قال تعالى: ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (١٠١)﴾ (يونس) ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)﴾ (آل عمران).
والرسول صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذًا إلى اليمن قال له: يا معاذ، بم تحكم إذا عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجده في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجده في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو (أي لا أقصر)، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي الله ورسوله.
وقد حبب الرسول صلى الله عليه وسلم في الاجتهاد، فذكر أن المجتهد إذا أخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران.
إن أعداء الإسلام كانوا- وما زالوا- من أحرص الناس على تغيير هذا الدين أو تبديل نصوص القرآن الكريم، ولو كانوا يستطيعون، وقد ثبت- كما تبينا- أن هذا الأمر مستحيل على بشر أن يغيِّر أو يبدل او يأتي بآية أو سورة أو كلمة أو حرف حتى من مثل هذا القرآن، وقد تحدَّى القرآن على هذا الإنس والجن والشياطين، قال تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)﴾ (الإسراء).
والمؤسف أن البعض من المسلمين- أو من غيرهم- لم يعرفوا إلى الآن أن في حفظ القرآن وتطبيق الشريعة الإسلامية الحياة الطيبة والسعادة والاستقرار والشفاء من أمراض القلوب، بل ومن أمراض الأبدان وإشاعة العدل بين جميع الناس والحب والتعاون بين الأمة كلها.. لا فرق فيها بين مسلم وغير مسلم، كما بينا من سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
وإن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن هاجر إلى المدينة كان من أول ما بدأ به العمل على استقرار أهل المدينة بجميع طوائفهم، فكان دستور المدينة المحفوظ إلى اليوم في كتب السيرة، وفيه وضع النبي صلى الله عليه وسلم لكل طائفة حقوقها، وبيَّن الواجبات عليها، وحرَّم القتل والبغي والعدوان، وأقام الوحدة الوطنية بمعناها الحقيقي، حتى إنه صلى الله عليه وسلم ردَّ مسلمًا كان يستعد للذهاب إلى غزوة خيبر مع المسلمين؛ لأن يهوديًّا من تجار المدينة له دين، فقال له صلى الله عليه وسلم: "لا تخرج معنا حتى تؤدي الدين إلى صاحبك"، والمسلم عرض على اليهودى أنه حين يرجع من خيبر سيعطيه من سهمه هذا الدين، فقال له اليهودي: وما الذي يضمن لي أن تعود من خيبر؟ واشتكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصدر النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرار، فجلس المسلم في طريق المدينة يبكي، ومرت عليه مسلمة فسألته: ما يبكيك؟ قال: دين عليَّ، وأنا عاجز عن سداده والنبي صلى الله عليه وسلم منعني من الخروج معه إلى خيبر، فقالت له المرأة المسلمة: انتظر مكانك حتى آتيك، وذهبت إلى بيتها وكان زوجها قد استُشهد قريبًا وترك ثيابًا، فأحضرتها، وقالت له: خذ هذه الثيات فالبس بعضها وبِعْ بعضها وسدِّد دينك، ثم تخرج مع المسلمين، ففرح الرجل وسدَّد دينه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له بالخروج.
هذا واقع سكان المدينة بفضل الإسلام الذي طبِّق، وبفضل الوحدة الوطنية التي أقامها صلى الله عليه وسلم، وهي الوحدة الوطنية الحقيقة الخالصة الصادقة، في المساواة في الحقوق والواجبات، لا مجاملات ولا قرابة، بل الكل يعمل، والجميع عرفوا طريقهم الصحيح بفضل الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها والبركات التي حلَّت، والفيوضات التي نزلت، والرحمات التي أحاطت بالجميع، الذين عاشوا في أمن وأمان.
ونقول لمن يتلاعب بهم الشيطان، ويدعوهم إلى العبث: إن المسلمين يحترمون جميع الأديان التي نزلت، ويؤمنون بها ويقولون: نحن نؤمن بنوح عليه السلام، ونؤمن بموسى عليه السلام، ونؤمن بيوسف عليه السلام، ونؤمن بعيسى عليه السلام، ونؤمن ونصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ونحبهم جميعًا ونثني عليهم جميعًا، ونوقرهم جميعًا، ونعتقد أنهم جميعًا أدَّوا الرسالة، وبلَّغوا الأمانة، ونصحوا الأمم التي بعثهم الله إليها، كما أمرهم الله عز وجل.
وصدق الله العظيم ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥)﴾ (النساء).
ويقول الحق سبحانه في أخذه العهد والميثاق على جميع النبياء والرسل أن يؤمنوا ويصدِّقوا برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأن ينصروه ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)﴾ (آل عمران).
اللهم قنا شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ووحِّد بين صفوف هذه الأمة، وقوِّ رابطتها، واهدها السبيل، وأعنا على العودة إلى شريعتك، واشرح صدورنا بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك.. إنك نعم المولى ونعم النصير.
--------
* من علماء الأزهر الشريف.
السبت، 9 أكتوبر 2010
المرشد العام يعلن موقف الجماعة من الانتخابات

بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة فضيلة الأستاذ الدكتور محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
في المؤتمر الصحفي للإعلان عن موقف الجماعة من انتخابات مجلس الشعب 2010م
"مشاركة لا مغالبة"
الإخوة والأخوات.. أيها الشعب المصري الكريم.. أيها الإخوان المسلمون..
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. وبعد..
ففي هذه اللحظات المهمة، التي تحياها مصرنا الحبيبة..
ونحن على أعتاب مرحلة مفصلية من تاريخنا الحديث..
ونحن على أبواب انتخابات برلمانية ينتظرها العالم كله..
ونحن أمام مسئولياتنا وواجباتنا تجاه وطننا الحبيب..
ونحن أمام حالة من الفساد والاضطراب غير مسبوقة في تاريخ مصر..
ولذا كان لا بد للإخوان المسلمين أن يعلنوا موقفهم من المشاركة في انتخابات مجلس الشعب القادمة؛ ذلك لأن الإخوان المسلمين لم يكونوا في يوم من الأيام ليتأخروا عن تلبية نداء مصر، باذلين لله في سبيلها كل ثمين وغالٍ، وفي التاريخ تأكيد وبرهان على ذلك، وهذا ليس ادِّعاءً ولا تزيدًا، ولكنه واقع ملموس يراه كل مخلص محبّ لهذا البلد، وكل قارئ محايد لتاريخ مصر؛ فالإخوان المسلمون جزءٌ من النسيج الوطني والقومي لمصر، لا يمكن تجاوزه أو إنكاره ولا المزايدة عليه.
الإخوة والأخوات..
تعظيمًا للمؤسسية والشورى التي تنتهجها جماعة الإخوان المسلمين عبادةً وخلقًا، فقد تمَّ استطلاع آراء مجالس شورى الإخوان بالمحافظات، ومكاتبها الإدارية التي وافقت جميعها على المشاركة، وكذلك ذوي الرأي والفكر، ثم تم عرض الأمر على مجلس الشورى العام الذي اتخذ قرارًا بالمشاركة في انتخابات مجلس الشعب القادم 2010م في حدود 30% من المقاعد الكلية لمجلس الشعب؛ إعمالاً لحقنا الدستوري والقانوني والشعبي.
وسيقوم الإخوان بكل محافظة بإعلان تفاصيل المرشحين وأعدادهم، والدوائر التي سيدخلون الانتخابات بها، وفقًا لظروفهم المحلية، وتماشيًا مع قرار مجلس الشورى العام الذي نعلنه اليوم وهو كالآتي:
• وافق 98% من أعضاء مجلس الشورى العام على المشاركة في الانتخابات.
• وافق 86% من أعضاء مجلس الشورى العام على أن تكون نسبة المشاركة في حدود 30% من إجمالي عدد المقاعد.
• وافق 96% من أعضاء مجلس الشورى العام على الدخول في المنافسة على مقاعد المرأة.
• وافق 88% من أعضاء مجلس الشورى العام على مشاركة كل المحافظات في الانتخابات. وسوف يتم الإعلان عن الرقم النهائي للمرشحين بعد مرحلة الطعون؛ بما يحقق المصلحة العامة وبعد التنسيق مع الأحزاب والقوى السياسية والمستقلين.
الإخوة والأخوات..
إننا حين اتخذنا قرارنا بالمشاركة في هذه الانتخابات؛ فإننا أردنا بذلك إعلاء قيمة الإيجابية في المجتمع، وضرورة ممارسة الشعب لحقوقه الدستورية والقانونية، والتصدي للفاسدين والمفسدين، وعدم ترك الساحة السياسية مجالاً خصبًا لهم بدون حسيب ولا رقيب، وتعظيمًا للإرادة الشعبية للأمة، وترسيخًا لسنة التدافع ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
ولقد تباينت الآراء وتعدَّدت الرؤى في المرحلة الأخيرة بين القوى الوطنية حول جدوى المشاركة في هذه الانتخابات، وبخاصة مع عدم تحقيق النظام الحدَّ الأدنى للمطالب التي دعت إليها جميع القوى السياسية، كضمان لنزاهة العملية الانتخابية، وهنا أودُّ تأكيد ضرورة احترام كل فصيل سياسي آراء وقرارات الفصيل الآخر، وألا ننسى دورَنا في مواجهة الفساد والمفسدين، وننساق نحو مهاجمة بعضنا بعضًا، وتفنيد سلبيات موقف كل قوة من القوى.
وإنه لمن الضروري أن تتوحَّد الجهود المخلصة لمواجهة كل فاسد والأخذ على يديه؛ لتحقيق ما فيه الخير لمصر والمصريين، وهذا لن يتحقق بالتناحر والتنابز، وإصرار كل صاحب رأي على رأيه ورفضه الآراء الأخرى، فلنتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، ولنغلِّب جميعًا الصالح العام، ولنعمل على نصرة وطننا وتقدِّم أمتنا، كلٌّ حسب مبادئه وآرائه وقرارات مؤسساته الشورية.
رسالة للقوى السياسية
إن المعركة الحقيقية للإصلاح بيننا جميعًا، كقوى سياسية وطنية، وبين المستبدين والمزورين، فلا نريد أن ننقل المعركة إلى تلاسن بيننا وتسابُق في نقد ودحْضِ كلٍّ منا مواقف الآخر.
ولقد أكدت لكل من التقيتهم- من ساسة وقادة أحزاب وقوى سياسية- ضرورة الرجوع إلى قواعدهم والنزول على رأيهم ومطالبهم، سواء بالمشاركة أو المقاطعة، وهذا هو جوهر المشاركة السياسية وحقيقتها.
إن توحُّدنا جميعًا كقوى سياسية في وجه الاستبداد الذي يستأثر بالعملية السياسية عنوة؛ هو أعظم طريق وسبيل لمواجهته، وفضح ممارساته، وإرغامه على احترام إرادة الأمة ونزوله على رأي الشارع المصري.
فلنجعل من يوم الانتخاب يومًا للإيجابية، ولنزرع في مواطنينا روح الإيجابية والتفاعل مع الأحداث والمحافظة على حقوقهم، وليخرج كل مواطن كي يقول رأيه بحرية تامة، وفقًا لما يمليه عليه ضميره، وليعلم قيمة صوته وأنه أمانة، فلا يتركه للمزوِّرين وأعوانهم ليتلاعبوا به.
رسالة للشعب المصري
إننا ندعو الشعب المصري الكريم إلى أن يقوم بدوره في اختيار مرشحيه وممثليه الشرعيين المصلحين من المسلمين والأقباط، الذين ينوبون عنه في السنوات المقبلة، بكل حرية، وألا يتركوا المجال لسماسرة الأصوات وأعوانهم؛ ليتلاعبوا بمصير الأمة، وعليهم أن يقفوا- وبكل قوة- أمام أية محاولة لتزوير الانتخابات لأي مرشح أو حزب أو هيئة كائنًا من كان.
كما أننا ندعو جميع المؤسسات الرسمية والأهلية والهيئات والأحزاب والمستقلين إلى أن تقف صفًّا واحدًا في مواجهة التزوير والمزورين بكل الوسائل السلمية المتاحة؛ حمايةً لإرادة الأمة ومستقبل أبنائها، وألا يتركوا الساحة للمنتفعين والمفسدين ليقرِّروا مصير البلاد والعباد.
إننا نثق في الشعب المصري الكريم، وفي كفايته لاختيار أفضل من يمثله، ويعبِّر عنه، وفي قدرته على حماية حقوقه ومكتسباته، وفي التصدي لكل من يحاول أن يزوِّر إرادته.
رسالة للنظام
كما أننا ندعو النظام الحاكم إلى أن يتحلَّى بأكبر قدر من المسئولية في إدارته للعملية الانتخابية، وأن يغلِّب مصلحة الوطن العليا على مصلحته الضيقة، وأن يعلم أن أية شائبة تشوب هذه الانتخابات النيابية ستلقِي بظلالها على كل انتخابات مقبلة، وهو ما يؤثر سلباً على المشروعية الدستورية والشعبية.
وكان الأولى بالنظام أن يوافق على إصدار مشروع قانون ممارسة الحقوق السياسية الذي تقدم به أكثر من مائة من أعضاء مجلس الشعب، وعليه فإننا نطالبه بضرورة تحقيق الضمانات الحقيقية لنزاهة العملية الانتخابية، من ضبط للجداول الانتخابية، ووضع قواعد واضحة للعملية الانتخابية بجميع مراحلها، وضرورة إبعاد وزارة الداخلية والسلطة التنفيذية عن العملية الانتخابية، واقتصار دورها على تأمين إجراء العملية الانتخابية فقط، وضرورة تفعيل الإشراف القضائي بتعيين قاضٍ على الأقل بكل مجمع انتخابي.
وكذا تمكين المرشحين ووكلائهم ومنظمات المجتمع المدني من حضور جميع مراحل العملية الانتخابية، منذ فتح باب الترشيح وحتى الفرز وإعلان النتيجة، وتجريم استخدام مؤسسات الدولة في الدعاية الانتخابية.
رسالة إلى منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام
كما ندعو منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية ووسائل الإعلام المصرية والدولية إلى أن تضطلع بدورها المأمول في مراقبة الانتخابات في جميع مراحلها، من داخل لجان الاقتراع والفرز وخارجها وإعلان النتائج، وأداء دورهم المنوط بهم في توفير أكبر قدر من الحماية للمرشحين والناخبين على حد سواء، والتصدي للتزوير والمزورين، وملاحقة من يثبت في حقه اقتراف هذه الجريمة النكراء، أيًّا كان منصبه أو مكانته.
وفي النهاية أتوجه إلى الإخوان المسلمين والأخوات المسلمات: إن الآمال معقودة عليكم، وعلى ما ستقومون به في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ مصر، فلتقدِّموا من أنفسكم القدوة الصالحة لأمتكم وشعبكم، واحرصوا على وحدة الأمة، وجمِّعوا ولا تفرِّقوا، وابذلوا من أنفسكم طائعين غير مكرهين طاعةً لله، ثم حبًّا لوطنكم ولشعبكم.
تحركوا بكل قوة بين الناس، ناشرين بينهم الخير، وعارضين لمشروعكم الإصلاحي ولمبادئ دعوتكم المباركة ورافعين شعار "الإسلام هو الحل" وساعين لجعله واقعًا ملموسًا بين الناس، ولا تجرحوا أحدًا، وتذرعوا بالصبر أمام من يفتري عليكم زورًا وبهتانًا، وفي ذات الوقت لا تعطوا الدنيَّة من أمركم، وتصدُّوا لمحاولات تزوير إرادة الأمة، وكونوا لها بالمرصاد، ولاحِقوا المزورين وأعوانهم بكل الوسائل السلمية المتاحة لكم، واعلموا أنكم أصحاب دعوة ورسالة، فاعملوا على هذا الأساس كدعاة مصلحين حريصين على الأمة ومغلِّبين مصالحها العامَّة. القاهرة في: 1 من ذي القعدة 1431هـ الموافق 9 أكتوبر 2010م
ولا يفوتني أن أتقدم باسم الإخوان المسلمين بخالص الشكر والتقدير والامتنان لنوابنا الكرام على أدائهم المتميز في الدورة السابقة وعلى ما قاموا به من جهود مخلصة لخدمة الوطن والمواطنين.
أيها الإخوان المسلمون:
لنجعل من يوم الانتخابات يومَ فخر حقيقي للحرية بكل مشتملاتها، ولنجعله نقطةً فارقةً في تاريخ مصرنا الحبيبة، وهو كذلك بالفعل، ولنترك للشعب الحرية الكاملة في اختيار ممثليه، ولنحترم جميعًا إرادته وخياراته، ولننزل على كلمته، ولنتعاون جميعًا في توفير المناخ المناسب لكل هذا، ولنحرص على ألا يلوث هذا اليوم المنتظر بالأفعال السيئة التي اعتاد عليها البعض في السابق؛ رحمةً بالبلاد ومستقبلها.
حفظ الله مصرنا الحبيبة من كل سوء ومن دعاة الفتنة وأعاننا جميعًا على خدمة ديننا ووطننا، مُعلِينَ راية الحق والعدل والحرية، مغلِّبين مصلحة الوطن على كل ما عداها.والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.. والله أكبر ولله الحمد.
كلمة فضيلة الأستاذ الدكتور محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
في المؤتمر الصحفي للإعلان عن موقف الجماعة من انتخابات مجلس الشعب 2010م
"مشاركة لا مغالبة"
الإخوة والأخوات.. أيها الشعب المصري الكريم.. أيها الإخوان المسلمون..
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. وبعد..
ففي هذه اللحظات المهمة، التي تحياها مصرنا الحبيبة..
ونحن على أعتاب مرحلة مفصلية من تاريخنا الحديث..
ونحن على أبواب انتخابات برلمانية ينتظرها العالم كله..
ونحن أمام مسئولياتنا وواجباتنا تجاه وطننا الحبيب..
ونحن أمام حالة من الفساد والاضطراب غير مسبوقة في تاريخ مصر..
ولذا كان لا بد للإخوان المسلمين أن يعلنوا موقفهم من المشاركة في انتخابات مجلس الشعب القادمة؛ ذلك لأن الإخوان المسلمين لم يكونوا في يوم من الأيام ليتأخروا عن تلبية نداء مصر، باذلين لله في سبيلها كل ثمين وغالٍ، وفي التاريخ تأكيد وبرهان على ذلك، وهذا ليس ادِّعاءً ولا تزيدًا، ولكنه واقع ملموس يراه كل مخلص محبّ لهذا البلد، وكل قارئ محايد لتاريخ مصر؛ فالإخوان المسلمون جزءٌ من النسيج الوطني والقومي لمصر، لا يمكن تجاوزه أو إنكاره ولا المزايدة عليه.
الإخوة والأخوات..
تعظيمًا للمؤسسية والشورى التي تنتهجها جماعة الإخوان المسلمين عبادةً وخلقًا، فقد تمَّ استطلاع آراء مجالس شورى الإخوان بالمحافظات، ومكاتبها الإدارية التي وافقت جميعها على المشاركة، وكذلك ذوي الرأي والفكر، ثم تم عرض الأمر على مجلس الشورى العام الذي اتخذ قرارًا بالمشاركة في انتخابات مجلس الشعب القادم 2010م في حدود 30% من المقاعد الكلية لمجلس الشعب؛ إعمالاً لحقنا الدستوري والقانوني والشعبي.
وسيقوم الإخوان بكل محافظة بإعلان تفاصيل المرشحين وأعدادهم، والدوائر التي سيدخلون الانتخابات بها، وفقًا لظروفهم المحلية، وتماشيًا مع قرار مجلس الشورى العام الذي نعلنه اليوم وهو كالآتي:
• وافق 98% من أعضاء مجلس الشورى العام على المشاركة في الانتخابات.
• وافق 86% من أعضاء مجلس الشورى العام على أن تكون نسبة المشاركة في حدود 30% من إجمالي عدد المقاعد.
• وافق 96% من أعضاء مجلس الشورى العام على الدخول في المنافسة على مقاعد المرأة.
• وافق 88% من أعضاء مجلس الشورى العام على مشاركة كل المحافظات في الانتخابات. وسوف يتم الإعلان عن الرقم النهائي للمرشحين بعد مرحلة الطعون؛ بما يحقق المصلحة العامة وبعد التنسيق مع الأحزاب والقوى السياسية والمستقلين.
الإخوة والأخوات..
إننا حين اتخذنا قرارنا بالمشاركة في هذه الانتخابات؛ فإننا أردنا بذلك إعلاء قيمة الإيجابية في المجتمع، وضرورة ممارسة الشعب لحقوقه الدستورية والقانونية، والتصدي للفاسدين والمفسدين، وعدم ترك الساحة السياسية مجالاً خصبًا لهم بدون حسيب ولا رقيب، وتعظيمًا للإرادة الشعبية للأمة، وترسيخًا لسنة التدافع ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.
ولقد تباينت الآراء وتعدَّدت الرؤى في المرحلة الأخيرة بين القوى الوطنية حول جدوى المشاركة في هذه الانتخابات، وبخاصة مع عدم تحقيق النظام الحدَّ الأدنى للمطالب التي دعت إليها جميع القوى السياسية، كضمان لنزاهة العملية الانتخابية، وهنا أودُّ تأكيد ضرورة احترام كل فصيل سياسي آراء وقرارات الفصيل الآخر، وألا ننسى دورَنا في مواجهة الفساد والمفسدين، وننساق نحو مهاجمة بعضنا بعضًا، وتفنيد سلبيات موقف كل قوة من القوى.
وإنه لمن الضروري أن تتوحَّد الجهود المخلصة لمواجهة كل فاسد والأخذ على يديه؛ لتحقيق ما فيه الخير لمصر والمصريين، وهذا لن يتحقق بالتناحر والتنابز، وإصرار كل صاحب رأي على رأيه ورفضه الآراء الأخرى، فلنتعاون فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، ولنغلِّب جميعًا الصالح العام، ولنعمل على نصرة وطننا وتقدِّم أمتنا، كلٌّ حسب مبادئه وآرائه وقرارات مؤسساته الشورية.
رسالة للقوى السياسية
إن المعركة الحقيقية للإصلاح بيننا جميعًا، كقوى سياسية وطنية، وبين المستبدين والمزورين، فلا نريد أن ننقل المعركة إلى تلاسن بيننا وتسابُق في نقد ودحْضِ كلٍّ منا مواقف الآخر.
ولقد أكدت لكل من التقيتهم- من ساسة وقادة أحزاب وقوى سياسية- ضرورة الرجوع إلى قواعدهم والنزول على رأيهم ومطالبهم، سواء بالمشاركة أو المقاطعة، وهذا هو جوهر المشاركة السياسية وحقيقتها.
إن توحُّدنا جميعًا كقوى سياسية في وجه الاستبداد الذي يستأثر بالعملية السياسية عنوة؛ هو أعظم طريق وسبيل لمواجهته، وفضح ممارساته، وإرغامه على احترام إرادة الأمة ونزوله على رأي الشارع المصري.
فلنجعل من يوم الانتخاب يومًا للإيجابية، ولنزرع في مواطنينا روح الإيجابية والتفاعل مع الأحداث والمحافظة على حقوقهم، وليخرج كل مواطن كي يقول رأيه بحرية تامة، وفقًا لما يمليه عليه ضميره، وليعلم قيمة صوته وأنه أمانة، فلا يتركه للمزوِّرين وأعوانهم ليتلاعبوا به.
رسالة للشعب المصري
إننا ندعو الشعب المصري الكريم إلى أن يقوم بدوره في اختيار مرشحيه وممثليه الشرعيين المصلحين من المسلمين والأقباط، الذين ينوبون عنه في السنوات المقبلة، بكل حرية، وألا يتركوا المجال لسماسرة الأصوات وأعوانهم؛ ليتلاعبوا بمصير الأمة، وعليهم أن يقفوا- وبكل قوة- أمام أية محاولة لتزوير الانتخابات لأي مرشح أو حزب أو هيئة كائنًا من كان.
كما أننا ندعو جميع المؤسسات الرسمية والأهلية والهيئات والأحزاب والمستقلين إلى أن تقف صفًّا واحدًا في مواجهة التزوير والمزورين بكل الوسائل السلمية المتاحة؛ حمايةً لإرادة الأمة ومستقبل أبنائها، وألا يتركوا الساحة للمنتفعين والمفسدين ليقرِّروا مصير البلاد والعباد.
إننا نثق في الشعب المصري الكريم، وفي كفايته لاختيار أفضل من يمثله، ويعبِّر عنه، وفي قدرته على حماية حقوقه ومكتسباته، وفي التصدي لكل من يحاول أن يزوِّر إرادته.
رسالة للنظام
كما أننا ندعو النظام الحاكم إلى أن يتحلَّى بأكبر قدر من المسئولية في إدارته للعملية الانتخابية، وأن يغلِّب مصلحة الوطن العليا على مصلحته الضيقة، وأن يعلم أن أية شائبة تشوب هذه الانتخابات النيابية ستلقِي بظلالها على كل انتخابات مقبلة، وهو ما يؤثر سلباً على المشروعية الدستورية والشعبية.
وكان الأولى بالنظام أن يوافق على إصدار مشروع قانون ممارسة الحقوق السياسية الذي تقدم به أكثر من مائة من أعضاء مجلس الشعب، وعليه فإننا نطالبه بضرورة تحقيق الضمانات الحقيقية لنزاهة العملية الانتخابية، من ضبط للجداول الانتخابية، ووضع قواعد واضحة للعملية الانتخابية بجميع مراحلها، وضرورة إبعاد وزارة الداخلية والسلطة التنفيذية عن العملية الانتخابية، واقتصار دورها على تأمين إجراء العملية الانتخابية فقط، وضرورة تفعيل الإشراف القضائي بتعيين قاضٍ على الأقل بكل مجمع انتخابي.
وكذا تمكين المرشحين ووكلائهم ومنظمات المجتمع المدني من حضور جميع مراحل العملية الانتخابية، منذ فتح باب الترشيح وحتى الفرز وإعلان النتيجة، وتجريم استخدام مؤسسات الدولة في الدعاية الانتخابية.
رسالة إلى منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام
كما ندعو منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية ووسائل الإعلام المصرية والدولية إلى أن تضطلع بدورها المأمول في مراقبة الانتخابات في جميع مراحلها، من داخل لجان الاقتراع والفرز وخارجها وإعلان النتائج، وأداء دورهم المنوط بهم في توفير أكبر قدر من الحماية للمرشحين والناخبين على حد سواء، والتصدي للتزوير والمزورين، وملاحقة من يثبت في حقه اقتراف هذه الجريمة النكراء، أيًّا كان منصبه أو مكانته.
وفي النهاية أتوجه إلى الإخوان المسلمين والأخوات المسلمات: إن الآمال معقودة عليكم، وعلى ما ستقومون به في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ مصر، فلتقدِّموا من أنفسكم القدوة الصالحة لأمتكم وشعبكم، واحرصوا على وحدة الأمة، وجمِّعوا ولا تفرِّقوا، وابذلوا من أنفسكم طائعين غير مكرهين طاعةً لله، ثم حبًّا لوطنكم ولشعبكم.
تحركوا بكل قوة بين الناس، ناشرين بينهم الخير، وعارضين لمشروعكم الإصلاحي ولمبادئ دعوتكم المباركة ورافعين شعار "الإسلام هو الحل" وساعين لجعله واقعًا ملموسًا بين الناس، ولا تجرحوا أحدًا، وتذرعوا بالصبر أمام من يفتري عليكم زورًا وبهتانًا، وفي ذات الوقت لا تعطوا الدنيَّة من أمركم، وتصدُّوا لمحاولات تزوير إرادة الأمة، وكونوا لها بالمرصاد، ولاحِقوا المزورين وأعوانهم بكل الوسائل السلمية المتاحة لكم، واعلموا أنكم أصحاب دعوة ورسالة، فاعملوا على هذا الأساس كدعاة مصلحين حريصين على الأمة ومغلِّبين مصالحها العامَّة. القاهرة في: 1 من ذي القعدة 1431هـ الموافق 9 أكتوبر 2010م
ولا يفوتني أن أتقدم باسم الإخوان المسلمين بخالص الشكر والتقدير والامتنان لنوابنا الكرام على أدائهم المتميز في الدورة السابقة وعلى ما قاموا به من جهود مخلصة لخدمة الوطن والمواطنين.
أيها الإخوان المسلمون:
لنجعل من يوم الانتخابات يومَ فخر حقيقي للحرية بكل مشتملاتها، ولنجعله نقطةً فارقةً في تاريخ مصرنا الحبيبة، وهو كذلك بالفعل، ولنترك للشعب الحرية الكاملة في اختيار ممثليه، ولنحترم جميعًا إرادته وخياراته، ولننزل على كلمته، ولنتعاون جميعًا في توفير المناخ المناسب لكل هذا، ولنحرص على ألا يلوث هذا اليوم المنتظر بالأفعال السيئة التي اعتاد عليها البعض في السابق؛ رحمةً بالبلاد ومستقبلها.
حفظ الله مصرنا الحبيبة من كل سوء ومن دعاة الفتنة وأعاننا جميعًا على خدمة ديننا ووطننا، مُعلِينَ راية الحق والعدل والحرية، مغلِّبين مصلحة الوطن على كل ما عداها.والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.. والله أكبر ولله الحمد.
الجمعة، 8 أكتوبر 2010
الأحد، 3 أكتوبر 2010
الإمام الشهيد حسن البنا رجل دخل التاريخ من أوسع أبوابه (3)

بقلم: الشيخ محمد عبد الله الخطيب
نظراته في الإصلاح المستمدة من عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله..
يقول عنه أحد تلاميذه وهو الأستاذ المرشد عمر التلمساني رحمه الله: "إن كل من يقرأ رسائل الإمام الشهيد ليعجب العجب كله كيف ألهم الله هذا الداعية المخلص المتحرك، كيف ألهمه أن يضع أوسع المعاني في أوجز الكلمات، وبصورة واضحة وضوحًا لا لبس فيه ولا خفاء".
كان الإمام البنا مشغولاً منذ صغره يوم أن كان طالبًا بدار العلوم بأمر الإسلام والمسلمين، ويرقب أحوالهم، ويتأمل في سر بعدهم عن دينهم، ثم يرنو بخاطره وقلبه وعقله إلى أحوال الأمة الإسلامية يوم أن كانت تملأ الدنيا علمًا وعدلاً وجهادًا وصدقًا وإيمانًا بربها أولاً، وبحق الإنسان- كل الإنسان بصرف النظر عن دينه أو انتمائه- في الحياة الكريمة وفي الاستقرار وفي السعادة، وفي تمهيد الطريق له لمعرفة ربه الذي خلقه وسواه.
ولذلك حين طلب منه وهو في السنة الرابعة من دار العلوم أن يكتب موضوعًا في الإنشاء عنوانه هو (اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها).. فكتب كلامًا مرتبًا دقيقًا لا يقوله من هو في سنه بل يعجز الكبار عن الإتيان به، وذلك في تقديرنا لأنه صدق من سماه (الملهم الموهوب) رحمه الله وتقبله في الصالحين.
وقبل الدخول في إجابة الإمام نقول: إن هناك ثلاث حقائق توضح العلاقة بين الإنسان والنجاح في أي عمل وهي:
أولاً: وضوح ما أقدم عليه من عمل في وعيه.
ثانيًا: استغراقه بكل مشاعره فيه.
ثالثًا: إخلاصه التام له.
وهذه الركائز تمكنت بعمق من نفس الإمام من أول لحظة، وظلت تلازمه وتتمكن من أقطار نفسه حتى لقي ربه- رضي الله عنه- نعم لقد وهب نفسه وما يملك من طاقات ومشاعر لهذا الحق، لقد بلغ العمل للإسلام في وعيه مبلغًا جلّي كل غموض، وتخطى كل تساؤل، فعاشت قضية الإسلام والمسلمين بأجلى معانيها حية متوهجة في نفسه وحسه وعصبه ودمه وعروقه، عاطفة مشبوبة، وإيمان حي، جعله لا يهتم بطبع الكتب- ولو أراد لفعل- لكنه أيقن أن القرآن من غير أمة تحمله وتتمثله لا يستطيع أن يفعل شيئًا، ولما سُئل: لماذا لا تؤلف كتبًا؟ قال: أربي رجالاً حتى يرى الناس النظريات تتحول إلى واقع ملموس مجسد في بشر يسير على الأرض.
لقد تحرك القلم وسجل هذه الآمال التي تدل على نبوغ وصدق وانقياد لله وحده، واتباع لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، يقول رحمه الله: "أعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التي ترى سعادتها في إسعاد الناس وإرشادهم، وتستمد سرورها من إدخال السرور عليهم وذود المكروه عنهم وتعدّ التضحية في سبيل الإصلاح العام ربحًا وغنيمة، والجهاد في الحق والهداية- على توعر طريقهما وما فيه من مصاعب ومتاعب- راحة ولذة تنفذ إلى أعماق القلوب، فتشعر بأدوائها وتتغلغل في مظاهر هذا المجتمع وتعرف ما يعكر على الناس صفاء عيشهم ومسرة حياتهم وما يزيد هذا الصفاء، ويضاعف تلك المسرَّة".
ثم يقول رحمه الله: "وأعتقد أن العمل الذي لا يعدو نفعه صاحبه، ولا تتجاوز فائدته عامله قاصرٌ ضئيل، وخير الأعمال وأجلها ذلك الذي يتمتع بنتائجه العامل وغيره من أسرته وأمته وبني جنسه، وبقدر شمول هذا النفع يكون جلاله وخطره وعلى هذه العقيدة سلكتُ سبيل المعلمين لأني أراهم نورًا ساطعًا يستنير به الجمع الكثير، ويجري في هذا الجمّ الغفير، وإن كان كنور الشمعة التي تضيء للناس باحتراقها".
وواضح أن الإمام يعرف هدفه جيدًا ومهمته بالنسبة للناس جميعًا، ومكانته بينهم، ودوره معهم، وضرورة هذا الدور كأمانة في رقبة المسلم، وهذا طريق استقاه من عمل الرسل والأنبياء ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: "خير الناس أنفعهم للناس، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن يسر على معسر يسر الله عليه".
لقد استدلت السيدة خديجة- رضي الله عنها- على صدق النبي صلى الله عليه وسلم بقولها: "كلا لن يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتغيث الملهوف وتعين على نوائب الدهر".
فهذه المفاهيم وتلك الكلمات إنما هي بداية لبعث جديد وتجديد للدعوة الإسلامية، وإحسان عرضها والانتفاع بها وهذا ما كان على مر السنين، فقد بدأت اليقظة الإسلامية ثم الصحوة الإسلامية، وولد الجهاد الحقيقي في سبيل الله بعد أن انصرفت الأمة عن رسالتها وقعدت عن واجباتها، ونامت وطال نومها، حتى أسقط اليهود- لعنهم الله- الخلافة وهي رأس الأمة، ثم استيقظت الأمة بقيادة الأبرار الصالحين الذين قدروا الموقف وأدركوا الحقيقة، فعادت الأمة مرة أخرى إلى شموخها وجهادها، فهي يقظة ما دامت على الحق ولن تموت ولن يستطيع مخلوق مهما كان أن يرد قضاء الله وقدره الذي قدّره أزلاً، وسطره في كتابه العزيز ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء).
ثم يقول الإمام- رحمه الله- متحدثًا عن الغاية التي يجب على كل إنسان أن يسعى إلى تحقيقها وهي رضوان الله ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ (آل عمران: من الآية 185).
ويقول: "وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرنو إليها الإنسان وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضاء الله عنه، فيدخله حظيرة قدسه، ويخلع عليه جلابيب أنسه، ويزحزحه عن جحيم عذابه، وعذاب غضبه"، ولذلك اختار الإمام الشعار الدقيق للتعبير عن الغاية والمصير فهي غاية كل إنسان فكان الشعار: الله غايتنا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
لقد كان في عصره يعيش بعض الغافلين على شعارات غريبة نابعة من عقول بعدت عن الطريق: يسقط فلان ويحيا فلان، ويعيش التوجه الفلاني.
معاني وألفاظ لا وزن لها، ولا قيمة لها، فإذا بالهتاف الصادق ينطلق ليحيي الموات ويوقظ النائم ويرد التائه: الله أكبر ولله الحمد.
لقد كان وما زال وسيظل ما بقيت السماوات والأرض أن الكبير هو الله، وأن العظيم هو الله، وأن المالك هو الله، وأن المحمود هو الله، وأن الإسلام وحده هو قارب النجاة من ركبه فقد نجا، ونحن ننادي بأعلى صوت لجميع المخلوقين: أيها الناس استجيبوا لربكم، هانت وذلت حياة يحجب المرء فيها عن ربه ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال: من الآية 42).
الناس: لا ملجأ لكم من الله إلا إليه فعودوا إلى ربكم واستقيموا على أمره، واتركوا هذا التيه فإنه لن يغني عنكم من الله شيئًا.
ثم يتحدث الإمام عن الطريق الموصل لما سبق أن بينه ويحصره في أمرين ثم يختار الأدوم والأنفع فيقول "والذي يقصد إلى هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين أولهما: طريق التصوف الصادق، الذي يتلخص في الإخلاص والعمل، وصرف القلب عن الاشتغال بالخلق خيرهم وشرهم وهو أقرب وأسلم.
والثاني: طريق التعليم والإرشاد، الذي يجامع الأول في الإخلاص والعمل، ويفارقه في الاختلاط بالناس ودرس أحوالهم وغشيان مجامعهم، ووصف العلاج الناجع لعللهم، وهذا أشرف عند الله وأعظم، ندب إليه القرآن العظيم، ونادى بفضله الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد رجح عندي الثاني- بعد أن نهجت الأول- لتعدي نفعه، وعظيم فضله، ولأنه أوجب الطريقين على المتعلم وأجملهما بمن فقه شيئًا ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)﴾ (التوبة).
وأحب أن يقرأ الناس- كل الناس- هذا الكلام الدقيق عن تقرير الحقائق وعدم التشنج من أنصاف المتعلمين الذي يندفعون في تعصب إلى النيل من الدعاة، واتهامهم بالباطل والزور ونقول لهم: إن كلمة التصوف التي وردت في كلام الإمام وقد عرّفها تعريفًا دقيقًا المراد بها: الجانب الروحي في حياة المسلم المنضبط بعقيدة أهل السنة والجماعة، وهذا بعيد كل البعد عن الانخراطات والخرافات والشطحات غير المتزنة ويجب التأني في قضية الإنكار من البعض على مجرد الاسم لأنه مجرد اصطلاح على علم بعينه، إنما الذي يجب أن ينظر إليه هو المضمون، وعلى المندفعين- بغير بينة- أن يعودوا إن كانوا جادين إلى فتاوى الإمام ابن تيمية رحمه الله وقد كتب مجلدين تحت عنوان التصوف، وفنده تفنيدًا دقيقًا ووضع كلمة الحق الصادقة، والواضعة الأمور في مواضعها الصحيحة، وكثير من العلماء الأجلاء الموثوق بعقيدتهم وعلمهم وفقههم كتبوا عن التصوف وفندوه كما فعل الإمام ابن تيمية رحمه الله.
ومجرد الإنكار بغير علم ولا بينة لاسم ما لا يكون تحقيقًا صحيحًا ولا علمًا نافعًا ينتفع به، بل هو أقرب شيء إلى عدم أداء الأمانة، ومع ذلك نقول لهم: الإمام البنا حين وضع رسائله التي بنى عليها الجماعة، وفكره الذي أقامها عليه وخطه الذي التزم به وسار فيه لم يكن من قريب أو بعيد له أدنى صلة بالصوفية أو غيرها، بل كان فكرًا سلفيًّا دقيقًا في الالتزام بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء من بعده من الخلفاء الراشدين الذين مثلوا العصر الذهبي لحسن استقبال هذا الحق ولحسن تطبيقه، فجاء الاستقبال على الفهم الصحيح الذي تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء التطبيق في أعلى درجات التوفيق لما فهموه بأمانة وصدق وإخلاص.
ثم يتحدث الإمام البنا عن واقع الأمة والأمراض التي ألمت بها فيقول: "وأعتقد أن قومي بحكم الأدوار السياسية التي اجتازوها والمؤثرات الاجتماعية التي مرت بهم، وبتأثير المدنية الغربية والشبه الأوروبية، والفلسفة المادية، والتقليد الإفرنجي؛ بعدوا عن مقاصد دينهم، ومرامي كتابهم، ونسوا مجد آبائهم، وآثار أسلافهم، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نسب إليه ظلمًا وجهلاً، وسترت عنهم حقيقته الناصعة البيضاء، وتعاليمه الحنيفية السمحة بحجج من الأوهام يحسر دونها البصر وتقف أمامهم الفكر، فوقع العوام في ظلمة الجهالة، والمتعلمون في بيداء حيرة وشك، أورث العقيدة فسادًا وبدل الدين إلحادًا".
أيها الأحباب.. هذه الرسالة لم يكتبها مؤرخ ولا رجل قضى طول عمره بين الكتب، لكن الذي كتبها طالب بدار العلوم السنة النهائية، لم يتجاوز عمره التاسعة عشرة ولذلك يجب علينا بحق- إن كنا جادين وهي بنصها موجودة في مذكرات الدعوة والداعية- يجب علينا أن نستخرجها من الكتاب، أن نسجلها بخطوط واضحة، وأن يحفظها الآباء والأبناء، وأن يدرسها الدارسون فهي بحق تلفت الأنظار وتنبه الضمائر وتعلمنا أن الإمام- رحمه الله- لم يكن إنسانًا عاديًا بل أنعم الله عليه وأعطاه ومنّ عليه بإخلاصه وصدقه "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها".
الإمام في هذه السن يتحدث حديث الواعي.. عن هذه الأمة وعن الظروف التي مرت بها والنتائج التي وصلت إليها، ويشير إلى أنهم ضحايا لظروف مرت بهم، ويجب التعامل معهم على هذا الأساس، إنهم ضحايا لظروف أكبر منهم ومن طاقاتهم، وهذا ما يحمّل الدعاة بالنسبة لهم مسئولية أكبر لقد حُرموا من التعليم، وحين تعلموا حُرموا من التعليم الصحيح.. إنهم ضحايا الفقر المنهك، والمرض المهلك، ضحايا الاستعمار الخبيث الذي سرق خيراتهم، وما زال يسرقها، وأكل حقوقهم وما زال يأكلها، ودمر بنيانهم، وما زال يدمره، إنهم عصابات أوروبا المستعمرة، وعصابات أمريكا الباغية وعصابات اليهود الآثمة المجرمة.
يقول الإمام البنا في ختام رسالته: "فكان أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان: خاص: وهو إسعاد أسرتي وقرابتي، وعام: وهو أن أكون مرشدًا معلمًا؛ إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار، قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم، ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة".
وقد أعددت لتحقيق الأول: معرفة بالجميل وتقدير للإحسان ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ (60)﴾ (الرحمن)، ولتحقيق الثاني من الوسائل الخلقية: الثبات والتضحية وهما ألزم للمصلحة من ظله، وسر نجاحه كله، وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقًا يزري به أو يشينه.
ثم يقول: (ذلك عهد بيني وبين ربي، أسجله على نفسي، وأشهد عليه أستاذي، في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير، وليل لا يطلع عليه إلا اللطيف الخبير ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح: من الآية 10).
هذا ما استطعنا أن ندونه من كلام الإمام مع تعليق مناسب عليه، ولقد وفّى الإمام فأحسن الوفاء وعاهد فالتزم بالعهد، وحبب الله إليه هذا الحق وزينه في قلبه، فانطلق به، وانطلق من حوله الأبرار فسمعت الدنيا كلمة الحق، وأقبل المخلصون الصادقون عليه، حتى لقي ربه راضيًا مرضيًا عنه.
اللهم أجزه عنا خير الجزاء، اللهم تقبله في الصالحين اللهم ارزقنا التوفيق والسداد واجعلنا من أهل دعوتك وحملة رسالتك، اللهم لا تفتنا بعدهم ولا تحرمنا أجرهم، واغفر اللهم لنا ولهم.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
نظراته في الإصلاح المستمدة من عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله..
يقول عنه أحد تلاميذه وهو الأستاذ المرشد عمر التلمساني رحمه الله: "إن كل من يقرأ رسائل الإمام الشهيد ليعجب العجب كله كيف ألهم الله هذا الداعية المخلص المتحرك، كيف ألهمه أن يضع أوسع المعاني في أوجز الكلمات، وبصورة واضحة وضوحًا لا لبس فيه ولا خفاء".
كان الإمام البنا مشغولاً منذ صغره يوم أن كان طالبًا بدار العلوم بأمر الإسلام والمسلمين، ويرقب أحوالهم، ويتأمل في سر بعدهم عن دينهم، ثم يرنو بخاطره وقلبه وعقله إلى أحوال الأمة الإسلامية يوم أن كانت تملأ الدنيا علمًا وعدلاً وجهادًا وصدقًا وإيمانًا بربها أولاً، وبحق الإنسان- كل الإنسان بصرف النظر عن دينه أو انتمائه- في الحياة الكريمة وفي الاستقرار وفي السعادة، وفي تمهيد الطريق له لمعرفة ربه الذي خلقه وسواه.
ولذلك حين طلب منه وهو في السنة الرابعة من دار العلوم أن يكتب موضوعًا في الإنشاء عنوانه هو (اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها).. فكتب كلامًا مرتبًا دقيقًا لا يقوله من هو في سنه بل يعجز الكبار عن الإتيان به، وذلك في تقديرنا لأنه صدق من سماه (الملهم الموهوب) رحمه الله وتقبله في الصالحين.
وقبل الدخول في إجابة الإمام نقول: إن هناك ثلاث حقائق توضح العلاقة بين الإنسان والنجاح في أي عمل وهي:
أولاً: وضوح ما أقدم عليه من عمل في وعيه.
ثانيًا: استغراقه بكل مشاعره فيه.
ثالثًا: إخلاصه التام له.
وهذه الركائز تمكنت بعمق من نفس الإمام من أول لحظة، وظلت تلازمه وتتمكن من أقطار نفسه حتى لقي ربه- رضي الله عنه- نعم لقد وهب نفسه وما يملك من طاقات ومشاعر لهذا الحق، لقد بلغ العمل للإسلام في وعيه مبلغًا جلّي كل غموض، وتخطى كل تساؤل، فعاشت قضية الإسلام والمسلمين بأجلى معانيها حية متوهجة في نفسه وحسه وعصبه ودمه وعروقه، عاطفة مشبوبة، وإيمان حي، جعله لا يهتم بطبع الكتب- ولو أراد لفعل- لكنه أيقن أن القرآن من غير أمة تحمله وتتمثله لا يستطيع أن يفعل شيئًا، ولما سُئل: لماذا لا تؤلف كتبًا؟ قال: أربي رجالاً حتى يرى الناس النظريات تتحول إلى واقع ملموس مجسد في بشر يسير على الأرض.
لقد تحرك القلم وسجل هذه الآمال التي تدل على نبوغ وصدق وانقياد لله وحده، واتباع لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، يقول رحمه الله: "أعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التي ترى سعادتها في إسعاد الناس وإرشادهم، وتستمد سرورها من إدخال السرور عليهم وذود المكروه عنهم وتعدّ التضحية في سبيل الإصلاح العام ربحًا وغنيمة، والجهاد في الحق والهداية- على توعر طريقهما وما فيه من مصاعب ومتاعب- راحة ولذة تنفذ إلى أعماق القلوب، فتشعر بأدوائها وتتغلغل في مظاهر هذا المجتمع وتعرف ما يعكر على الناس صفاء عيشهم ومسرة حياتهم وما يزيد هذا الصفاء، ويضاعف تلك المسرَّة".
ثم يقول رحمه الله: "وأعتقد أن العمل الذي لا يعدو نفعه صاحبه، ولا تتجاوز فائدته عامله قاصرٌ ضئيل، وخير الأعمال وأجلها ذلك الذي يتمتع بنتائجه العامل وغيره من أسرته وأمته وبني جنسه، وبقدر شمول هذا النفع يكون جلاله وخطره وعلى هذه العقيدة سلكتُ سبيل المعلمين لأني أراهم نورًا ساطعًا يستنير به الجمع الكثير، ويجري في هذا الجمّ الغفير، وإن كان كنور الشمعة التي تضيء للناس باحتراقها".
وواضح أن الإمام يعرف هدفه جيدًا ومهمته بالنسبة للناس جميعًا، ومكانته بينهم، ودوره معهم، وضرورة هذا الدور كأمانة في رقبة المسلم، وهذا طريق استقاه من عمل الرسل والأنبياء ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: "خير الناس أنفعهم للناس، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن يسر على معسر يسر الله عليه".
لقد استدلت السيدة خديجة- رضي الله عنها- على صدق النبي صلى الله عليه وسلم بقولها: "كلا لن يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتغيث الملهوف وتعين على نوائب الدهر".
فهذه المفاهيم وتلك الكلمات إنما هي بداية لبعث جديد وتجديد للدعوة الإسلامية، وإحسان عرضها والانتفاع بها وهذا ما كان على مر السنين، فقد بدأت اليقظة الإسلامية ثم الصحوة الإسلامية، وولد الجهاد الحقيقي في سبيل الله بعد أن انصرفت الأمة عن رسالتها وقعدت عن واجباتها، ونامت وطال نومها، حتى أسقط اليهود- لعنهم الله- الخلافة وهي رأس الأمة، ثم استيقظت الأمة بقيادة الأبرار الصالحين الذين قدروا الموقف وأدركوا الحقيقة، فعادت الأمة مرة أخرى إلى شموخها وجهادها، فهي يقظة ما دامت على الحق ولن تموت ولن يستطيع مخلوق مهما كان أن يرد قضاء الله وقدره الذي قدّره أزلاً، وسطره في كتابه العزيز ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء).
ثم يقول الإمام- رحمه الله- متحدثًا عن الغاية التي يجب على كل إنسان أن يسعى إلى تحقيقها وهي رضوان الله ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ (آل عمران: من الآية 185).
ويقول: "وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرنو إليها الإنسان وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضاء الله عنه، فيدخله حظيرة قدسه، ويخلع عليه جلابيب أنسه، ويزحزحه عن جحيم عذابه، وعذاب غضبه"، ولذلك اختار الإمام الشعار الدقيق للتعبير عن الغاية والمصير فهي غاية كل إنسان فكان الشعار: الله غايتنا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
لقد كان في عصره يعيش بعض الغافلين على شعارات غريبة نابعة من عقول بعدت عن الطريق: يسقط فلان ويحيا فلان، ويعيش التوجه الفلاني.
معاني وألفاظ لا وزن لها، ولا قيمة لها، فإذا بالهتاف الصادق ينطلق ليحيي الموات ويوقظ النائم ويرد التائه: الله أكبر ولله الحمد.
لقد كان وما زال وسيظل ما بقيت السماوات والأرض أن الكبير هو الله، وأن العظيم هو الله، وأن المالك هو الله، وأن المحمود هو الله، وأن الإسلام وحده هو قارب النجاة من ركبه فقد نجا، ونحن ننادي بأعلى صوت لجميع المخلوقين: أيها الناس استجيبوا لربكم، هانت وذلت حياة يحجب المرء فيها عن ربه ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال: من الآية 42).
الناس: لا ملجأ لكم من الله إلا إليه فعودوا إلى ربكم واستقيموا على أمره، واتركوا هذا التيه فإنه لن يغني عنكم من الله شيئًا.
ثم يتحدث الإمام عن الطريق الموصل لما سبق أن بينه ويحصره في أمرين ثم يختار الأدوم والأنفع فيقول "والذي يقصد إلى هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين أولهما: طريق التصوف الصادق، الذي يتلخص في الإخلاص والعمل، وصرف القلب عن الاشتغال بالخلق خيرهم وشرهم وهو أقرب وأسلم.
والثاني: طريق التعليم والإرشاد، الذي يجامع الأول في الإخلاص والعمل، ويفارقه في الاختلاط بالناس ودرس أحوالهم وغشيان مجامعهم، ووصف العلاج الناجع لعللهم، وهذا أشرف عند الله وأعظم، ندب إليه القرآن العظيم، ونادى بفضله الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد رجح عندي الثاني- بعد أن نهجت الأول- لتعدي نفعه، وعظيم فضله، ولأنه أوجب الطريقين على المتعلم وأجملهما بمن فقه شيئًا ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)﴾ (التوبة).
وأحب أن يقرأ الناس- كل الناس- هذا الكلام الدقيق عن تقرير الحقائق وعدم التشنج من أنصاف المتعلمين الذي يندفعون في تعصب إلى النيل من الدعاة، واتهامهم بالباطل والزور ونقول لهم: إن كلمة التصوف التي وردت في كلام الإمام وقد عرّفها تعريفًا دقيقًا المراد بها: الجانب الروحي في حياة المسلم المنضبط بعقيدة أهل السنة والجماعة، وهذا بعيد كل البعد عن الانخراطات والخرافات والشطحات غير المتزنة ويجب التأني في قضية الإنكار من البعض على مجرد الاسم لأنه مجرد اصطلاح على علم بعينه، إنما الذي يجب أن ينظر إليه هو المضمون، وعلى المندفعين- بغير بينة- أن يعودوا إن كانوا جادين إلى فتاوى الإمام ابن تيمية رحمه الله وقد كتب مجلدين تحت عنوان التصوف، وفنده تفنيدًا دقيقًا ووضع كلمة الحق الصادقة، والواضعة الأمور في مواضعها الصحيحة، وكثير من العلماء الأجلاء الموثوق بعقيدتهم وعلمهم وفقههم كتبوا عن التصوف وفندوه كما فعل الإمام ابن تيمية رحمه الله.
ومجرد الإنكار بغير علم ولا بينة لاسم ما لا يكون تحقيقًا صحيحًا ولا علمًا نافعًا ينتفع به، بل هو أقرب شيء إلى عدم أداء الأمانة، ومع ذلك نقول لهم: الإمام البنا حين وضع رسائله التي بنى عليها الجماعة، وفكره الذي أقامها عليه وخطه الذي التزم به وسار فيه لم يكن من قريب أو بعيد له أدنى صلة بالصوفية أو غيرها، بل كان فكرًا سلفيًّا دقيقًا في الالتزام بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء من بعده من الخلفاء الراشدين الذين مثلوا العصر الذهبي لحسن استقبال هذا الحق ولحسن تطبيقه، فجاء الاستقبال على الفهم الصحيح الذي تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء التطبيق في أعلى درجات التوفيق لما فهموه بأمانة وصدق وإخلاص.
ثم يتحدث الإمام البنا عن واقع الأمة والأمراض التي ألمت بها فيقول: "وأعتقد أن قومي بحكم الأدوار السياسية التي اجتازوها والمؤثرات الاجتماعية التي مرت بهم، وبتأثير المدنية الغربية والشبه الأوروبية، والفلسفة المادية، والتقليد الإفرنجي؛ بعدوا عن مقاصد دينهم، ومرامي كتابهم، ونسوا مجد آبائهم، وآثار أسلافهم، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نسب إليه ظلمًا وجهلاً، وسترت عنهم حقيقته الناصعة البيضاء، وتعاليمه الحنيفية السمحة بحجج من الأوهام يحسر دونها البصر وتقف أمامهم الفكر، فوقع العوام في ظلمة الجهالة، والمتعلمون في بيداء حيرة وشك، أورث العقيدة فسادًا وبدل الدين إلحادًا".
أيها الأحباب.. هذه الرسالة لم يكتبها مؤرخ ولا رجل قضى طول عمره بين الكتب، لكن الذي كتبها طالب بدار العلوم السنة النهائية، لم يتجاوز عمره التاسعة عشرة ولذلك يجب علينا بحق- إن كنا جادين وهي بنصها موجودة في مذكرات الدعوة والداعية- يجب علينا أن نستخرجها من الكتاب، أن نسجلها بخطوط واضحة، وأن يحفظها الآباء والأبناء، وأن يدرسها الدارسون فهي بحق تلفت الأنظار وتنبه الضمائر وتعلمنا أن الإمام- رحمه الله- لم يكن إنسانًا عاديًا بل أنعم الله عليه وأعطاه ومنّ عليه بإخلاصه وصدقه "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها".
الإمام في هذه السن يتحدث حديث الواعي.. عن هذه الأمة وعن الظروف التي مرت بها والنتائج التي وصلت إليها، ويشير إلى أنهم ضحايا لظروف مرت بهم، ويجب التعامل معهم على هذا الأساس، إنهم ضحايا لظروف أكبر منهم ومن طاقاتهم، وهذا ما يحمّل الدعاة بالنسبة لهم مسئولية أكبر لقد حُرموا من التعليم، وحين تعلموا حُرموا من التعليم الصحيح.. إنهم ضحايا الفقر المنهك، والمرض المهلك، ضحايا الاستعمار الخبيث الذي سرق خيراتهم، وما زال يسرقها، وأكل حقوقهم وما زال يأكلها، ودمر بنيانهم، وما زال يدمره، إنهم عصابات أوروبا المستعمرة، وعصابات أمريكا الباغية وعصابات اليهود الآثمة المجرمة.
يقول الإمام البنا في ختام رسالته: "فكان أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان: خاص: وهو إسعاد أسرتي وقرابتي، وعام: وهو أن أكون مرشدًا معلمًا؛ إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار، قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم، ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة".
وقد أعددت لتحقيق الأول: معرفة بالجميل وتقدير للإحسان ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ (60)﴾ (الرحمن)، ولتحقيق الثاني من الوسائل الخلقية: الثبات والتضحية وهما ألزم للمصلحة من ظله، وسر نجاحه كله، وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقًا يزري به أو يشينه.
ثم يقول: (ذلك عهد بيني وبين ربي، أسجله على نفسي، وأشهد عليه أستاذي، في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير، وليل لا يطلع عليه إلا اللطيف الخبير ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح: من الآية 10).
هذا ما استطعنا أن ندونه من كلام الإمام مع تعليق مناسب عليه، ولقد وفّى الإمام فأحسن الوفاء وعاهد فالتزم بالعهد، وحبب الله إليه هذا الحق وزينه في قلبه، فانطلق به، وانطلق من حوله الأبرار فسمعت الدنيا كلمة الحق، وأقبل المخلصون الصادقون عليه، حتى لقي ربه راضيًا مرضيًا عنه.
اللهم أجزه عنا خير الجزاء، اللهم تقبله في الصالحين اللهم ارزقنا التوفيق والسداد واجعلنا من أهل دعوتك وحملة رسالتك، اللهم لا تفتنا بعدهم ولا تحرمنا أجرهم، واغفر اللهم لنا ولهم.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)