بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 سبتمبر 2010

الإسلام في مواجهة الظلم والطغيان[30/09/2010][17:22 مكة المكرمة]


رسالة من: أ. د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن والاه.. وبعد
فقد اقتضت سنة الله في خلقه أن يكون شأن المسلمين مع الأمم الجاحدة بالله والمستكبرة على شرع الله، مثل كفتي ميزان إذا رجحت إحداهما طاشت الأخرى، فإذا كان المسلمون صادقين مع الله أوفياء في تنفيذ منهاجه وشرعه هيَّأ الله لهمم أسباب لعزة والمنعة والنصر ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (الأنبياء: من الآية 18)، وإذا ضيَّعوا شرائع الله وأحكامه وشاع فيهم المنكر وغاب بينهم المعروف، انتشر الظلم والفساد وطغى عليهم غيرهم بالظلم والقهر والإذلال.

وإذا كان الكثير من المسلمين قد غضبوا- ولهم الحق في ذلك- لقيام بعض المنحرفين بالتهديد بحرق المصحف، إلا أنه كان يجب عليهم أن يدركوا أنهم حين انصرفوا عن شرع الله وتعاليمه وساد بينهم الظلم دبَّ فيهم الوهن وحب الدنيا، وصدق رسول الله صلى الله عليهم في حديثه: "..ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله. قال: حب الدنيا وكراهية الموت". (رواه أبو داوود).

هلاك الأمم بسب الظلم والطغيان:
الظلم نوعان؛ ظلم الناس لأنفسهم بالفسق والفجور والخروج عن طاعة الله والتظالم فيما بينهم، وظلم الحكام لشعوبهم على نحوٍ يهدر حقوقهم ويذهب بعزتهم وكرامتهم مما يجعل الأمة ضعيفة غير صالحة للبقاء فيسهل على الأعداء هزيمتها واستعبادها ويصدق عليها قول الله عز وجل: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)﴾ (الأنبياء: 11).

إن الدول يمكن أن تبقى مع الكفر إن عدلت ولا تبقى مع الظلم وإن أسلمت، إذ ليس من سنته تعالى إهلاك الدولة بكفرها فقط، ولكن إذا انضم للكفر ظلم حكامها للرعية وتظالم الناس فيما بينهم يقول عز وجل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾ (هود).

ومن آثار الظلم خراب البلاد اقتصاديًّا وعمرانيًّا وزهد الناس في العمل والإنتاج وسعيهم الدائم للفرار والخروج منها؛ مما يجعل الدولة ضعيفةً أمام أعدائها الخارجيين وإن بقيت قوة الطغيان على مواطنيها الضعفاء والمظلومين، يقول تعالى: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45)﴾ (الحج).

من عقلية الوهن إلى عقلية العزة:
لقد فشل العديد من النظم العربية والإسلامية في النهوض بشعوبهم بسبب علاقات التبعية وبحكم الوهن وأصبحت تتصرف في أحيان كثيرة ضد مصالح الأمة وإن طلبت لها الدواء أحيانًا أخطأت وطلبت الداء بحكم عقلية الوهن، وأصبحت أرض العروبة والإسلام تعاني من المشاكل لأن الإرادة غابت وتُركت بيد الأعداء من الصهاينة وأعوانهم، ولقد نسوا أو تناسوا عدوهم الحقيقي الجاثم على صدورهم والمتمثل في الكيان الصهيونى وصوبوا أسلحتهم تجاه شعوبهم هروبًا من مواجهة هؤلاء الصهاينة، فلم يحققوا للأمة وحدةً ولا نهضة، وتغافلوا عن أمر الله بالجهاد في سبيله بالمال والنفس لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذي كفروا السفلى فيقول تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41)﴾ (التوبة: 41).

فما أحوج المسلمين اليوم إلى عقلية العزة وإلى تحصيل كل أسباب القوة فهم يواجهون صهينةً عالميًّا لا تعرف إلا لغة القوة فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد ويقابلوا الريح بالإعصار، وما أحوجهم أن يدركوا أن الإصلاح والتغيير الذي تنشده الأمة لا يمكن تحقيقه إلا بالجهاد والتضحية وصياغة جيل مجاهد يحرص على الموت كما يحرص الأعداء على الحياة.

المقاومة هي الحل الوحيد:
لقد انتهت فترة المفاوضات غير المباشرة ولم يجنِ الفلسطينيون منها شيئًا ولم يتعلم المفاوض الفلسطيني منها درسًا ولم يأخذ منها عبرة، وها هي السلطة الفلسطينية- وقد عادت إلى التفاوض مع الصهاينة-توشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة على طاولة المفاوضات المباشرة.

ويتأهب الشعب الفلسطيني لانتفاضة ثالثة في ذكرى الانتفاضة الثانية، ونرى هذا الشعب الآن يغلي كالمرجل في الضفة وغزة ضد الصهاينة ومن يدعمونهم.
إن أمريكا لن تستطيع فرض تسوية على الشعب الفلسطيني مهما امتلكت من المال وأسباب القوة فها هي تنسحب مهزومة ومثخنة بالجراح في العراق، وهي على وشك الانسحاب من أفغانستان، فالطائرات والصواريخ والتكنولوجيا العسكرية الحديثة تنهزم أمام إرادات الشعوب إذا ما أصرَّت على المقاومة وما حرب غزة ولبنان منا ببعيد.

فالمقاومة هي الحل الوحيد أمام الغطرسة والطغيان الصهيو أمريكي، ويكفي أن الشعوب العربية والإسلامية تقف جميعها خلف المقاومة بالدعم والتأييد، والشعوب تعي جيدًا مَن هم المقاومون ومَن هم الذي باعوا القضية وساوموا عليها، ونقول لإخواننا المجاهدين في غزة اصبروا وصابروا ورابطوا واعلموا أن الله معكم ولي يتركم أعمالكم ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)﴾ (آل عمران: 139).

سقوط أمريكا وزوال الكيان الصهيوني:
وإذا كان الاتحاد السوفيتي قد سقط بطريقةٍ درامية، فإن الأسباب المؤدية إلى انهيار أمريكا هي أقوى بكثيرٍ من تلك التي حطمت الإمبراطورية السوفيتية لأن الأمة التي لا تعلي من شأن الفضائل الأخلاقية والقيم الإنسانية لا يمكن أن تقود البشرية ولن تغني عنها أموالها إذا جاء أمر الله كما حدث مع الأمم السابقة، وها نحن نرى أمريكا تعيش الآن بداية النهاية وتسير نحو هلاكها: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (45)﴾ (الأنعام)، ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا﴾ (ق: من الآية 36).

أما الصهاينة فيكفي شهادة مارتين- كرافيلد أستاذ التاريخ في الجامعة العبرية والمتخصص في الإستراتيجية العسكرية في مقابلةٍ مع الصحفي "أيالون"، والمنشور بصحيفة "امتساع خضيرة" بتاريخ 8/3/2002م، وكان السؤال الموجه له: ماذا سيحدث للجيش الصهيوني إذا دُعي لمقاتلة جيش نظامي كسوريا أو لبنان؟ فأجاب: ظني أنه سيهرب فإذا ما انفجرت حرب مثل حرب 1973م فإن غالبية الجيش سيضع رجليه على ظهره ويولي هاربًا، وإن حرب الصهاينة ضد الضعفاء ما زالت مستمرة.. منذ أكثر من عشرين عامًا ومنذ اقتحام لبنان وقد تحوَّل الجيش إلى مجموعةٍ من الجبناء والتعساء، وأضاف كرفيلد: عندما نكون في الجنائز العسكرية: فإننا نولول وننوح (نياحة)، بينما الفلسطينيون يطالبون بالانتقام في جنائزهم.

الأمة المسلمة تمتلك إمكانات الإصلاح والتغيير:
إن الأمة المسلمة تمتلك أسباب الإصلاح والتغيير ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ (فاطر: 32)، فلديها الشرعة والمنهاج ومعالم الطريق ولديها النموذج التطبيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في السيرة النبوية التي تُشكِّل وسيلةَ الإيضاح المُعينة لكيفية التعامل مع قيم الكتاب والسنة في كل زمان ومكان يُضاف إلى ذلك المخزون التاريخي من تجارب النبوات السابقة وأحوال الأمم وكيفية سقوطها أو نهوضها.

إن سلامةَ الأفكار أو المنظومة الفكرية هي أساس التغيير لذلك فإن الله تعالى اعتبر الجهاد بالقرآن وبناء الشوكة الفكرية هو أعلى أنواع الجهاد، وإن التغيير الحقيقي تم بالقرآن (الفكرة)، فقال تعالى: ﴿وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: من الآية 52).

ولذلك فإن الصورة المزيفة للتغيير والتحويل حتى ولو وصلت إلى السلطة السياسية والدولة دون امتلاك المقومات الفكرية تبقى معزولةً عن ضمير الأمة وعاجزة عن التغيير مهما امتدَّ بها الزمن.

وعد الله بالتمكين:
يقول تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)﴾ (القمر) تقدم هذه الآية وعدًا قرآنيًّا للمؤمنين بأنهم سوف يهزمون جمع الأعداء في المستقبل، وسوف تولى هذه الجمع الدبر، ولقد تلقى الصحابة هذا الوعد القرآني وهم مستضعفون في مكة معذبون مضطهدون فيها، لقد كانت القوة والغلبة وقت نزول الآية التي أطلقت ذلك الوعد لقادة مكة وزعماؤها الذين كان بيدهم الأمر والمال والجاه والقرار، وكان الناس أتباع لهم بينما كان المسلمون في مكة أقلية ضعفاء لا يملكون مالا ولا سلطانا ولا متاعًا، وبعد سنين قليلة من الهجرة جاء إنجاز الله لوعده القرآني الذي أطلقه قبل أكثر من تسع سنوات من الهجرة، وكان ذلك في غزوة بدر، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نزل قوله تعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ جعلتُ أقول: أي جمع سيُهزم؟ حتى كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُثَّبِتْ في الدرع وهو يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ فعرفتُ تأويلها يومئذ... فهل يمكننا مقارنة ذلك بما حدث في غزة؟!!

وها نحن اليوم نرى مدى حاجة الأمة إلى الوحدة وإلى الترابط وإلى حسن الإعداد وقبل كل ذلك اللجوء إلى الله تعالى، فيا أمة الإسلام اتحدي، ويا أبناء فلسطين توحدوا جميعًا أمام الأعداء الذين يمكرون بكم واعلموا أن الله خير الماكرين، وأنكم بالله منتصرون وأن الإسلام قادرٌ على مواجهة الظلم والطغيان، ولنعلم جميعًا أن نتيجة المواجهة محسومة سلفًا وقررها الله عز وجل في قوله: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد: 17)، وفي قوله: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ(173)﴾ (الصافات).

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

د. نصر فريد واصل: تزوير الانتخابات من الكبائر[29/09/2010][21:25 مكة المكرمة]


أكد فضيلة الدكتور نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية السابق أن تزوير نتيجة الانتخابات والعبث بإرادة الأمة من الكبائر التي حرَّمها الإسلام.

ودعا إلى دعم حقِّ الإخوان المسلمين في العمل السياسي، والتصريح لهم بتكوين حزب أو جمعية تكون للاستفادة من إمكانياتهم وقدراتهم؛ لتحقيق الإصلاح في مصر.

وطالب فضيلته في حديثٍ لـ(إخوان أون لاين) الشعب المصري بالتصدي لأي تزوير في الانتخابات المقبلة، مستشهدًا بحديث الرسول صلي الله عليه وسلم: "الساكت على الحق شيطان أخرس".

وكشف أن الحزب الوطني بأسيوط عرض عليه تولي منصب أمانة اللجنة ٍالدينية للحزب بالمحافظة إلا أنه رفض؛ خوفًا من أن يتم استخدامه بوقًا دعائيًّا للحزب، مؤكدًا أن له العديد من التحفظات على العمل الحزبي في مصر؛ لذا يرفض الانضمام لأي حزب.

وأبدى د. واصل استعداده لخوض الانتخابات البرلمانية، إذا توافرت فيها الشروط التي تضمن نزاهة العملية الانتخابية، وتناول الحديث شئون الأزهر، وقضية التطبيع والمقاومة، فإلى تفاصيل الحوار.

الانتخابات والإخوان
* نستعد لاستقبال الانتخابات البرلمانية وما تشهده غالبًا من تزوير أو مجاملات بغير حقٍّ، فما رأيكم في ذلك؟
** التزوير في الانتخابات كبيرة من أشد الكبائر في الدين، فضلاً عن كونه جريمة سياسية، كما أن مجاملة المرشح وإعطاءه صوتًا لا يستحقه، أحد صور الغش والخداع والكذب، ولما سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم فيما معناه أن يكون المسلم به صفات غير حميدة من زنا أو سرقة أو غيرها قال: "نعم" ولكن سُئل: هل يكذب المسلم؟ قال: "لا" فالمسلم الحقيقي لا يكذب ولا يزِّور، ويجب كشف هذا التزوير بشكل أو بآخر؛ لأن الساكت على ذلك آثم، بنص الحديث: "الساكت على الحقِّ شيطان أخرس".

* وكيف ترون مشاركة بعض الحركات الإسلامية في العملية السياسية، وتحديدًا الإخوان المسلمين؟
** الحقيقة أن جماعة الإخوان كيان كبير ولهم دورهم وتأثيرهم في المجتمع، وأنا أطالب النظام بإعطائهم الشرعية بشكلٍ أو بآخر، سواء من خلال جمعية أو حزب أو غيره؛ لأنه لا بد من إدراجهم ضمن العمل السياسي العام، والاستفادة من قدراتهم السياسية والتنظيمية؛ لأن هذا أفضل للبلد كله.

ثم أليس الإخوان من أفراد الشعب المصري وبالتالي ما يسري على هذا الشعب يسري عليهم، سواء في تأسيس الأحزاب أو الجمعيات وخلافه؟! لأن هذا حقٌّ أصيل لكل مصري بنص الدستور.

* ألم تفكرون يومًا في الانضمام لأي حزب من الأحزاب؟
** لم يحدث هذا مطلقًا ولم أفكر أبدًا في الانضمام للحزب الوطني أو غيره؛ لأنني لدي تحفظ على النظام الحزبي في مصر، فهو قائم على التنافس على المناصب دون مراعاة الاختلاف الطبيعي والمصلحة، بمعنى أن هناك كثيرين يرون أن الغاية تبرر الوسيلة، ولكن في الإسلام الوضع مختلف، فالاختلاف للمصلحة العامة ولصالح الأمة، وهذا يتحقق من خلال ما أقره الإسلام في مبدأ الشورى والعمل بمبدأ أهل الحل والعقد.

* وهل عرض عليكم أحد منصبًا في الحزب الوطني من قبل؟
** بالفعل حدث هذا وتلقيتُ عرضًا من مسئولين تولي أمانة اللجنة الدينية بالحزب الوطني في محافظة أسيوط، عندما كنت بجامعة الأزهر فرع أسيوط، ولكن رفضت لأنني وجدت أن ذلك سيكون بمثابة دعاية للحزب الوطني، ولن تزيد عن أن يكون المرء بوقًا دعائيًّا لحزب ما، وأنا أرفض ذلك وأتحفظ على النظام الحزبي بشكلٍ عام كما ذكرت لك.

* وعن خوض الانتخابات هل فكرتم بخوضها سواء الشورى أو الشعب؟
** الحقيقة طلب مني البعض الترشح مستقلاً عن دائرتي بمحافظة الغربية، ولكن رفضت.

* ولماذا رفضتم؟
** الحقيقة ليس هناك أي ضمانات لانتخابات نزيهة وتتمتع بالشفافية، فكيف تشارك في انتخابات يمارس فيها التزوير وأنت تلعن هذا السلوك.

* معنى ذلك أنه لو توفرت هذه الضمانات من الممكن أن ترشح نفسك؟
** نعم من الممكن أن أفكر في ذلك ولم لا.. فهذا مكان من الممكن أن يقدِّم فيه الإنسان خدمة للإسلام والمسلمين.

* وكيف ترون استغلال المؤسسات الدينية الرسمية في الدعاية لأحزاب سياسية بعينها؟
** هذا لا يجوز بالطبع، فالمؤسسات الدينية لا تخضع لشخص ولكن هي مؤسسة دورها هو توجيه الناس نحو الاختيار الصحيح للأفراد الذين يستحقون ذلك ويقدِّمون خدمة حقيقية للمجتمع؛ وذلك دون مجاملة لأحد أو لحزب؛ لأنها رسالة يسأل عنها الإنسان أمام ربه.

الأزهر

* بمناسبة الحديث عن الانتخابات هل من الممكن اختيار شيخ الأزهر بالانتخاب وعودة هيئة كبار العلماء؟
** أنا أرفض نظام التكليف الحالي؛ لأن ذلك من شأنه أن يسيء للأزهر؛ حيث سيتم التعامل مع المنصب باعتباره منصبًا سياسيًّا، ويكون هناك أكثر من شخص يتنافس عليه وبالتالي لا نضمن الوسائل المتبعة في الوصول للمنصب، وهذا يمكنه الإساءة للأزهر الرمز والدور والتاريخ، ولكن ما يجب فعله هو حسن الاختيار من العلماء بناء على حسن الأداء دون التجريح في أحد.

* وكيف تقيمون دور الأزهر في السنوات الأخيرة؟
** الحقيقة أن الأزهر تراجع كثيرًا، قياسًا إلى دوره في السنوات الماضية، فكلنا يعرف ما هو قدر الأزهر في العالم الإسلامي، وما هي نظرة المسلمين له في الدول الإسلامية، فهو مؤسسة دينية وتربوية عريقة، وبالتالي الحفاظ عليها مسئولية كبيرة.

والتراجع الذي نشهده حاليًّا بدأ من التعليم الأزهري، حيث المناهج الدينية التي تعرضت كثيرًا للعبث بها فتم تقليص المواد الدينية بشكل فجٍّ، وأصبح خريج الأزهر لا يدري الكثير من أمور دينه وثقافته ووعيه الديني محدود للغاية.

وللأسف فإن البداية الحقيقية لهذا التراجع بدأت تقوى حركتها منذ الثمانينيات وليس الآن فقط، وأصبحت واضحة جدًّا الآن.

* وهل كان لذلك التراجع مساهمة في فوضى الفتاوى التي نشهدها حاليًّا؟
** هذا السيل الذي أشرت إليه من الفتاوى ليس في صالح الإسلام والمسلمين؛ لأنه يترك المسلم في حيرة من أمره ولا يعرف مِنْ مَنْ يأخذ بفتوى، فلا يوجد تنسيق بين مَن يصدرون الفتاوى والمناط بهم الفتوى، وهذه مشكلة كبيرة.

الشيء الآخر يجب أن يعرف الجميع أن الفتوى هي نقل الحكم عن الله، وبالتالي تكون المسألة خطيرة للغاية ومسئولية كبرى، ومن هنا لا بد لمَن يتصدى لها أن يكون أهل علم ويحق له الاجتهاد.

ولا بد أن يعرف الجميع أن تولي المنصب وحده ليس كافيًا لإصدار الفتوى، ولكن لا بدّ من توافر شروط فيمن يتصدى للفتوى، وأنا هنا أقصد المتخصصين في العلوم التي تؤهِّل للفتوى كالفقه والشريعة، وألا يكون التخصص بعيدًا عن مجال الفتوى.

وبالنسبة لمن يحملون درجة الدكتوراه، فالشهادة العلمية وحدها لا تكفي للإفتاء ولكن يجب الاطلاع والبحث قبل التجرؤ عليها.

* أعلن الأزهر مؤخرًا عن تخصيص فصل في بعض المعاهد لدراسة الفقه الإسلامي بشموله، فهل ترون في ذلك خطوةً لتصحيح مسار الأزهر بعد تولي الإمام أحمد الطيب؟
** بالتأكيد هي محاولة جادة إلا أنها محدودة، ولكنها تحاول العودة إلى الأصول الأزهرية الحقيقية، خاصة أن الفكرة تقوم على تخصيص فصل واحد بعدد من المعاهد وليس كل المعاهد، ويتم وضع معايير وشروط معينة لاختيار طلاب هذا الفصل، وسوف يدرس الطلاب- من خلاله- التراث الإسلامي؛ للحفاظ على تراث الأزهر التعليمي.

وهذا النظام كان معمولاً به من قبل وبعد تولي د. أحمد الطيب بدأ يتخذ خطوات في الاتجاه الصحيح وهذا الإجراء يأتي في هذا السياق.

* فكيف إذن يستعيد الأزهر سيرته الأولى في رأيكم؟
** هذا يحتاج إلى مزيد من الجهود والإخلاص وصدق النوايا وتوحيد العمل والرؤية؛ لأن الخلافات هي السبب الرئيسي فيما يحدث، بمعنى أن هناك قضايا صدرت فيها قرارات دون أن تحوز رضا عدد كبير من أبنائه، وهو ما أدَّى إلى إنشاء جبهة علماء الأزهر، وبالتالي وجود مزيد من التعاون وتبادل الآراء ووجهات النظر قبل صدور القرار، ونتمنى أن يحدث هذا في عهد د. أحمد الطيب وهناك مؤشرات تبشر بالخير.

* وما تقييمكم لمواقف الأزهر في مختلف الشئون خاصة السياسية؟
** بالنسبة لهذا الجانب فهناك العديد من المواقف التي صدرت عن الأزهر ولم يرض عنها الغالبية، مثل الموقف من مشكلة الحجاب في فرنسا وبعض الدول الأوربية.

وكذلك إجازة استقبال الحاخامات اليهود؛ فلا يمكن التعامل مع هؤلاء القتلة بهذا الترحاب، وبناءً على ما سبق يجب التمعُّن والتريث في القرارات التي تصدر عن الأزهر؛ لأن هذه المؤسسة لها تاريخها وبريقها ومكانتها في نفوس المسلمين.

وعندما كنت في منصب المفتي رفضت مؤتمر الحاخامات وكان هذا المؤتمر بدعوة من شيخ الأزهر السابق محمد طنطاوي، وكان الرفض نوعًا من الاحتجاج على الممارسات الصهيونية بالأراضي الفلسطينية والمستمرة حتى الآن ضد أهلنا في فلسطين.

التطبيع والمقاومة
* بذكر مسألة الحاخامات، فأنتم أصحاب فتوى شهيرة تحرِّم التطبيع كليًّا.
** نعم فأنا أرفض التطبيع تمامًا مع الكيان الصهيوني، وأرى أن أي تعامل معه من شأنه أن يقويه ويفيده، ولأنه عدو فإن أي تعامل يقوي المحتل ويضعف المسلمين من قبيل التطبيع التجاري والاقتصادي أو في أي مجال آخر فهو تعامل حرام شرعًا.

كما أنه يعد عدم اكتراث بالشرع وبمصلحة الأمة كلها، فهذا العدو لا يزال يحتل بلاد المسلمين ويعامل أهلها معاملة أقل ما يقال فيها أنها غير إنسانية.

لذا فقد أفتيت بضرورة مقاطعة الشركات التي تتعاون مع الكيان الصهيوني أو التي لها علاقة به من قريب أو بعيد باستثناء الشركات التي نشأت برأسمال وبإشراف وطني ولا تربطها علاقة بهذا الكيان وتعمل تحت أسماء معينة للاستفادة من الاسم التجاري، والمعروف للجميع أن التعاون الاقتصادي مع هذا الكيان البغيض شر كله، وأن ما يقال حول أن هناك مصلحة اقتصادية للوطن غير صحيح.

* هناك البعض يحاول من آن لآخر الربط بين المقاومة والإرهاب، فكيف ترى ذلك؟
** المقاومة واجب ديني ووطني؛ لأنها حقٌّ من حقوق الدفاع عن النفس ورد كيد المعتدي وتحرير الأرض والحفاظ على النفس والشرف، وأنا هنا أطالب العالم العربي والإسلامي بدعم المقاومة في كل قطر إسلامي؛ حتى يتم تحرير الأرض وطرد المحتل، ولن يقوى العالم الإسلامي على فعل ذلك إلا بوحدة الصف، وإظهار القوة الحقيقية للمسلمين؛ لأن استمرار الحال على ما هو عليه سوف يؤدي إلى تآكل العالم الإسلامي.





الأحد، 26 سبتمبر 2010

أيها الأحباب.. الإمام البنا الداعية والمربي دخل التاريخ من أوسع أبوابه (2)


الشيخ محمد عبد الله الخطيب
حينما نتحدث عن الأئمة الأعلام الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه- ونحسب أن إمامنا رحمه الله من بينهم- لا يدور في ذهن القارئ أننا نقدِّس أحدًا أو نضعه في مرتبة فوق غيره من الناس، فنحن والحمد لله من أبعد الناس عن تقديس الأشخاص؛ لأن هذا الأمر ممنوع في الإسلام، وقد نهى عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بصراحة تامة، فقال: "لا تعظِّموني كما تفعل الأعاجم، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة"، لكننا نحب ونقدِّر كل داعية أو مصلح خدم دينه أو دافع عن وطنه وبذل في سبيل إعلاء الحق كل غالٍ ورخيص، نحن جميعًا كمسلمين نحب ونقدِّر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدين، ونحب ونقدِّر أهل بدر وأهل بيعة الرضوان.

ونحب ونقدِّر جميع الصحابة؛ الذين عاهدوا فوفُّوا، وقالوا فصدقوا، ونحب كل من جاء من بعدهم ممن رفع اللواء وأحيا الجهاد في سبيل الله وانتصر لهذه الرسالة، وعلى سبيل المثال نحب ونقدِّر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، ونحب صلاح الدين الأيوبي.

ونحب ونقدِّر الصالحين من بعدهم ممن ساروا على الدرب وحملوا الراية، ونحب ونقدِّر الشهيد عمر المختار في ليبيا، والقسام في فلسطين مثلاً للجهاد والصبر، رغم ما به من علل، ونقدِّر جميع شهداء الإخوان، من عرفْنا منهم ومن لم نعرف، وما قيمة معرفتنا؟ حسبهم أن الله يعرفهم، وأن ملائكته تعرفهم، وإمامنا الشهيد هو في قمتهم جميعًا، هو الرائد نحسبه هو وإخوانه وكل من ذكرنا من الذين قال الله فيهم ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤)﴾ (السجدة).

إن الإسلام علمنا هذا الخلق في النظرة إلى الأسلاف.

يقول الإمام البنا رحمه الله:
ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عُرف من طيب أعمالهم قربةٌ إلى الله تبارك وتعالى، والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى ﴿آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣)﴾ (يونس)، والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية، مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لا نفسهم نفعًا ولا ضرًّا في حياتهم أو بعد مماتهم، فضلاً عن أن يهبوا شيئًا من ذلك لغيرهم (رسالة التعاليم).

ولقد شاءت حكمة الله عز وجل أن يكون للحق دعاة، وأن يكون للمعرفة رواد من بني الإنسان، تصنعهم عناية الله ورحمته؛ ليكونوا الدليل والحادي في حياة المسلمين، وليكونوا النماذج العملية والقدوات الطيبة التي يحذون حذوها، ويقتدون بها قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّـهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّـهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا (39)﴾ (الأحزاب).

وهؤلاء الدعاة الأبرار إنما ينجحون في دعوتهم بمقدار اقتدائهم بمن سبقهم، وقربهم منهم، واقتدائهم برسل الله وأنبيائه، عليهم أفضل الصلاة والسلام، قال تعالى ﴿.. فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام: من الآية 90).

وأنت أيها المسلم.. لن تنجح في حياتك أبدًا إلا إذا اقتربت بحق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل السلف الصالح رضوان عليهم، وتعبَّدت بهذا القرب، ورضيت بحق وصدق بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً.

إن سنة الله عز وجل تمتدُّ من بعدهم، مع كل من أخذ طريقهم واهتدى بهديهم، والتزم بمنهجهم التزامًا حقيقيًّا يقيمه في الدنيا، ويشرفه في الآخرة، واتبعهم بإحسان.

يا أخي.. أين أنت من هذا كله؟ في صباحك ومسائك، في غدوِّك ورواحك، وأنت في مكتبك، وأنت بين أهلك وأسرتك، وأنت تتعامل مع الآخرين؟!

أين أنت؟ إياك أن تُشغل بغير خلق الإحسان حتى إذا أساء أحد إليك أو تعدَّى حدوده تنتصر بأخلاقك، تنتصر بصدقك، تنتصر بأمانتك.

بهذا الخلق يجب أن تُعرف بين الناس، ومن باب أولى مع أهلك وجيرانك وأقاربك وأينما حللت.

ونحن نؤكد هذا الكلام؛ لأننا في عصر تتصارع فيه القيم، وتختل فيه المفاهيم، وتُستباح الكلمة عند البعض بالتلاعب بها، وتسخيرها للحديث عن الشيء وضده حتى صَعُب على البعض أن يميز بين الشعارات المتعارضة والأشكال المتزاحمة في الساحات المختلفة.

واستغل البعض أجهزة الإعلام المختلفة لمحاولات مفضوحة ساذجة للإساءة إلى تاريخ الرجال الأبرار الذين حملوا رسالة الحق، ووقفوا أمام الموجات المادية الطاغية، ورفعوا راية لا إله إلا الله محمد رسول الله التي يصرُّ المجرمون والأشرار على محاولة تنكيسها.

يقول الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله، وهو واحد ممن رباهم الإمام البنا رضوان الله عليهم جميعًا:
((لحكمة لا يعلمها إلا الله وحده، لأنه صاحب الأمر كله، وهو منزل الكتاب، ما قرأنا كلمة الإنسان في القرآن إلا والشر محيط به، والإثم فعله، والجهل صفته، والكفر خلته.. ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)﴾ (إبراهيم)، ممعن في الذنب حتى قال الله فيه: ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧)﴾ (عبس) دائم البوار حتى قال الله فيه: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)﴾ (العصر)، ولو ترك الأمر هكذا لكان مصير الإنسان.. كل الإنسان.. إلى سقر، ولكن الله بعباده رءوف رحيم، وبخلقه برٌّ كريم، فوضع العلاج الواقي الشافي للإنسان، فإن تناوله نجا، وإن أعرض عنه ضل وغوى، ولئن كان الدواء المادي وضع للداء المادي.. كذلك فإن الدواء المعنوي.. الروحاني.. الرباني.. قد أعد بكل دقة لأمراض النفوس وعلل القلوب، فمن راضَ نفسه عليه، وأخلد بكل جوارحه إليه بلغ المنتهى ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾ (العصر) ثم يقول رحمه الله بهذا الوضع ترى الإنسان في هذا العالم أصنافًا مصنفةً، وكلٌ ميسر لما خُلق له، فريق في الجنة وفريق في السعير فإن كنت صحيحًا بدنًا وروحًا فاحمد الله أن جعلك من الناجين، وإن كنت غير ذلك فلا تيأس وحاول؛ فالمحاولة عبادة، وجهاد النفس عبادة، وحسن الظن بالله مع العمل أو محاولة العمل عبادة.

وهكذا ترى أينما فعلت أو قلت أو تصرفت تبتغي النجاة فأنت في عبادة متواصلة.

والآن إلى الإنسان أنواعًا: إنسان تحلو في عينه المعصية، ويركن إلى النفس الأمَّارة بالسوء متبعًا هواها ومتمنيًا على الله الأمانى، دون عمل أو رغبة في عمل أو حتى تفكير في عمل، أوْثقه الشيطان بحباله، فهو لا يستطيع منه فكاكًا، واستهوته الدنيا بملذاتها وبهرجها، فركن إليها، وظن أن مالها من فناء، وغرَّته قوته، فأخلد إلى كل ذلك، غافلاً عن يوم توفَّى فيه كل نفس ما اجترحت، ويستجير بكل ما توهمه له مجيرًا، فإذا بالكل يهرب منه صائحًا به: إني عنك اليوم مشغول ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)﴾ (الأعراف).

وما أتعس وما أشقى الإنسان أن يكون مثله كمثل الكلب ﴿كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ (الأعراف: من الآية 179) وإنسان يمُنُّ عليه بكل ما يتمناه، فينساق في طريق الغواية، ويستصحب دعاة الضلالة، ويتمرَّغ في حمأة الإثم، ويطول به الأمد في الذنوب، ثم تدركه رحمة الله فيفيق على لحظة، تدركه فيها العناية، فإذا به تائب، مستغفر، راج، منيب، فيلقى أبواب الرحمة مفتوحة المصاريع، وجنبات المغفرة واسعة الرحاب، فيغسل أدرانه بماء التوبة الطهور، فإذا به من الناجين.. ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥)﴾ (الزمر).

هذا الإنسان بأوبته هذه يقطع على الشيطان طريقه، ويفسد عليه حبائله، ويرد كيده إلى نحره، ويطرده من حضرته، ويتجنَّب وساوسه، ولا يخرجه ذنب من إيمانه، ولا ييئسه إثم من رحمة ربه، فربه كريم غفور رحيم، ودود كريم، يرضيه أن يعود عبده إليه ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليقوب مسيء النهار)).

هذه بعض القطوف الدانية من الروح والريحان، كتبها أحد الرجال الذين رباهم الإمام البنا رحمه الله على هذا الحق المبين، وعلى التجرد والإخلاص لله رب العالمين، أطلنا في نقلها بنصها لحاجتنا إليها، فيجب أن نتجب الطريق الذي لا يهدي إلى الله ولا نسلكه أبدًا، وأن نثبت أقدامنا بقوة على الصراط المستقيم، فذلك هو طريقنا، وهو حياتنا، وهو سرُّ وجودنا حتى نلقى الله سبحانه وتعالى.

نعم.. لقد ربى الإمام البنا- عليه الرضوان- جيلاً كريمًا، ووضع أساسًا ثابتًا، وشيَّد بناءً شامخًا وأوجد تيارًا إسلاميًّا، وأرسى دعائم مدرسة خرَّجت البطولات الفذة من الأوفياء الأمناء على أوطانهم وأمتهم، هذه البطولات ظهرت عمليًّا وبوضوح وبقوة في الميادين كلها.. في ميادين الحروب.. في الوقفة الصادقة أمام أعداء البشرية وحثالات العالم وشذَّاذ الآفاق من الصهاينة، وأمام الإنجليز في القناة؛ حيث أثارت الرعب في صفوفهم، وجعلت الحياة لهم في وادي النيل مستحيلة، فخرجوا مطرودين إلى غير رجعة، كما ظهرت البطولات في سجون عبد الناصر، وتحت مطارق العذاب وكرابيج الشياطين التي ظلت تلهب الظهور المؤمنة، الأيام والليالي والسنين، بلا هوادة، فما تغيَّر قلب، ولا نكص أحد عن عهد، بل قالوا جميعًا: آمنا بالله وحده، كما ثبت الرجال الأبرار تحت أعواد المشانق، يقول أحدهم لابنه: يا إبراهيم، إن أباك أقل من أن يموت في سبيل الله، وهو من هو في جهاده ومواقفه ضد الإنجليز ومواقفه في ميدان القتال في فلسطين، ويقول الآخر من الشهداء، وهو يصعد على المقصلة في ثبات المؤمنين بصوت مسموع: اللهم سامحني وسامح من ظلموني!.

أرأيت إلى هذه الدرجة من الإيمان العميق واليقين؛ بات ما عند الله هو خيرًا وأبقى!.

وهكذا تثمر تربية الإمام البنا.. تثمر الروح والريحان، وتجعل المؤمن يهفو إلى لقاء ربه، غير عابئ بما يلقاه في الطريق، وهو يتلو قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦)﴾ (الواقعة).

يقول الشاعر المسلم في هذا الرعيل المبارك:
الله يعلم ما قلبت سيرتهم يومًا وأخطأ دمع العين مجراه

اللهم أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، ورضِّنا وارض عنا، اللهم ثبت قلوبنا على الحق، وقوِّ عزائمنا، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل، وارزقنا حسن التوكل عليك، إنك نعم المولى ونعم النصير.

سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

أيها الأحباب.. الإمام البنا داعية ترك بصمة على التاريخ


بقلم: الشيخ محمد عبد الله الخطيب
ليست هذه الكلمات ردًّا على أحد فلا يوجد ما يستحق الردُّ، لكنها تذكير بتاريخ الدعوة إلى الله في القرن الرابع عشر الهجري والذكرى تنفع المؤمنين، وليس بين الله وأحد من خلقه نسب، لكنه العمل والعمل الصالح وحده..

أين نحن من هذه الدعوة؟
في حياتنا مع أولادنا.. وبيوتنا.. وجيراننا.. وكل من تعرف في العمل وفي الحياة، والرجل الصالح لا بد أن يترك أثرًا صالحًا مع كل من تعامل معه، والله عزَّ وجلَّ يأمر نبيه المختار صلى الله عليه وسلم بقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (١١٣)﴾ (هود).

لا بد من وقفة صادقة مع النفس، نعرف منها أين نحن من رسالة الإسلام، ومن الدستور القرآني الخالد، ومن نبي الإسلام، الرحمة المهداة والسراج المنير صلى الله عليه وسلم؟ أين ورد المحاسبة؟ "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم" ﴿كَفيٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤)﴾ (الإسراء).

ولسنا في هذا بأفضل من سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يحاسب نفسه كل يوم، ماذا فعل في هذا اليوم من خير؟ وماذا قدَّم من أعمال طيبة؟ فإن كان الجواب نعم حمد الله ونام، وإن كان غير ذلك استغفر وندم، وربما ضرب نفسه!.

أين نحن من قيام الليل؟ فقد اعتدنا عليه بفضل الله طوال شهر رمضان.. أفلا نداوم على هذا الخير؟ ونذكر من كانوا قبلنا، فقد وصفهم الحق تبارك وتعالى بقوله ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴿١٧﴾ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿١٨﴾ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)﴾ (الذاريات)، ووصفهم سبحانه بقوله ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤)﴾ (الفرقان).

دخلت أم عمر بن عبد العزَّيز عليه يومًا فوجدته يبكي، فقالت له: ما يبكيك يا عمر؟ هل بك من شيء؟ فقال لها: لا.. غير أني تذكَّرت الآخرة فبكيت، وكان رضي الله عنه يسجد على التراب تواضعًا لله عزَّ وجلَّ، هل نُرزق نحن مثل هذا الإيمان الذي يحرِّك المشاعر ويوقظ القلوب، ويحيي النفوس؟ هذا يحتاج إلى إيمان عميق، وفهم دقيق، ومداومة على العبادة والتلاوة والخشوع، وقد حدَّد الحق تبارك وتعالى أن المؤمنين بحق هم من وصفهم بقوله عزَّ وجلََّ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)﴾ (الحجرات).

وقوله عزَّ وجلَّ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣) أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)﴾ (الأنفال).

أين نحن من ذلك كله حتى نستطيع أن نحمل دعوة، وأن نبلِّغ رسالةًً بالوسائل التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم؟، فرض في رقابنا وديْنٌ في ذمتنا نُسأل عنه يوم القيامة، وهو ديْن في رقاب المسلمين جميعًا، أنزل الله لنا كتابًا وبعث لنا رسولاً.. ماذا فعلنا بكتابه؟ وهل اقتدينا بنبيه؟ وهل آمنا بهذا الحق وصدَّقنا به؟ وسمَونَا بأنفسنا فوق الصغائر، وأكثرنا من عمل الحسنات واجتناب السيئات؟.

وهل وضعنا الدنيا- بما عليها- في دائرتها ونظرنا بحق إلى دار الخلود فتعلَّقت بها الأبصار والبصائر والقلوب؟ وهل استطعنا أن نجسِّد كل ما أعطانا الله من رزق، وما أسبغ علينا من نعم في طلب الآخرة؟، قال تعالى ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)﴾ (القصص).

اللهم اجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، أولئك هم أولو الألباب.

نبذة تاريخية:
لا بد لنا قبل الدخول إلى الموضوع من معرفة بالأوضاع التي ظهر فيها الإمام البنا؛ كيف بدأ من الصفر؟.. إن التاريخ يقول لنا إن أعداء الإسلام في الشرق وهم التتار وأوروبا في الغرب لم يتمكن هؤلاء- بالرغم من الأهوال التي ارتكبوها في حق المسلمين، والمجازر التي تقشعر لهولها الأبدان، طوفان من هنا وهناك يدق بلاد المسلمين سواء في دار الخلافة من المغول، وحول بيت المقدس من الصليبيين- من ابتلاع بلاد المسلمين، وكل محاولاتهم وإجرامهم في حق الإنسانية باءت بالفشل، ورُدُّوا على أعقابهم خائبين، وبقيت راية الإسلام مرفوعةً والقرآن يُحتكم إليه، والمسلمون لا يرون له بديلاً.

وكتب الله لهذه الأمة الخلود والنصر في جميع معاركها؛ لأن الله عزَّ وجلَّ أراد ذلك، لكن العدو الماكر الخبيث غيَّر خطته، وبدأت قوافل التبشير تعمل للتشكيك في هذه الرسالة، والتهوين من أمر عقيدة التوحيد، ثم كان التآمر على دولة الخلافة من الصهيونية التي نسيت أن اليهود طوال حياتهم يعيشون في بلاد المسلمين آمنين، حقوقهم محفوظة، فالإسلام لا يعرف التفرقة، لكنه يعدل بين المواطنين جميعًا ما داموا يحافظون على كيان الأمة التي يعيشون فيها.

وفي هذا الجو الذي سقطت فيه الخلافة، ووصل الخط البياني إلى الصفر، بدأت حركات الإصلاح، ودعوات العودة إلى المنبع الصافي، ظهرت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بلاد الحجاز، والسنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان، وكلها حركات إسلامية صحيحة تنادي بالإسلام كدين ودولة وجهاد في سبيل الله؛ لاستخلاص الأمة من أيدي هؤلاء الشياطين الذين تسلَّطوا عليها.

ثم تبلور العمل الصحيح للإسلام كدين وحضارة، وقانون ونظام وجهاد؛ لإحقاق الحق وإبطال الباطل، جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها" رواه أبو داود، فكان الإمام البنا بحق هو المجدد وهو الداعية وهو المربي وهو الإمام، يقول رحمه الله: لقد آمنَّا إيمانًا لا جدال فيه، ولا شك معه، واعتقدنا عقيدةً أثبت من الرواسي، وأعمق من خفايا الضمائر، بأن ليس هناك إلا فكرة واحدة هي التي تنقذ الدنيا المعذبة، وترشد الإنسانية الحائرة، وتُهدي إلى سواء السبيل، وهي التي تستحق أن يُضحَى في سبيل إعلانها والتبشير بها، وحمل الناس عليها سواء بالأرواح والأموال، وكل رخيص وغالٍ، هذه الفكرة هي (الإسلام الحنيف) الذي لا عوج فيه ولا ضلال لمن اتبعه ﴿شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعزَّيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران) ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية3).

ففكرتنا لهذا إسلامية بحتة؛ على الإسلام ترتكز، ومنه تستمد، وله تجاهد، وفي سبيل إعلاء كلمته تعمل، لا تعدل بالإسلام نظامًا، ولا ترضى سواه إمامًا، ولا تطيع لغيره أحكامًا.

يقول الرئيس محمد نجيب رحمه الله عن الإمام البنا، وقد وقف على قبره في الإمام الشافعي "من الناس من يعيش لنفسه لا يفكر إلا فيها ولا يعمل إلا لها، فإذا مات لم يشعر به أحد ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (٢٩)﴾ (الدخان)، ومن الناس من يعيش لأمته واهبًا لها حياته، وحاصرًا في نصرتها وعزَّتها كل آماله، مضحيًا في سبيلها بكل ما يملك، وهؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون، وامتلأت بذكراهم القلوب، وإمامنا من هؤلاء؛ إنه معلم الجيل، وإمام العصر، ومجدد الدعوة في العصر الحديث، وإليه ترجع النهضة الإسلامية على مستوى العالم في القرن الرابع عشر الهجري، لقد انتشرت الدعوة على أيدي تلاميذه في كل أنحاء الدنيا، وكلها حلقات متصلة تنظِّمها سلسلة واحدة هي الإسلام".

لقد كان الإمام الشهيد صاحب عقيدة أخذت بزمام نفسه، وملكت عليه منافذ حسِّه، فعاش من أجلها أشق عيشة وأقساها، ومات في سبيلها أشرف ميتةً وأسماها، وكان يؤمن بأن الدين الإسلامي هو الكفيل بإيجاد الفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والحكومة المسلمة.

إن المبدأ الذي دعا إليه هو الإيمان اليقظ في نفوس المسلمين لا الإيمان المخدِّر النائم، وهو الإسلام بمعناه الشامل الذي ينظِّم شئون الحياة جميعًا، ويفتي في كل شأن منها، ويضع لها نظامًا محكمًا دقيقًا لا يقف مكتوفًا أمام المشكلات الحيوية، والنظم التي لا بد منها لإصلاح الناس، مستمدين ذلك من كتاب الله؛ فهو أساس الإسلام ودعامته وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن الإمام البنا- رحمه الله- يوجِّه في هذا الصدد كلمةً صريحةً قويةً، توقظ النائم، وتحرِّك القلوب، فيقول "إن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب، والتردد بين الدعوات الحائرة، والمناهج الفاشلة، فإن كتيبة الله ستسير غير عابئة بقلة ولا بكثرة ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ﴾ (آل عمران: من الآية 126).

أما أسلوبه في العمل:
فقد سُئل رضي الله عنه: لماذا لم تؤلف كتبًا تضمنها هذه الأفكار السامية، والآراء السديدة التي تدعو إليها؟ فأجاب على الفور: ما أريد أن أؤلف كتبًا، بل أريد أن أؤلف رجالاً.

لقد أيقن- رحمه الله- بأن قيام الأمة الإسلامية لا يكون بالخطب والكلمات والكتب فحسب، بل لا بد من طبع النفوس على الفكرة الإسلامية، وتربية جيل على أخلاق الإيمان والبذل والفداء.

ولذلك وضع النظام التربوي الذي يربط المؤمنين بهذا الحق برباط أقوى من المادة، وأبقى من كل الأواصر، ويقوم على المعايشة عن قرب لتصحيح الخطأ، وعلاج النفوس والقلوب من الموجِّه لمن يربيه ويعلمه.

إن الإمام البنا وهو يضع هذه الأُسس الدقيقة للتربية، فقد اختار أولاً التأسيس: أي إعادة بناء الأمة من جديد ومن الأساس، وقد واجه الأمور بعد سقوط الخلافة، وتعطيل المنهج وتفريق الأمة، وهو شيء أكبر من الوعظ والإرشاد والتربية الإسلامية التي تصنع الفرد وتردَّه إلى الله عزَّ وجلَّ، لقد أصبح التجديد هنا هو إعادة البناء والتأسيس.

ثانيًا: الشمول: لقد استطاع أعداء الإسلام أن يجزِّئوا المنهج، فحاولوا إبطال الجهاد في سبيل الله، وأبعدوا السياسة عن الإسلام، كما جزَّءوا الشخصية الإسلامية، فقالوا هذا رجل دين لا يعرف في السياسة ولا علاقة له بها، وهذا رجل سياسة لا دخل له في الدين، وهذا دبلوماسي لا دخل له في الأمرين، المهم أن الإمام البنا- رضي الله عنه- أعاد ترتيب المنهج، وأعاد ترتيب الشخصية الإسلامية بما يتواءم ومنهاج الإسلام الشامل.

فالإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، ولقد نبَّه القرآن الكريم إلى الإيمان الكامل بنظام الإسلام فقال: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: من الآية85).

وبهذا الفهم تتجدد صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان وللمتعلم وغير المتعلم، للبدوي والحضري، وساكن المدينة وساكن القرى، وهكذا يجب أن يكون هدًى ورحمةً لكل من خلق المولى تبارك وتعالى من بني آدم.

ثالثًا: السلفية: وهي العودة إلى الله عزَّ وجلَّ بهذا الحق، وإلى حياة الذين طبَّقوه وأفلحوا في تطبيقه بتوازن في الحديث الصحيح "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّو عليها بالنواجز".

والمراد الحقيقي للسلفية عند المؤمنين استمداد الإسلام من أصوله دون تعصُّب، يقول الإمام البنا: "وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك أن الإخوان المسلمين دعوة سلفية؛ لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم".

كان الإمام على دراية بالحال الذي وصل إليها المسلمون والظروف التي يعيشونها، وبالمحاولات التي لا تكف عن إبعادهم عن دينهم ومصدر قوتهم.

ويضيف الإمام قوله: "إن رواسب القرون الماضية، ونتائج الحوادث الحالية لا يمكن أن تزول بأمنية تختلج في الصدور، أو كلمة تكتب في الصحف، أو خطب تُلقى على الجماهير، بل لا بد من طول الأناة ودوام المثابرة، وعظيم المصابرة، والدأب على العمل".

وهذا الفهم هو امتداد للحديث الصحيح "ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، وإن قومًا غرَّتهم الأماني، وخرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم قالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل" (مسند الفردوس).

خطر الفرقة:
كما ربَّى الإمام الإخوان على وحدة القلوب وتعانق الأرواح، وكان يقول: إن أكبر أمراض المسلمين الفرقة والخلاف، وأن أنجح دواء لهم (الوحدة الإسلامية)، واختار للجماعة أحب الأسماء إليه، وكان يقول: (إني أمقت الخلاف في جميع صوره وألوانه، فلا خير فيه أبدًا) فالأخوَّة أخت الإيمان، والتفرُّق أخو الكفر، وكان يقول: "لئن نجتمع على قليل من الخطأ خير من أن نفترق على كثير من الصواب"، وكان يقول: "إن الناس إذا رأوا رجلاً واحدًا انحرف عن الصف لا يقولون رجلاً انحرف بل يقولون (صفًّا أعوج)".

وهذا تطبيق لقوله تعالى؛ حيث يأمر المؤمنين، فيعلن في حزم وقوة ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)﴾ (آل عمران)، وينهانا في حزم وصراحة عن التفر ُّق، وينبِّهنا إلى النهاية المحزنة للذين يتفرقون شيعًا وأحزابًا وطوائف، فيقول جلَّ شأنه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّـهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧)﴾ (آل عمران).

أين الذين يتفرقون ويصرون على التفرق؟ ويركبون رءوسهم، ويجرون وراء أهوائهم، هل قرءوا هذا الوحي العظيم؟ وهل تدبروه، وهل عقلوه وعادوا إلى ربهم؟.

أيها الأحباب.. هذه دعوتكم، ودعوة كل مسلم على ظهر الأرض، جاء بها سيد البشر، وحملها من بعده الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، إن من ملامح هذه الدعوة الأساسية كما تعلمنا من الإمام هي: البناء النافع بغير حدود، النافع للأفراد، والمفيد للأمة كلها، والذي يحفظ عليها كيانها وتَقَدُمها وحضارتها.

ففي الإسلام طريق الدنيا هو طريق الآخرة بلا اختلاف ولا افتراق، فليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة وطريق للدنيا اسمه العمل، وليس هناك رجال دين ورجال دنيا، وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة.

إن العمل الجاد النافع النابع من عقيدة سليمة وإيمان عميق هو استمرار العمل والجهاد والسعي والتعلُّم والتعليم مستمرًا إلى آخر لحظة من لحظات العمر.

شُوهد أحد الصحابة وقد تقدَّم به العمر مع المجاهدين في ميدان الجهاد، فقالوا له: ماذا تصنع وأنت قد أدَّيت ما عليك؟ فقال: أكثِّر عدد المسلمين أمام الأعداء، وأدواي الجرحى.

إن توكيد قيمة العمل والحض عليه، فكرة واضحة شديدة الوضوح في مفهوم الإسلام، روي في المنتخب بإسناد حسن عن أنس يقول صلى الله عليه وسلم "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر".

مقتضى هذا الحديث: كل مسلم ومسلمة يجب عليهما ألا يفرطا في أي لحظة من حياتهما في العمل المستمر الجاد، وقد شُوهد أحد الصحابة يغرس شجرة، فقالوا له: قد تقدَّم بك العمر، وهذه الشجرة ثمارها تتأخر، فنظر إليهم وقال: غرس من قبلنا فأكلنا، ونحن نغرس إلى مَن بعدنا.

أرأيت إلى هذه النظرة تقول: إن ديننا هو دين النفع العام، والعطاء الدائم المستمر، والأفق المضيء الذي ينظر حتى إلى الأجيال التي لم تأت بعد.

والدعاة إلى الله في كل جيل هم أحوج الناس إلى هذا الدرس الغالي العظيم، هم أحوج الناس أن يأخذوا من نبيهم صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه، فيعملون لدينهم ولدنياهم ولآخرتهم ويُعلمون غيرهم، ويكونون قدوة صالحة، وهنا يُطرد اليأس من النفوس، ويزداد الذين آمنوا إيمانًا بالرجاء والأمل الواسع.

والدعاة هم أحق الناس بالتدبر العميق في سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم، لقد كان يغرس ويربِّي في دار الأرقم، ويُبايَع عند العقبة ويطوف في مواسم الحج يعرض نفسه على القبائل، فيكون الرد ردًّا منكرًا فيه استهزاء، وفيه غلظة الجاهلية، فما يزيده ذلك إلا إصرارًا على ما يقول، كان يفعل كل ذلك وهو لا يدري، فقد تأتمر به قريش، وقد يموت هو وأصحابه في شِعب أبي طالب، ومع ذلك فهو صلى الله عليه وسلم يؤدِّي واجبه على أكمل وجه، ويترك الباقي لله عزَّ وجلَّ.

إن صاحب الدعوة يجب عليه شرعًا أن يبلِّغها إلى الناس بالكلمة الطيبة وبالموعظة الحسنة، ولا يسأل نفسه: كيف يُستجاب لها ومن حولها الأعاصير والدعايات الباطلة والتشويه المتعمد والشر من كل جانب؟ لا يسأل نفسه، بل لا يفكر فيه، فليس ذلك من شأنه إنما هو من شأن صاحب الأمر، فليدع ذلك لله صاحب الدعوة، بيده الأرواح وفي قبضته السماوات والأرض، والمهم أن يكون على بصيرة مما يدعو إليه، وعلى فقه بما يقول، وصدق الله العظيم ﴿قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)﴾ (يوسف).

نفعنا الله بما نسمع وبما نقول وغفر لنا ذنوبنا، وتقبل منَّا أعمالنا، إنه سميع مجيب.. اللهم آمين.

السبت، 11 سبتمبر 2010

رمضان بالخير أقبل[01/09/2008][14:01 مكة المكرمة]


عصام العريان
هلال خير ورشد، ها نحن نستقبل شهر الصوم والقرآن، شهر الخير والبركات، اللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام.

سرعان ما دارت الأيام ودار الفلك دورته، ومع أول أيام شهر النصر والجهاد نقول: رمضان كريم، وكل عام وأنتم بخير.

أقبل رمضان وهو يحمل لنا معه بشائر الرحمة والرضوان والعتق من النيران.

هنيئًا لمن استعدَّ لقدوم الشهر المبارك؛ فأقبل على الله في هذه الأيام الطيبة بنفس راضية وهمَّة عالية وإخلاص لا تشوبه شائبة؛ فكان الجزاء الأوفى له من الله تبارك وتعالى كما أخبر الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم: "أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار".

وخاب وخسر من شهد الشهرَ الفضيلَ؛ فلم يتهيَّأ له ولم يستعد لقدومه؛ فارتحل عنه الشهر ولم تتغير نفسه ولم تتأثر حياته؛ فحق عليه قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل أدرك رمضان فلم يغفر له".

شهر رمضان حلَّ بنا ضيفًا فلنكرِم وفادته، ولنحسن استقباله، ولنعزم عزمًا أكيدًا على التزوُّد من هذا الشهر؛ فقد بشَّرَنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بأن الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفراتٌ لما بينها ما اجتُنبت الكبائر.

رمضان بالخير أقبل؛ تُغفَر فيه الذنوب، وتُضاعَف فيه الحسنات، وتتنزَّل فيه الرحمات، وتُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق فيه أبواب النيران، وتُصفَّد فيه شياطين الجانّ، ويَقبل الله فيه دعوات الصائمين الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.

أي خير أعم من ذلك وأي فضل أكثر من ذلك؟!

رمضان بالخير أقبل.. فهيَّا أيها الأخ الكريم وأيتها الأخت الفاضلة..

جدِّد حياتك في رمضان، غيِّر ما بنفسك حتى يغيِّر الله ما بنا، تزوَّد من رمضان لبقية العام، انفُض عن حياتك الكسل والفتور، أقبِل على القرآن بنية العمل والتنفيذ، قلِّل من الطعام والشراب والنوم، احرِص على الوقت ألا يضيع في غير طاعة؛ فهذه لحظاتٌ ثمينةٌ وأوقاتٌ غاليةٌ، رطِّب لسانك بذكر الله، وأكثِر من قول لا إله إلا الله، لا تنقطع عن الاستغفار في الليل والنهار؛ فعسى أن تصادف لحظة الإجابة فتفوز، إياك أن تفوتَك ليلةُ القدر؛ تلك الليلة العظيمة، وابدأ الشهر بهمَّة تتصاعد مع الأيام والليالي، واعلم أن الله غيَّب تلك الليلة في ثلاثين ليلة؛ فقد تكون في الليالي الأُوَل فتُحرَم الخير نتيجة القعود والتقصير، فمن حُرِم الخير فيها فقد حُرِمَ.

رمضان بالخير أقبل.. فلننهل من خيرات رمضان، ومع حرصنا على صلاة الجماعة بالمسجد في أول الأوقات لا تحرم نفسك من ركعاتٍ تقف فيها خاليًا من الهموم، وحيدًا أو مع أسرتك في جوف الليل بين يدي ربك، تناجيه وتدعوه وتقرأ فيها ما تحفظ من القرآن، وتجدِّد له فيها العهد؛ أنك على صراطه المستقيم، ثابتًا مستقيمًا مرابطًا حتى تلقاه.

ولتجلس مع أولادك تعلِّمهم ذكر الله، وتتدارس معهم آيات الله، وتتذكر معهم آلاء الله ونعمه فتشكره وتحمده.

رمضان بالخير أقبل.. ومعه بشائر انكسار تلك الهجمة الغربية الأمريكية الصهيونية الإثيوبية على أمة الإسلام؛ فبعد سنوات عجاف شنَّت فيها إدارة بوش الحروبَ على أطراف وقلب العالم الإسلامي، ها نحن نرى انكسار تلك الهجمة وانحسارها؛ فالجدل يدور في أمريكا حول الانسحاب من العراق، وهل يتم تحديد موعد وجدول للانسحاب أم يُترَك تقديره للرئيس الجديد؟! وها هي المفاوضات حول اتفاقية أمنية تُثير الجدل والخلاف حتى بين الأطراف التي رحَّبت بالغزو الأمريكي لبلاد الرافدين وحضارة الرشيد والمأمون!! المهم أن الانسحاب قد تقرَّر، وبه انكسر المشروع الأمريكي في العراق، وانتصرت المقاومة التي لم تجد سندًا كبيرًا لها من أبناء أمتنا.

وها هو المحتل الإثيوبي يعلن أنه لا يستطيع البقاء في الصومال، وأن الذين دفعوه إلى الوحل الصومالي لم يوفوا بوعودهم؛ فانكشفت المؤامرة وانتصرت المقاومة الإسلامية في الصومال.

وها هي روسيا تعلن اليوم في تهديد صريح أنها تستطيع أن تحوِّل أفغانستان إلى فيتنام جديد لحلف الأطلنطي "الناتو" الذي غرق في المستنقع الأفغاني كما غرقت فيه من قبل القوات السوفيتية، ولعل روسيا تريد أن تنتقم لنفسها، ولعل الله تعالى بحكمته يريد أن يجعل من الأفغان وبلادهم مقبرةً لأكبر إمبراطورتين في القرن العشرين السوفيتية ثم الغربية (أوروبية وأمريكية).

وليس بعيدًا عنا أيضًا ما يعانيه المشروع الصهيوني الإحلالي من نكبات وهزائم، وها هي تداعيات حرب تموز 2006م ما زالت تتوالى داخل هذا الكيان، وقد فشلت الخطة الأمريكية لتمرير اتفاقيات "أنابوليس" ويعاني كل أطراف هذه المؤامرة من الفشل الذريع، وكلهم يغادر موقعه غير مأسوف عليه دون إنجاز أو نجاح، بل كلهم يغادر وهو مكلَّل بالفشل والفضائح والخسران.

أي خير أقبلت به رمضان لتبعث في نفوسنا الأمل في نصر الله القريب، وتجدِّد في قلوبنا الثقة بالله القوي المتين؛ فحين تنقطع بنا الأسباب وتحار منا النفوس وتحتار وتُظلم الدنيا حولنا بكيد الليل والنهار.

تأتي يا رمضان بالخير والبشريات، ونبدأ معك الرحلة السنوية لنشحن قلوبنا وأرواحنا بمزيد من اليقين والتوكل على الله والثقة به وانتظار نصره القريب.

أيها الإخوة والأخوات.. رمضان بالخير أقبل؛ فهنيئًا لكم صيام وقيام رمضان، وهنيئًا لكم مائدة القرآن، وهنيئًا لكم ذكر الرحمن.

وكل عام وأنتم بخير.. وفي رحمة ورضوان.

نفحات رمضان[04/09/2008][11:57 مكة المكرمة]

جمال ماضي
تأمَّلت في فضل رمضان وما يريده منا الله تعالى لإسعادنا وبهجتنا في سيد شهور العام, فوجدت أنها جاءت في صورة دعوات يشرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه, فماذا بعد هذا الاهتمام بنا؟ هل نتكاسل أم نجتهد؟! هل ننتهز الفرص التي يقدِّمها لنا الله تعالى أم نتوانى ونتشاغل ثم نندم بعدها على تهاوننا وتفريطنا؟!
1- دعوة إلى موعد مع الله:
أنت مدعو إلى موعد دائم مع الله في قاعة الصيام ليجزل لك العطاء، فاستعد, هذه أيام المصالحة, هذه أيام المتاجرة؛ من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟! "كم من مستقبِلٍ يومًا لا يستكمله، ومؤمل غدًا لا يدركه".
2- دعوة إلى الصبر:
هذه دعوة مجانية من الله إلى كل الصائمين, رجالاً ونساءً, شيوخًا وشبابًا, كبارًا وصغارًا, أغنياءَ وفقراءَ.. دعوةٌ إلى الصبر نتعلمه في مدرسة رمضان, ونتدرَّب عليه في مركز الصيام, فنتربَّى على الصبر طوال العام؛ فَلَبِّ الدعوة تَفُزْ بالجنة, وتنجح في الحياة.
3- دعوة إلى حفل الأجور:
أنت في حفلٍ تُوزَّع فيه الأجور على الفور، والدعوة إليه عامة، فاحرص على ألا يسبقك أحد؛ فخصلة الخير بأجر فريضة، والفريضة بسبعين فريضة فيما سواه, والزكاة في هذا الحفل تساوي سبعين سنةً أدَّيت زكاتها.
4- دعوة إلى تربية النفس:
لن تجد وقتًا لتربية نفسك على التحمل والصبر، والرضا والمحبة، وسخاوة النفس وسلامة الصدر والنصح للأمة, إلا بتلبية هذه الدعوة الرمضانية.
5- دعوة إلى فرص عمل شاغرة:
فرص العمل كثيرة ومتوفرة لكل المتقدمين بشرط واحد فقط, وهو: "اجعل أعمالك كلها لوجه الله" تحصل على فرصتك الغالية والدائمة، والتي لا تُعوَّض.
6- دعوة إلى موعد مع الفرحة:
عبِّر عن مشاعر الفرحة بكل مباح وحلال, وبما يحقق البهجة لك ولأسرتك وللناس جميعًا، من زينات وطعام وشراب وفكاهات وحب وعواطف؛ فللصائم فرحتان: فرحة عند فطره, والثانية شوقًا إلى الله بما استعد من طاعةٍ وعبادةٍ في رمضان.
7- دعوة إلى الجنة:
باب الريان المخصص للصائمين ينتظرك, وشربة الري مهيأة لك؛ لا تظمأ بعدها, ويغلق بعد دخول الصائمين، فلا تحرم نفسك, ولَبِّ الدعوة لتكونَ من أهل الفوز بالجنة.
8- دعوة إلى الزواج المجاني:
يا خاطب الحور.. هذه حوريتك الجميلة تنتظرك, تقول عنك: "متى تأتي؟"، فلا تتأخر عنها في أيام وليالي الزواج المجاني؛ فالحور تنادي في شهر رمضان: "هل من خاطبٍ إلى الله فيزوجه؟!", والمهر ميسَّر لك فقط في رمضان، إنه فقط (طول التهجد).
9- دعوة إلى راحة القلب:
راحتك الحقيقية في صوم القلوب, وأقله سلامة الصدور, وأعلاه أن ترى الله في كل حين, وليست فقط بكثرة الاجتهاد في الصيام والقيام والطاعات, وبذلك تنجو من أن يتحوَّل الصيام إلى تعب ومشقة، وسهر وجوع وعطش.
10- دعوة إلى أطيب العطور:
عطر ليس له مثيل في الدنيا؛ لأنه محبَّب إلى الله، وهو عند الله أطيب من ريح المسك, ولو ظنه الناس غير مقبول, يكفي أنه خلوف فم الصائم، فما أجملك! وما أفضلك! وما أحلاك!؛ بعطرك ما هو عند الله أطيب العطور.
ولنا تكملة لهذه الدعوات التي تتوالى علينا ونحن على أبواب رمضان, يكفينا أنها من الله تعالى, وموجَّهة إلى أفضل عباد الله على الأرض, وهم الصائمون, وإلى الحلقة الثانية من الدعوات الغالية, ونحن على أبواب سيد الشهور رمضان.

رمضان شهر العمل.. ليس الكلام[01/09/2008][23:20 مكة المكرمة]

م. خالد البلتاجي
ما أحوجنا إلى تدريبِ النفس في شهرنا الكريم على العمل في صمت.. أربع كلماتٍ سطرهن مرشدنا الخامس مصطفى مشهور رحمه الله.. هُنَّ جوهر العمل لمَن أراد العمل:
"أصلح نفسك وادع غيرك"
فليشمر كلٌّ منا عن ساعديه ليستثمر ما استطاع من ساعاتِ الشهر، دامعًا في محراب العبادة، أو داعيًا للدويرات التي حوله من أقاربه وجيرانه ورواد مسجده وزملاء عمله، فضلاً عن أهل بيته، أو ملبيًّا لإخوانه فيما كُلِّف به دون تراخٍ.

إن الأمر لا يعوزه شرح مسهب، والوقت لا يحتمل الخطط الفضفاضة، فالفرصة أثمن بكثير، والموطن موطن عمل لا موطن كلام.

لينشغل كلٌّ منا بعمل نفسه أكثر من انشغاله بعمل إخوانه، فإن كان ولا بد من انشغاله بهم من واقع المسئولية ولما يراه من تقصيرٍ يُحزنه.. فليعلم أن أفضل ما يدفعهم للعمل هو أن يبدأ بنفسه فيتقدَّم صفوف العاملين وليس المتكلمين، وكما قالوا "عمل رجل في ألف رجلٍ خير من قول ألف رجل لرجل".

وما أروع تعبير إمامنا الشهيد "أنتم الكتيبة الخرساء التي تُجيد العمل ولا تُحسن الكلام".فيا أيها الإخوان الكرام هلموا إلى قول الله تعالى: ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾ (التوبة).

رمضان.. وفقه تغيير النفوس


رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد..
تظل نفحات شهر رمضان وبركاته تفوح على الأمة الإسلامية كل عام، حاملةً في طياتها الكثير من المعاني والواجبات العملية لنهوض الأمة وتطورها على كل المستويات، ليرسم لنا شهر الصوم مشروعًا إصلاحيًّا للفرد والأمة، ويبقى الواجب علينا أن نتعرض لهذه النفحات؛ عسى الله أن يهدينا إليها ويعيننا على حسن استثمارها.

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله؛ فإن لله نفحاتٍ من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم".

وإن من نفحات الله المباركة علينا شهر رمضان المبارك؛ الذي يُعد مدرسةً للأمة للتقربِ إلى ربها، وتنقيةِ نفوسها، ومراجعةِ أهدافها وخطواتها، واغتنامُ هذه الفرصة الثمينة والهدية الربانية خيرُ زاد للسائرين على طريق الدعوة إلى الله.

إننا بحاجة ماسَّة إلى ما يمكن تسميته "فقه تغيير النفوس في رمضان"؛ لنستطيع أن نستثمر هذه النفحات الربانية لننطلق نحو آفاقٍ أسمى في واقع حياتنا، مغتنمين هذه النفحات المباركة في هذا الشهر الفضيل لتوجيه أنفسنا نحو الأفضل وعلاج ما بها من أسقام وعلل؛ فتزكو بروح الإيمان، وتسمو بفيض القرآن.

ومن المعلوم أن باعث التغيير في أساسه داخليٌّ، يُشرِبُ النفس الإنسانية ثقافةً وسلوكًا، حتى يصبح مهيمنًا على شئونها، ضابطًا لتصرفاتها، حاكمًا لكل تصوراتها، وهذا يتطلَّب منا الكثير من الجهد الدءوب (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس: 9، 10)؛ لأن المعركة الحقيقية إنما هي مع النفس قبل أن تكون مع الأعداء، وصدق الإمام البنا: "ميدانكم الأول أنفسكم؛ فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن أخفقتم في علاجها كنتم أمام غيرها أعجز"؛ لذا كان لزامًا العمل على إصلاحها وتزكيتها وتطهيرها.

ولقد يسَّر الله سبحانه وتعالى لنا سبل تغيير النفس في رمضان؛ فجعل منه نقطة انطلاق وتغيير قوية وفاصلة لتصحيح أوضاعنا كلها؛ فأبواب الخير مفتحة، ونوافذ الشر موصدة "إذا جاء رمضان، فُتِّحت أبواب الجنَّة، وغلِّقَت أبوابُ النار، وصفِّدَت الشياطين، ونادى منادٍ: يا باغِي الخير أقبل، ويا باغي الشر أَقصِر" (رواه الخمسة إلا أبا داود)، وفيه دعوةٌ واضحةٌ لأولي الألباب لاغتنام هذا الشهر الفضيل بعدما يسَّر الله سبحانه وتعالى لنا كلَّ السبل؛ بفتح أبواب الجنان وغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين.

ولكي يؤتي "فقه تغيير النفوس" ثماره لا بد من أن تتوفَّر لدينا شروط التغيير، ومنها الرغبة الحقيقية في التغيير، ومعرفة كيفية التغيير، وأن يكون التغيير عملاً لا قولاً، وإدراك أن التغيير لا يأتي من الخارج بل يأتي من الداخل (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية 11)، ثم العزيمة الصادقة على القيام بهذا التغيير.

إن تغيير النفوس للأفضل ليس أمنيةً مجردةً، بل هو حركة على أرض الواقع، يبدأ بتخلية النفس عن النقائص وتحليتها بكل ما يطهِّرها مما يُرَى أثره في أقوالنا وأخلاقنا ومعاملاتنا ومع أهلينا وجيراننا والناس من حولنا، لتتحول نفوسُنا في رمضان وبعده إلى نفوس قرآنية تستقي من القرآن زادها.. ربانية؛ لا تبتغي من وراء إصلاحها إلا وجه الله.

ومما يعين على ذلك؛ أن نتحلى بإرادة صلبة، وعزيمة قوية، ونبدأ ونحن مفعمون بالتفاؤل، ولنجاهد أنفسنا في بناء ذواتنا، فرمضان فرصة عظيمة لنرمِّم ذواتنا، ونشذِّب السلوكيات الذميمة في حياتنا، ونخرج من التمحور حول الذات إلى بناء علاقات إيجابية مع الآخرين.

إن أولى خطوات التغيير الحقيقي في هذا الشهر الكريم ينبغي أن ترتكز على الإخلاص التام لله والحياء منه وخشيته ومحاسبة النفس؛ ليكون ذلك دافعًا لنا طوال حياتنا بإذن الله، كما علينا أن نتوب توبةً صادقةً نصوحًا؛ فإنها واجبة في كل وقت وحين، وهي في هذه الأيام الفضيلة أوجب، ولنحرص على الإكثار من العبادة في هذا الشهر، وخاصةً قيام الليل والتهجد وقراءة القرآن وتدبره ومعايشته وتطبيقه في ذات النفس وواقع الحياة وذكر الله واستغفاره والدعاء والابتهال إليه، ولنحذر من الملهيات من حولنا حتى لا يضيع وقتنا، ولا ننسى الإكثار من التصدق والعطف على اليتامى والمساكين وإفطار الصائمين.

ولا يمكننا أن نغفل الاستفادة من الإنجازات التغييرية التي يرسِّخها رمضان في النفوس؛ كالتعود على اتخاذ القرار، والثبات عليه، والتركيز على الإنجاز العملي، وكسر الإلف في العادات والأفعال، وحسن تنظيم الوقت، وحسن توظيف هذه الإنجازات في حركتنا كلها.

كما علينا ألا ننسى قضيتنا الأساسية والمحورية "القضية الفلسطينية"، وأن نجعل من رمضان نقطة لتغيير المواقف السلبية منها، وأن ندعم المقاومين المخلصين في نضالهم بكل الوسائل المتاحة من تحرِّي الدعاء لهم بالنصر في أوقات الإجابة، والتبرع، والمقاطعة، وتبني مواقفهم، ونشر قضيتهم في جميع الدوائر المحيطة.

إن الإخوان المسلمين ليدعون الأمة إلى أن تستثمر هذا الشهر الكريم وهذه الفيوضات الإلهية لتقف صفًّا واحدًا في مواجهة التحديات التي تواجهها وتهدِّد هويتها العقائدية والثقافية؛ انطلاقًا من استلهام عبر ودروس هذا الشهر العظيم، ولتعمل على زيادة المنجز التغييري لها على كل الأصعدة.

كما يدعون الحكام أن يتقرَّبوا إلى الله أكثر في هذا الشهر، وأن يغيِّروا ما بأنفسهم، ويتقوا الله في أنفسهم وشعوبهم، ويغيِّروا من توجههم وأفعالهم لتتسق مع المعاني السامية لهذا الشهر الكريم، ويقتدوا بأسلاف الأمة من الحكام العدول الذين قادوا الأمة إلى الانتصارات العظيمة الخالدة، كما يلزمهم أن يُعيدوا المظالم لأصحابها، ويتقوا دعوة المظلوم في هذه الأيام ويعيشوا المعاني الحقيقية لرمضان قولاً وفعلاً.

خلاصة القول
إن التغيير المنشود في رمضان تغيير عميق شامل؛ يبدأ من الفرد في نفسه: بالتوبة والمراقبة والإخلاص والمحاسبة والمسارعة إلى الخيرات، وفي بيته: بالقدوة والتوجيه وحسن التربية حتى يصير بيته قبلة بين البيوت (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)، ومرورًا بمجتمعه: بالمشاركة في فعل الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونهايةً بأمته: بالاهتمام بأخبارها، والتعرف على حال الإسلام والمسلمين وتقديم يد العون لمن يحتاج، كما يمتد ليشمل كل ذلك فكرًا؛ فتصير الفكرة إسلامية صميمة، وسلوكًا؛ فتصير الأخلاق أخلاقًا محمدية، وتطبيقًا فتصير النظرية واقعًا معيشًا.

وكلمة للأحبة خلف الأسوار
استثمروا خلوتكم مع الله، وأكثروا من الصلاة والقيام والتهجد وتلاوة القرآن وتدبُّره وحفظه، وأكثروا من الذكر والدعاء، ولتكن هذه الخلوة نقطة تحوِّل في علاقتكم مع ربكم لتثرِي عملكم ودعوتكم بعدما يفك الله أسركم سالمين غانمين بإذن الله.

ومن رمضان استلهموا معنى الأمل بعد اليأس، والفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر، واستشعروا فرحتكم يوم تلقوا ربكم فيأجركم ويأخذ لكم ممن ظلمكم ويومئذ يفرح المظلومون.

وكلمة للإخوان..
اجعلوا من رمضان نقطة تغيير وتحوُّل في حياتكم، واغتنموا فضائل هذا الشهر، وحسِّنوا علاقتَكم بربكم تُفتح لكم القلوب المغلقة، وعمِّقوا أخوَّتكم، وكونوا كالبنيان المرصوص، وكونوا كما يُحب ربكم ويرضى، واعملوا جاهدين على زيادة رصيدكم القيمي والرسالي في هذه الأوقات الفاضلة.

واعلموا أن المسجد هو المحضن الأساسي لصياغة الشخصية المسلمة، وأكثروا من الخطى إليه تقربًا وطاعةً لله، وحقِّقوا في أنفسكم صفات المؤمنين كما وردت في القرآن الكريم، وكذا صفات عباد الرحمن كما وردت في قوله تعالى (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)... (الفرقان) (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: من الآية 194).

ولا يغِب عن بالكم أن رمضان راحلٌ كما رحل من قبل، وليس ثمة شك في ذلك، وإنما الشك في بقائنا للتنعم به بعد ذلك، فعلينا أن نستغلَّه قبل أن يرحل، ونكتسب منه هذا العام صورةً من صور تغيير الأنفس لما يحب ربنا ويرضى.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.. والله أكبر ولله الحمد.

حتى يغيِّروا ما بأنفسهم




أ. د. محمد حبيب
ويبقى الحال كما هو عليه، وسبحان من له الدوام، يغير ولا يتغير؛ إذ لا توجد هناك في الأفق القريب أو البعيد أيةُ رغبة جادةٍ من السلطة في إصلاح أو تغيير للبلد في النهضة التي ننشدها والتقدم الذي نرجوه.

العالم كله يتقدم، يَجري من حولنا، يُسابق الزمن، أما نحن فقد توقفنا، أو على الأصح تخلفنا.. سياسيًا واقتصاديًا وعلميًا وتقنيًا وحضاريًا، للأسف الطرق مسدودةٌ، والأبواب موصدةٌ إلا من رحمة الله، الحياة الحزبية- كما نرى- في حالة سكون وكمون، كأنه الموت، أو هو الموت فعلاً، باستثناء أحزاب قليلة تُعد على أصابع اليد الواحدة، لا توجد لدينا أحزاب بأي معنى.. إنها مجرد ديكور، أو شكل يزيِّن صدرَ السلطة الحاكمة.

وحتى هذه الأحزاب القليلة مقيدةُ الحركة، معدومةُ التأثير والفعالية، غيرُ قادرة على التعبير عن نفسها وذاتها، ممنوعةٌ من برامجها وهياكلها وأدائها وطريقة عملها، لكن من المؤكد أيضًا أن السلطة الحاكمة نجَحت في اختراق هذه الأحزاب وإحداث شروخ وتصدعات بداخلها وفيما بينها؛ حتى تنكفئ على ذاتها وتنشغل بمشكلاتها فتنصرف عن الاهتمام بقضية الإصلاح الكبرى.

واستطاعت السلطة أن تدفع بالحياة السياسية إلى حجرة الإنعاش، فلا هي ماتت كي يتم تغسيلها وتكفينها وتشييعها ودفنها في أقرب مقبرة، ولا هي حيةٌ متحركةٌ نشطةٌ، تمارس حقها وتُعنى بمسئولياتها، إنها قابعةٌ هناك على الجهاز لا نسمع لها صوتًا سوى مجموعة من الأنفاس، والخراطيم تتدلى من أنفها وفمها، ويحيط بها أقاربها في حزن وأسًى، وأقصى ما يستطيعون فعلَه هو الدعاء وانتظار معجزة السماء.

لكن نسى الناسُ أن سُنةَ الله الماضية إلى يوم القيامة هي أن يتحركوا.. أن يفعلوا شيئًا.. إنه من الضروري أن يتذكروا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن أولى مراحل التغيير هي استعادة الثقة بالنفس، والاستعداد للبذل والتضحية، والالتفاف حول قيادة واعية مخلصة صادقة مجاهدة.

الحياة السياسية الموجودة الآن هي ديمقراطية مغشوشة، ديمقراطية من نوع خاص، فالنخب يتكلمون في كل شيء.. في السياسة والاقتصاد والزراعة والصناعة والتعليم.. إلخ، إنهم يقولون ما يريدون ويملأون الدنيا صراخًا وضجيجًا وعويلاً، والسلطة سعيدةٌ بذلك كل السعادة طالما سيقف الأمر عند هذا الحد، ثم ماذا تريد النخب أكثر من ذلك؟!

يا سادة.. لقد نجحت السلطة في أن تَشغل الرأي العام بأن تجعله مسحوقًا مطحونًا بلقمة الخبز التي لا يجدها، ووسيلة المواصلات التي تُهدر كرامتُه فيها، والتعليم الذي كلفه الجلد والسقط، والإعلام الذي يستخف بعقله ويعمل على تسطيح فكره، والصحة المعتلَّة.. كلى، وسكر، وضغط، وربو.. إلخ، فضلاً عن الأزمات النفسية التي يعانيها من قلق وتوتر واكتئاب.

أما أنتم أيها النخب فماذا تمثلون؟! إنكم لا تمثلون سوى أنفسكم، كما أن الشعب لا يَسمعكم ولا يهتم بما تقولون، ومن ثم فإن السلطة لن تُلقي لكم بالاً أو اهتمامًا، ومع ذلك فسوف تتيح لبعضكم فرصة الحديث في الغرف المغلقة، ونقد السلطة بأشد ما يكون النقد لا بأس بل هو أمر مطلوب.

يا سادة.. لا بد أن تقتربوا من الناس.. من مشكلاتهم وآلامهم ومعاناتهم.. لا بد أن تخاطبوهم بما يفهمون، وأن تكسبوا ثقتَهم، وأن تشحذوا هممَهم وعزائمَهم، وأن تعتقدوا أن التغيير لن يأتي إلا من خلالهم، وأن تفتحوا باب الأمل والرجاء لديهم، وأن تقدموا- من أنفسكم- القدوةَ الصالحةَ في الدفاع عن الحرية والوقوف في وجه الظالمين، والانتصار للعدل أيًّا كان صاحبُه، وأن تقصدوا من وراء ذلك كلِّه وجهَ الله تعالى؛ إذ بقدر الإخلاص يكون توفيقُه سبحانه.

تغيير النفوس ضرورة


د. توفيق الواعي
يمتاز الإنسان عن غيره من المخلوقات بأنه صاحب تفكير، وحامل عقل، فإذا عطَّل تفكيره وأهمل عقله؛ كان أشرَّ من الحيوان وأدنى مخلوقات الله، كما أن حضارة الأمم ونهضة الشعوب تكون نتاج التفكير وثمرات العقول؛ فمن ضَاعَ تفكيره وعَطِلَ عقلُه تعطَّلت بالتالي حضارته، وشُلَّت بالتأكيد نهضته، وهذه سنة البشرية في الغابرة، وحديث الأيام الليالي للحاضرين.
أشاب الصغير وأفني الكبير كرّ الليالي ومر العشي
إذا الليلة هرَّمت يومها أتى بعد ذلك يومٌ فتي


فإن للأيام والليالي أحاديثَ وإشاراتٍ وتصوراتٍ قد تكون أبلغَ من ناطق، وأنصح من خطيب، وأصدق من واعظ؛ فمن كان أصم وأعمى في واقعه سيظل في الحياة أعمى وأضلَّ سبيل، وهذه حال الأمم الخاملة والنائمة، وستظل إذا لم يكن لها بصيرة كاشفة.
الحال باقية كما صورتها من عهد آدم فما بها تغيير
البؤس والنعماء على حاليهما والحظ يعدل تارة ويجور
ومن القوي على الضعيف مسيطر ومن الغني على الفقير أمير
والنفس عاكفة على شهواتها تأوي إلى أحقادها وتثور

هذا وقت نبهنا الله سبحانه إلى مفاتيح شخصية الإنسان الحضارية والتغييرية التي يملكها، ومن أهمها: التفات الإنسان إلى إصلاح نفسه أولاً، وإنهاض روحه ثانيًا، وأن مشيئة الله تعالى في تغيير حال الشعوب إنما تجري وتنفذ من خلال حركة هؤلاء الأقوام أنفسهم، وتغيير اتجاههم وسلوكهم تغيرًا شعوريًّا وعمليًّا؛ فإذا غيَّر القوم ما بأنفسهم اتجاهًا وعملاً وغيَّر الله حالهم وفق ما غيَّروا هم أنفسهم ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت).

فالإنسان يملك زمام أمره، وقد جعله الله صالحًا للتأخر والتقدم والفلاح والبوار ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس)، والله سبحانه وتعالى يُضلُّ من أضلَّ نفسه وعطَّل مواهبَه وملكاتِه، ولهذا قال تعالى ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)﴾ (الأنفال).

يقول ليوتولستوي: "نعيش في عالم يفكر فيه كل الناس في تغيير العالم، لكن لا أحد يفكر في تغيير ذاته"، من السهل على أي إنسان أن يفكِّر في تغيير العالم، فهو بذلك يفكر في تغيير شيء خارج عنه، ولكنها مهمة صعبة تمامًا، فتخيل كل الأشياء التي يجب تغييرها ليتغير العالم، أليس أسهل من ذلك أن يغيّر كل شخص نفسه ويغير نظرته للعالم؟ قد يكون الخطأ الذي يراه في العالم كامنًا فيه، ألا يمكن فعلاً أن يكون الخطأ الذي يراه في العالم موجودًا في نظرته هو، وليس في العالم نفسه؟

تلك هي الحقيقة التي توصلت إليها البشريةُ اليوم بعد تاريخها الطويل؛ فقد توقفنا مؤخرًا عن محاولاتنا الفاشلة لتغيير العالم، وبدأنا نحاول أن نغير ما بأنفسنا، لكن يجب أن يتم التغيير بناءً على التفكير وليس فقط حبًّا في التغيير، فإذا أردت أن تصبح أفضل وأنجح مما أنت عليه الآن؛ فعليك أن تدرك أن هذا لا يحدث بشكل تلقائي، إذًا لا بد من البحث والتأمل والمراجعة المستمرة.

فهذا هو الاستثمار الذي تضعه في عملية التغيير؛ فالفائدة الناتجة من الاستثمار في الأذهان خير ألف مرة من الفائدة الناتجة من الاستثمار في مناجم المعادن النفيسة؛ فالمعادن النفيسة تنضب وتفنى، ولكن الأذهان النفيسة تنتج أذهانًا على شاكلتها وأفضل منها، وتستمر في تنمية الأجيال القادمة؛ فالتفكير السليم هو أفضل هدية وميراث تتركه لمن يخلفك لأنه لا ينتهي.

ولهذا نبَّه القرآن على تغيير النفوس، ورتب عليه تغيير الأحوال، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)، فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره؛ لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم؛ فيرتب عليه الله تصرفه بهم؛ فإنه لا يغير نعمةً أو بؤسًا ولا يغيِّر عزًّا أو ذلةً ولا يغير مكانةً أو مهانةً.. إلا أن يغيِّر الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم، وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون، ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لاحقًا له في الزمان بالقياس إليه.

وإنها لحقيقة تلقي على البشرية تبعةً ثقيلةً؛ فقد شاء الله وجرت سنته أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر، وأن تنفذ فيهم سنته بناءً على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم ولله در القائل: "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم"، فالجهاد الحقيقي هو في النفس التي بين جنبيك، إن انتصرت عليها كنت على غيرها أقدر، وإن عجزت أمامها كنت على سواها أعجز.

فالفارق الوحيد بين الإنسان الفاشل والناجح هو التفكير؛ قد يختلف الناس في حظوظهم وظروفهم؛ لذا فهذه الأشياء لا تصلح مقياسًا للنجاح، أما التفكير فيملكه كل الناس بالتساوي منذ مولدهم، ولكن بعضهم يتجه به وجهةً إيجابيةً فينجحون، ويتجه به آخرون وجهةً سلبيةً فيفشلون، ونحن لسنا بدعًا من هؤلاء وأولئك، وما أصبح ينفع "كنا" و"كانوا".
قد كان جامعنا في الأرض قاطبة بالعلم أعلام خصت بتفضيل
لم يغن "كان" و"كنا" في الحياة ولا يجدي سوء عمل يقضي بتبديل

فهل نعي كما وعت أوائلنا ونسمع قول ربنا سبحانه ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).

إذن فتغيير النفوس هو تغيير الأحوال؛ فهل نفقه ذلك؟ والله نسأل أن يوفق وأن يعين.. آمين.. آمين.

رمضان شهر تحرير الإرادة والانتصار على النفس



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..

فشهر رمضان هو شهر تحرير الإرادة الإنسانية، والانضباط الأخلاقي، والتخلُّص من الضعف النفسي والتراجع الروحي، والتعالي على الأنانية والفردية، وتجاوز التفرق والتشرذم إلى الوحدة والتعاون مع المخلصين للنهوض بالنفس, وبحاضر الأمة ومستقبلها، والعبور بها من حالة الوهن والتأخر والتخلُّف إلى القوة والسيادة والتقدم، وهو دورةٌ تدريبيةُ إصلاحيةُ ربانيةُ تشمل الأمة بمجموعها، تتلقَّاها الأمة شهرًا كل عام؛ لتصحيح المسيرة وتقويم العوج والانحراف، وهي مدةٌ كافيةٌ سنويًّا لغسل الروح، وتجديد الإيمان، وتزكية النفوس، والتسامي عن المادية الطاغية.. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185).

ومتى صلح القلب انفتح باب الإصلاح العام "أَلا وإنَّ في الجسدِ مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كله وإذا فسدت فسَد الجسد كله، ألا وهي القلب" (متفق عليه).

ومدرسة رمضان التربوية إنما تفتح سنويًّا لتتمَّ فيها عملية إصلاح هذا القلب، وقد كان لروحانيته العالية الفياضة أثرها الكبير في إصلاح النفوس وتجديد العزائم والإرادات، وتوحيد الأمة التي تصوم مع مطلع الفجر وتفطر مع مغرب الشمس، فتتوافق في عبوديتها لله مع الكون كله، وتلك هي مقدمة النصر في معارك الحياة المتجددة، ومن ثَمَّ رأينا انتصارات الأمة الكبرى في هذا الشهر، بدءًا من غزوة بدر يوم الفرقان وفتح مكة، وانتهاءً بمعركة العاشر من رمضان.

رمضان فرصة للمراجعة
إن رمضان فرصة مهمة لمراجعة النفس، على المستوى الفردي والجماعي، وعلى مستوى الأمة، ففي هذا الشهر بدأت رسالة الخير التي جاء بها رسول الإنسانية؛ محمد صلى الله عليه وسلم؛ داعية إلى مكارم الأخلاق، كالصدق والوفاء والعفو وكظم الغيط وحب الأوطان والتعاون الإنساني؛ لما فيه خير البشرية.

لقد جاءت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الخاتمة لتجعل الإصلاح عنوانها الأساسي، والمسلم لا يُعَدُّ مسلمًا إلا إذا بدأ بممارسة هذه العملية ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران:110).

القرآن دستورنا
هذا الإصلاح مستمدٌّ من القرآن العظيم، هذا الدستور الجامع الذي وضع الأصول العامة لحل المشكلات التي تواجه الناس، ودعا إلى تحقيق القيم الفاضلة التي تحتاجها النهضات ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: 9)؛ لأنه بإعداد المؤمن الصالح تتحقق له كل أسباب النجاح.

﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ في عالم الضمير والشعور بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء وعمارة الحياة، معتبرًا إصلاح النفس وتحرير الإرادة الإنسانية المدخل الصحيح لإصلاح الأمم والشعوب.. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).

﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ في علاقات الناس بعضهم ببعض؛ بما يحقق التكافل الإنساني والتعاون البشري، ويقيم هذه العلاقات على أساس من العدالة الثابتة التي لا تتأثَّر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8).

﴿يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ في نظام الحكم بما يحقق العلاقة العادلة المتوازنة بين الحاكم والشعب، وفي نظام المال والاقتصاد بما يدفع عجلة التنمية والإنتاج، وفي نظام القضاء بما يحقق العدل الذي تستقر به الأحوال، وفي نظام التعامل الدولي بما يحقق التكريم اللائق بعالم الإنسان، ويحفظ لكل أمة كرامتها وخصوصيتها.

رمضان والمشروع الإصلاحي
إن رمضان فرصة للتذكير بالمشروع الإصلاحي الشامل الذي صارت أمتنا في أمسِّ الحاجة إليه في كل مؤسسات المجتمع، وفي هذا الصدد فإنني أذكِّر ببعض أهم ملامح هذا المشروع الإصلاحي:
1- أنه مشروع شامل لكل مناحي الحياة ، فهو يشمل الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والتعليمي والإعلامي، بعد أن استطاع المفسدون في الأرض- من خلال الزواج غير الشرعي بين السلطة والثروة- أن يشيعوا في الأمة اليأس والفوضى والرشوة والوساطة والمحسوبية، وأن يقزِّموا دور الأمة عالميًّا، ويهدروا كل مقومات النجاح والنمو لصالح مكاسبهم الشخصية والعائلية الضيقة.

2- أنه مشروع شامل لصالح كل فئات وطوائف الأمة، فلا يعمل لصالح فئة، ولا يصوغ الدساتير والقوانين لصالح طائفة، وإنما يصوغ للأمة كلها ويعتبرها وحدة واحدة، وإن اختلفت أديانها ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة: 8).

3- أنه في حاجة لتضافر جهود جميع المخلصين من أبناء الأمة، فيشترك فيه غير المسلم مع المسلم والمرأة مع الرجل، باعتبار الجميع لهم نفس الحقوق وعليهم ذات الواجبات، ومن مصلحة الجميع تحقيق الإصلاح، ولا نجاح لمشروع الإصلاح الذي يريد نقل الأمة إلى مصاف الأمم المتقدمة إلا حينما يدرك كل إنسان أن عليه دوراً وأن عليه واجباً، وأن من الضروري إشعار المفسدين برفض فسادهم، والمواجهة العامة لكل ظواهر الفساد والانحلال في المجتمع.

أما حينما تتقوقع الأمة، وتصبح مجموعة من الإمَّعات، ويهتم كل فرد بنفسه، ولا يهمه أن يرى فسادا قائما، ولا يشغله أن يقوم عوجا حاصلا، فسوف تغرق السفينة بمن فيها "‏مَثَلُ الْقَائِمِ على حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا على سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا على مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا على أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا" (متفق عليه).

إن تحول أفراد الشعب- رجالا ونساء، مسلمين ومسيحيين- إلى فعاليات العمل العام واقتناعهم بضرورة المشاركة في الشأن العام وفي مؤسسات المجتمع المدني أحد أهم ركائز الإصلاح، وعلى عاتق الأحزاب والهيئات السياسية والنخب الفكرية والثقافية والتربوية وجماعات العمل العام يقع عبء توظيف كل الطاقات في الأمة وتفعيل الجماهير وبخاصة الشباب، للقيام بدورهم الطبيعي في الإصلاح.

وما لم نحمل قضية الإصلاح كلُّنا، أفرادا وجماعات، كبارا وصغارا، رجالا ونساء، فإن الهلاك قادم لا محالة، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود:117).

4- أنه منهجٌ سلميٌ يؤثر الوسائل الديمقراطية، ويتبنى النضال الدستوري سبيلا لا بديل عنه لتحقيق الأهداف الوطنية، ويرفض بكل حزم وإصرار خيار العنف أو العمل التآمري، وفي ذات الوقت يتصدى بكل عزيمة وبكل الوسائل القانونية والشعبية لمواجهة الاستبداد والطغيان وتزوير إرادة الأمة، ويقاوم بكل إصرار محاولات غرس اليأس والإحباط في نفوس الشباب.

هيا نتعاون على الإصلاح
من هذا المنطلق كان اجتماع الإخوان المسلمين مع قوى المجتمع الحية من الأحزاب والهيئات الوطنية والجمعية الوطنية للتغيير على مطالب الإصلاح السبعة المتفق عليها، ودعوة جماهير الأمة إلى التفاعل معها والمشاركة الجادة في التوقيع عليها، كمقدمة للإصلاح السياسي في مصر، ومن ثم كمدخل لعملية الإصلاح الشامل التي تتوق إليها جماهير الأمة، وسيبقى الإخوان المسلمون حريصين على التواصل مع كافة قوى المجتمع، وعلى إنجاح كل الجهود الرامية لتوحيد صفوف القوى الوطنية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وهم يعلمون تمام العلم أن طريق الإصلاح الحقيقى طويل يحتاج إلى صبر وتضحيات ، لكن أجر العاملين فيه جزيل ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ (الأعراف: 170).

وإذ يأتي رمضان هذا العام ومصر مقبلة على انتخابات نيابية ومن بعدها انتخابات رئاسية، فإن كافة قوى الأمة السياسية والأهلية مطالبة بتفعيل هذا المشروع الإصلاحي، وبالتنسيق في المواقف؛ لإجبار النظام الحاكم على التجاوب مع مطالب الإصلاح والتغيير، وإطلاق المعتقلين السياسيين، وتدعيم الديمقراطية، والقبول بتحقيق ضمانات نزاهة العملية الانتخابية، وإلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات، وتعديل المواد الدستورية المعيبة لفتح باب الترشح لكل راغب في خدمة هذا الوطن، وإعطاء الشعب وحده حق اختيار وتحديد من يقوده للمستقبل.

صبرًا أيها المجاهدون
أما أحبتنا خلف أسوار الظلم الذين يدفعون من أعمارهم وأموالهم وصحتهم ضريبة السير بمشروع الإصلاح والتغيير فنقول لهم: صبرا، فإن ليل الظلم قد آذن بزوال، وإن أمتكم لَتُقَدِّر وتُثَمِّن جهادكم وتضحياتكم في سبيل رفعة وطنكم، والله معكم بنصره وتأييده﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ (إبراهيم: 42) ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: 277).

والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نفحات وعطايا رمضان[02/09/2010][14:02 مكة المكرمة]


رسالة من أ. د محمد بديع- المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومَن والاه، وبعد..
ما زالت الفرصة بين أيدينا
الحديث عن عطايا شهر رمضان لا تنقطع نفحاته، وها نحن في أيام الفرصة المتبقية من بركات الشهر قبل رحيله، في هذه العشر التي هي في ضيافة الرحمن، وإن أطلقوا عليها العشر الأواخر من رمضان، فهي في الحقيقة العشر الأوائل من سنةٍ جديدة، كلها رمضان؛ حيث فيها الاعتكاف والتماس ليلة القدر، وحضور ليلة المغفرة، وشهود يوم الجائزة.

فإلى نفحات الاعتكاف التي لا تُحصى؛ من حُسْنِ الصلةِ بالله، وحلاوة الإيمان، والنقاء والمغفرة، فليس الاعتكاف إلا في تحقيق مقصوده، كما أشار العلماء، والذي يتمثل في قول كل معتكف لربه: "لا أبرح عن بابك حتى تغفر لي".

وسيبقى اعتكافٌ آخر دائم بعد رمضان؛ ليس في أي مسجدٍ من مساجدنا، بل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي فيه الركعة بألف ركعة، وكل ذلك في مقابل السعي في مصلحة مسلمٍ من المسلمين، ولو لمدة بضع دقائق، قضاها الله أو لم يقضِها، كما وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

وإلى دعاء ليلة القدر؛ حيث العفو الشامل، وأنت في تهجدك تناجي الغفور: "اللهم إنك عفوٌ كريم تحبُّ العفو فاعفُ عني"، وحيث حياة التسامح والتغافر بين الناس، فإن كان من أجل اثنين يتلاحيان، أنسى الله نبينا ميعادها، لحكمة الله في أن تجتمع الأمة على الحُبِّ وتلمُّس الطاعة، وحيث المغفرة والتطهير، ففي الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه"، ورضي الله عن عمر بن الخطاب، حينما كان يفرح بعطايا رمضان، ويقول: "مرحبًا بمُطهرنا من الذنوب".

وإلى أيام يتروَّح فيها الصائمون نسائم سموِّ أنفسهم، وروائح صفاء قلوبهم، وروائع علوِّ أرواحهم، من بعد أن علموا أن الملائكة تساعدهم، وتستر عليهم عيوبهم، وتعينهم على الاستغفار والمغفرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا" (رواه أحمد).

وإلى ليلة المغفرة الشاملة، وهي آخر ليالي رمضان، روى أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يغفر لهم في آخر ليلة فيه"، فقيل: أهي ليلة القدر؟ قال: "لا، ولكن العامل إنما يُوفى أجره إذا انقضى عمله"، فإلى انتهاز الفرصة، وإلا الندم على الخسران، لقوله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف عبد أدرك رمضان ثم انسلخ رمضان ولم يُغفر له" (متفق عليه).

فيا مَن أدرك رمضان..
إنَّ معك رصيدًا من الكنوز الغالية، فالمحافظة عليها واجب الوقت الآن، حتى لا تُسرق منا بعد رمضان، بل فاحرصْ على المزيد من هذه العطايا:

- مِن صيامٍ اختصَّه الله له في الجزاء والعطاء، يقول البيهقي: لا يأخذ أحدٌ شيئًا من أجر الصيام في ردِّ المظالم، دون سائر الأعمال والطاعات.

- ومِن أجورٍ بلا حسابٍ من الجواد الكريم على خصال الخير، التي فتح الله لنا أبوابها وأغلق عنا أشرارها.

- ومن حياة المتعة والفرحة اليومية من ترك القبائح والتزين بالسلوك القويم.. ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾ (يونس).

- ومن مصاحبةٍ للصيام بالنهار والقرآن بالليل، فهما من أخلص أصدقائنا؛ لأنهما الوحيدان اللذان يشفعان لنا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة" (رواه أحمد).

- يقول كعب: "من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان ألا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألةٍ ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان، عصى ربه، فصيامه عليه مردود".

ويا أمتنا.. هيَّا ابدئي فرصتك
يأتي رمضان على عالمنا فينقلب إلى عالمٍ جديدٍ في كل شيء، على مستوى الأفراد والأسر والمجتمعات والدول، رغم جراحها في فلسطين والعراق وأفغانستان، وتستقبله بفرحةٍ قلبيةٍ رغم ما تعانيه شعوبها؛ من تآمر خصومها، وتكالب أعدائها، وجهالة أبنائها، وما ذلك إلا لما اختص الله تعالى به هذا الشهر الفضيل دون غيره من شهور العام، من عطايا ونفحات:
1- فلنعلنها توبةً مما نحن فيه..
وكأنَّ رمضان قبل رحيله يعلن على الملأ: هل أنتم مستعدون؟! يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾ (التوبة: من الآية 46)، فماذا أعددنا؟! ها هي التوبة تُنادينا نداء القريب إلى قلوبنا لحياة جديدة ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: من الآية 31)، ونعني بها اليوم التوبة من حياة إلى حياة، ومن تفكير إلى تفكير، ومن آمال إلى آمال، فما أحوج عالمنا إلى الإسلام الحي في ضمائر أبنائه، رجالاً ونساءً، شيوخًا وشبابًا، كما كان في أذهان وقلوب الصحابة الكرام.. ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: من الآية 29).

- فلنبدأها توبةً من حياةِ الهوان إلى حياةِ العزة، ومن حياة الواقع المرير إلى حياة استعادة الأمجاد، ومن حياة التواني والتراخي إلى حياة العمل والجهاد ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت).

- ولنعلنها توبةً من التفكير المحبط إلى التفكير الإيجابي، في مواجهة الظلم والفساد والاستبداد، ومن التفكير اليائس إلى التفكير الدافع نحو تقديم التضحيات من أجل الأمن والأمان ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)) (الأنعام).

- ولننشرها توبةً بين الناس، من آمال صغيرة وأحلام تافهة إلى الأمل الكبير والحلم العظيم، في التمكين لدين الله واستقرار العالم بالإسلام.. ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ (33) ﴾ (التوبة).

2- ولنجعلها حياةً نحو التغيير والإصلاح..
فالتغيير والإصلاح لا يتحققان إلا من هنا، باغتنام هذه النفحات والعطايا، في تزكية النفس وتطهيرها وتربيتها على الطاعة.. ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)؛ حتى يستشعر أفراد الأمة رقابة ربهم في كل حين، ويكثروا من ذكره، ويتلوا كتابه، ويدعوه في كل لحظاتهم، ويصحِّحوا مسارات حياتهم في المجتمع، معاملةً وخلقًا وسلوكًا، من البذل والجود والعطاء.. ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) ﴾ (آل عمران).

3- وليكن عيدنا في التحرر أولاً..
فالحرية في مناحي الحياة كلها هي العيد الحقيقي، حرية الفرد من التبعية، وحرية الوطن من الهيمنة، وحرية الأمة من سطوة غيرها عليها، فحينما يعلن القلب عن عبوديته لربه يتحرَّر من الخضوع للإنسان، والركون لأية قوة سوى القويِّ القهار.. ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ (هود: 113).

ثلاثون يومًا في رمضان، من أيام العتق والحرية، ترسِّخ في قلوبنا الاستقلالية، وتعمِّق في أرواحنا المسئولية؛ لنقف وقفة المارد ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: من الآية 8)، فتختفي الصور الكريهة من الاستبداد والظلم والتدليس والتلفيق والنهب والتضييق وتقييد الحريات والتزييف والتزوير.

4- ولنجعل أوجب واجباتنا من الآن:
- التخطيط والإعداد لحياة جديدة.. بخطة تليق بهذه الكنوز والعطايا، تترجم إلى برامج دقيقة للفرد والأسرة والمجتمع.

- الإرادة والعزيمة.. التي تدفعنا إلى العمل، والخروج من الضعف، ومقاومة الفتور، فعوامل النجاح كلها موجودة إن توفرت الإرادة.

- المزيد من الأعمال.. وذلك في المشاركات والإسهامات لإنقاذ أوطاننا، وفي المبادرات الخدمية، والمسارعات في اغتنام الأوقات؛ للخروج من الرتابة المقعدة عن العمل والداعية إلى الدعة.

نسأل الله كما سلَّمنا إلى رمضان، أن يسلم لنا رمضان، ويتسلَّمه منا متقبلاً، اللهم آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تهنئة ووصية


رسالة من: أ. د. محمد بديع
المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه... أما بعد:
فنتقدم بخالص التهنئة لجميع المسلمين في كافة أنحاء العالم بحلول عيد الفطر المبارك، أعاده الله علينا وعلى سائر المسلمين، ونحن جميعًا إلى الله أقرب، وعلى طاعته أدوم، وأن نكون ممن عفا الله عنهم، وكتب لهم عتقًا من النيران، كما نسأل الله أن يعيده علينا وعلى الأمة العربية الإسلامية، وقد تحررت أوطاننا، وتطهرت من المحتلين، وصار أبناء الأمة أحرارًا في بلادهم، وعادت فلسطين إلى أهلها، وفرحوا مع باقي الأمة بالصلاة في المسجد الأقصى، كفرحتهم بالصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي، وما ذلك على الله بعزيز..أيها المسلمون في كل مكان:
العيد فرح بالطاعة:
للمسلمين في عامهم عيدان، الفطر والأضحى، وكلٌّ منهما يكون بعد تأدية ركن من أركان الإسلام وفريضة من فرائضه، في إشارة واضحة بأن فرح المسلم يكون بالطاعة أكثر من فرحه بكل ما يجمع من الدنيا، وأساسهم في ذلك قول الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (يونس: 58).

ها هو الضيف الكريم الذي أمتع المسلمين أيامًا معدودات بطلعته المشرقة وأوقاته المملوءة بالخير والبر يرحل عنا، وودعه كل منا بطريقته.. فهل سيكون لنا فرحة في الآخرة كما فرحنا بالفطر في الدنيا فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" (البخاري).

فرح المسلم كل يوم عند حلول ساعة الإفطار، وفرح في آخر الشهر بانتهاء شهر الصيام، ومن ثمَّ يكبر الله ويحمده على هدايته وتوفيقه للطاعة قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185) أي: ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم.

وكذلك يكون ذكره لله بعد الانتهاء من تأدية فريضة الحج قال الله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ (البقرة:200) كما أمرنا بأن نكثر من ذكر الله بعد صلاة الجمعة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الجمعة:9–10) بل وبعد تأدية فريضة الصلاة أمرنا بالذكر، قال الله تعالى:
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ (النساء:103) ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات، وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله وسلم إلا بالتكبير.

أيها الأحباب الكرام في كل مكان:
إن فرح المسلم يكون بطاعة الله، وكلما وفقكم الله إلى طاعة، كبِّروا الله واحمدوه، ولعل هذا هو السبب في أن "الإخوان المسلمون" كلما وفقهم الله إلى طاعة، أو جمعهم على ذكر ودعوة، كان هتافهم "الله أكبر ولله الحمد"..

لأجل ذلك فاحرص أيها المسلم أن تعمر وقتك بالطاعات، فلا تتم عملاً لله إلا وتشرع في آخر، ولا تفرغ أيها المؤمن من فعل خير إلا وتنصب إلى خير آخر، وأنت بذلك تجعل كل أيامك عيدًا، بل كل ساعات يومك عيدًا يملؤه الفرح ويغمره السرور، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وبين الطاعة والطاعة لا حرج في أن تفرح بمباح اللهو، فلم يحرم ذلك الإسلام.

إلى الأحرار في السجون:
نتقدم بخالص التهنئة لأحبابنا الأحرار في سجون مصر والاحتلال الصهيوني والعراق وغيرها، ونسأل الله أن يفك أسرهم، وأن يطلق سراحهم، وأن يسعدوا في العيد مع آبائهم وزوجاتهم وأمهاتهم وأبنائهم وبناتهم، وجميع إخوانهم وأن يجعل ما لاقوه وما يلاقوه في ميزان حسناتهم جميعًا.

وإلى الأحرار في فلسطين:
كما نتقدم بخالص التهنئة إلى إخواننا المجاهدين في فلسطين من البحر إلى النهر، ونسأل الله لهم الثبات، وندعوه أن يربط على قلوبهم، وأن يجمع كلمتهم، وأن يوحد صفهم، في مواجهة الصهاينة المحتلين لأرض فلسطين أرض العروبة والإسلام، كما ندعوه أن يفيض عليهم من خيراته وبركاته، وأن يمدهم بجند ونصر من عنده، وإننا لنشد على أيديهم، قائلين: لا طريق لاسترداد الوطن المغتصب إلا بالجهاد والمقاومة، ونهيب بهم أن يتحدوا فيما بينهم، وأن يقفوا صفًا واحدًا في جهادهم لعدوهم، وأن يطمئنوا إلى أن كل الشعوب الحرة تساندهم وتدعمهم، واعلموا أيها الأحباب أن صمودكم وصبركم وجهادكم حرَّك أصحاب الضمائر الحية والحرة من المسلمين وغير المسلمين، وأن نصر الله قريب، والله أكبر ولله الحمد.

السبت، 4 سبتمبر 2010

بين (جماعة الإخوان) و(جماعة وحيد حامد)[03/09/2010][18:59 مكة المكرمة]


د. محمد البلتاجي
مقدمة:
1- الفارق كبير بين حرية الرأي والتعبير التي يجب أن ندافع عنها لكل إنسانٍ (مهما اختلفنا معه)؛ لأن هذا حق من حقوقه, ليس فقط على طريقة فولتير (قد اختلف معك في الرأي لكني على استعداد أن أدفع حياتي ثمنًا لحقك في التعبير عن رأيك)، لكن على طريقة القرآن الكريم الذي أوجب على المسلم الجهاد من أجل حماية حق الناس في الاختيار الحر للعقيدة ولو كانت غير الإسلام وصيانة دور العبادة ولو كانت صوامع وبيع.. قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) (الحج: من الآية 40).

وبيَّن ضرورة التصدي بالحجة والبرهان لما نعتقد أنه محاولةٌ لطمس الحقائق وتضليل الرأي العام حتى وإن اكتست بثياب العلم أو الدين أو الفن طالما جرى توظيفها وتسييسها لخدمة السلطان وتبرير الواقع المشين للأمة وتخدير الشعوب وإضعاف مقاومتها للفساد والاستبداد.

تلك الجريمة التي تزداد حين يقف من ورائها علماء وشيوخ وفنانون يستخدمون علمهم ودينهم وفنهم ليس لتنبيه الأمة وإيقاظها وإحيائها بل لمزيدٍ من الغفلة والتخدير والإحباط والتضليل.

2- أؤمن أن الإخوان المسلمين بشر يصيبون ويخطئون, وهم فصيلٌ من هذا الوطن إلى جانب غيرهم من الوطنيين وهم جماعة من المسلمين إلى جانب غيرهم من الجماعات العاملة للإسلام, ومن ثَمَّ- فهم كغيرهم من الفصائل والجماعات- من حق الكُتَّاب والأدباء والفنانون والسياسيون ورجال الدين أن يتناولوهم بالنقد والتحليل الموضوعي, بل أرى أن الإخوان يجب أن يكونوا أكثر الناس سعادةً حين يتعرَّض لهم عمل فني أو أدبي بالدراسة الموضوعية على طريقة (رحم الله رجلاً أهدى إليَّ عيوبي), وقد كنتُ أتمنى أن يكون هذا العمل على ذلك النحو الذي يبرز أخطاء الإخوان الفردية والجماعية بموضوعية (ليساعدهم على تصحيحها وتصويبها)، كما يبرز مزايا وإيجابيات الإخوان كفصيلٍ سياسي وتيار ديني ونسيج اجتماعي (ليستفيد منها غيرهم) سواء بسواء, لكن للأسف سار المسلسل في اتجاه الهدم دون البناء، وفي مسار التوظيف السياسي لصالح نظامٍ يحمل خصومة للفصيل الأقوى في المعارضة المصرية, وجاء العرض في توقيت يقصد من ورائه الشوشرة للتغطية على أكبر جرائم النظام بل وتبريرها ألا وهي خطف وسرقة إرادة الجماهير من خلال تزوير الانتخابات السابقة والقادمة.
*****
بعد هذه المقدمة أقف بعض الوقفات لأدلل على أن المسلسل عمد إلى تزويرالحقائق وتضليل الرأي العام في قضايا ما كان له أن يقع فيها لولا اعتماده (فيما يبدو لي) بصفةٍ رئيسية على مذكرات مباحث أمن الدولة, وأنا هنا أقف مع ثلاث قضايا بعينها ركَّز عليها المسلسل, وهي تكفي للطعن في مصداقية المسلسل: (مليشيات طلاب الأزهر- الأداء الإنساني الراقي لأمن الدولة- شخصية حسن البنا).

ميليشيات وحيد حامد
1- لا يختلف أحد على أن المشهد الذي قام طلاب الأزهر بتمثيله يوم السبت 9/11/2006م ونشرته جريدة (المصري اليوم) يوم الإثنين 11/11 /2006م تحت عنوان (مليشيات عسكرية بجامعة الأزهر) قد حمل رسالة سلبية للمجتمع المصري كله, بل حتى الطلاب أنفسهم الذين مثلوا هذا المشهد أدركوا خطأهم في التو فأصدروا بيانًا يوم الثلاثاء 12/11/ 2006م اعترفوا فيه- بشجاعةٍ نادرة- عن خطئهم غير المقصود واعتذروا فيه لزملائهم وأساتذتهم ومجتمعهم عن تلك الرسالة التي لم يعنوها.. أقصد مشهد التدريبات الشبيهة بالتدريبات العسكرية القتالية في الأرض المحتلة في مقابل حشود أمنية- كثيفة ومخيفة وغير مبررة- لكنها مصرية على كل حال.

2- كان واضحًا حاجة النظام في ذلك الوقت للمبالغة وخلط الأوراق وتوظيف الحدث وقتها للخروج من مآزق لا حصرَ لها عاناها طوال عام 2006م ثم جاء نوفمبر وبداية العام الدراسي الجديد ليشهد حالةً من التوتر والسخونة الشديدة إزاء إصرار الطلاب على التصدي للتزوير المستمر منذ سنين في انتخابات الاتحادات الطلابية فقامت تظاهرات واسعة مطالبة بحقوق الطلاب واحتجاجات واسعة ضد تزوير إرادتهم انتهت بعزم الطلاب على إجراء انتخابات يشرف عليها الأساتذة (وليس أمن الدولة)، ويشارك فيها الطلاب (بلا إقصاء ولا منع) ونجحت التجربة وشارك 108 ألف طالب في انتخابات حرة أفرزت اتحاد حر شكل قيامه حالة تحدي للمزورين الذين جُنَّ جنونهم فدفعوا بالبلطجية للتحرش والاعتداء على طلاب الإخوان داخل حرم الجامعة (وتحت سمع وبصر قيادات الجامعة والحرس الجامعي بل وبإشراف قيادات أمنية من البحث الجنائي من خارج الجامعة), وتم الاعتداء على طلاب الإخوان بالشوم والعصي والسنج والمطاوي وعبوات المولوتوف (وهذا مسجل بالصوت والصورة يستطيع الأستاذ وحيد حامد والقراء جميعًا العودة إليه في أرشيف الصحف والمواقع الإلكترونية والبرامج الحوارية التي نشرت طوال نوفمبر وديسمبر 2006م، وفي مضبطة مجلس الشعب يوم 22/11/2006م حين وقفت أواجه وزير التعليم العالي بالوقائع والصور عن هذه الأحداث)، ومن ثَمَّ كان العنف (الذي ينطلق وحيد حامد في مسلسله من مشهد مليشيات الأزهر لمحاولة ربط الإخوان به في عقل المشاهد) هو من الجانب الحكومي والأمني وضد الإخوان وليس من صناعتهم, ولم يكن حتى عنفًا متبادلاً، كما يحاول وحيد حامد أن يصور ليخلط الأوراق عن عمد... ومن ثَمَّ كان الخطأ الكبير الذي وقع فيه طلاب الأزهر حين مثلوا ذلك المشهد ليس في أنهم مارسوا عنفًا أو ردوا العنف عليهم بعنف من جانبهم, لكن لأن الصورة كانت في غاية الوضوح حتى تلك اللحظة التي جاء مشهدهم ليعطي الفرصة للنظام- الذي اتسم بالبلطجة ضد خصومه- أن يخلط الأوراق ويلقي بالجريمة بعيدًا عنه ويقف متهمًا لغيره ويفر بجريمته بل ويبرر مزيدًا من الجرائم على النحو الذي تم بعد ذلك من إحالة المدنيين من شرفاء الوطن إلى المحاكم العسكرية وتغييبهم وراء الأسوار سنوات بلا جريمة وسط تضليل للرأي العام بني على مشهد العرض العسكري الذي يعيد المسلسل الترويج له، وكأنه يبرر لاستمرار حبس الشرفاء بتخدير الرأي العام وقطع تعاطفه مع المحبوسين المظلومين.

ولعلي أحيل القارئ ليتصور مدى العنف الحكومي والأمني ضد طلاب الإخوان في ذلك الوقت ليس لشهادتي (التي قدمتها أمام البرلمان وأمام الرأي العام من خلال المقالات والحوارات التي شاركت فيها في تلك الفترة) ولكن لما كتبه الأستاذ سلامة أحمد سلامة في عموده بـ(الأهرام) يوم 7/11/2006م تحت عنوان (مزرعة الحيوان) تعقيبًا على البلطجة الأمنية ضد الإخوان، والذي أنهاه متهكمًا بقوله (إذا كانت كل الانتخابات في مصر مؤهلة للتزييف بحجة إبعاد العناصر الإسلامية فهل يمكن أن يكون الحل النهائي في طردهم من مصر واستئصالهم كما فعل هتلر باليهود أو على النحو الذي يجري في العراق الآن)، ولما كتبته د. شيرين أبو النجا يوم 21/11/2006م تحت عنوان (الواد شرابية والدف)، وذكرت فيه على لسان د. سعدية منتصر الأستاذة بجامعة عين شمس كيف أن البلطجية، وعلى رأسهم الواد شرابية كانوا يديرون الجامعة في ذلك اليوم.

كما أحيل لمانشيتات الصحف المصرية الحزبية والخاصة في تلك الفترة، والتي صدرت بعناوين (الانتخابات في دولة البوليس- مظاهرات بالجامعات وشطب آلاف الطلاب ودعاوى قضائية ضد التزوير.. راجع على سبيل المثال جريدة الوفد 2/11/2006م), أرجو القُرَّاء كما أرجو السيد وحيد حامد الدخول على الشبكة الإلكترونية ومراجعة تلك الأحداث (حية) وتلك التقارير الخبرية، وتلك الكتابات لعله يدرك حجم التزييف الذي وقع فيه المسلسل (حين اعتمد على رواية وزارة الداخلية للأحداث, وتجاهل هذا الكم الهائل من العنف الحقيقي الذي مارسه النظام بأمنه وبلطجيته ضد طلاب الإخوان؟).

الأداء الإنساني الراقي لأمن الدولة
ذلك النموذج الذي قدَّمه وحيد حامد وكأنه- أو وكأننا- نعيش في كوكبٍ آخر أو في بلدٍ آخر, أنا لن أناقش أحداث التعذيب في أقسام الشرطة على نحو ما حدث لعماد الكبير وكثيرين قبله وبعده, ولن أناقش التقارير السنوية للمجلس القومي لحقوق الإنسان والتي تتحدث في كل سنةٍ عن (الغياب القسري وسلخانات التعذيب وأخذ الرهائن والاعتقال المتكرر بالمخالفة لأحكام القضاء), ولن أسأل كيف بقي مسعد أبو الفجر وبهاء فزاعة في الحبس سنين رغم عشرات الأحكام القضائية بالإفراج عنهم, لكن شريط الأحداث مرَّ بي وأنا أستمع لعبارة المسلسل (ابتسم فأنت في أمن الدولة والحديث عن كرم الضيافة في فنادق أمن الدولة وهل هو أربع نجوم أم خمس) لأتذكر:
- مقتل الشهيد كمال السنانيري داخل السجن في 4/11/1981م، والادعاء بقتله لنفسه بحزام البنطلون شنقًا في حوض الغرفة!!!
- مقتل عبد الحارث مدني مايو 1994م بعد أيامٍ من اعتقاله واقتياده من مكتبه إلى مقارِّ أمن الدولة.
- مقتل محمد السقا الطالب بجامعة الإسكندرية بإطلاق الرصاص عليه في 9/4/2002م لمشاركته في مظاهرة طلابية نددت باستقبال كولن بول في مصر أثناء جريمة الكيان الصهيوني في جنين.
- مقتل مسعد قطب في نوفمبر 2002م وهو صائم في رمضان بعد أيام من اعتقاله وتعذيبه بمقر أمن الدولة بالجيزة (جابر بن حيان).
- مقتل المهندس أكرم الزهيري في يونيو 2004م بعد تركه لأيام دون علاج ولا مداواة.
- مقتل الأستاذ طارق الغنام بعد منع الأطباء من إسعافه في مسجد الغنام بعد اختناقه بالغاز الذي أطلقته قوات الشرطة بطلخا يوم 6/5/2005م.
- مقتل الشاب خالد سعيد بعد التمثيل والتنكيل به على يد مخبري الشرطة بمقهى الإنترنت يوم 6 يونيو 2010م.

تمنيتُ أن نعيش في ذاك الكوكب الذي يعيش فيه رجال أمن الدولة الذين صوَّرهم وحيد حامد في مسلسله, لكني أفقتُ على تلك الأحداث المحفورة في ذاكرتنا، والتي تمنع تجاوبنا بالتصديق لشخصيات مسلسل وحيد حامد.

من حق وحيد حامد أن يرى ملائكية أمن الدولة على النحو الذي يعرضه، لكن من حق الناس أن يتساءلوا لماذا ومتى تغيَّرت الصورة الذهنية لأمن الدولة لدى وحيد حامد نفسه فعرضها في هذا المسلسل مناقضةً تمامًا لعرضه هو لها في فيلمه (البريء)؟؟؟.

حسن البنا
لا أدري كيف اجترأ وحيد حامد على عرض شخصية بحجم حسن البنا على هذا النحو الهزلي الذي يعرضه؟!! وكيف أقنع نفسه أن هذا هو الرجل الذي سار على دربه الملايين في أنحاء المعمورة ولا يزالون بعد ثمانين سنة؟!! لن أدخل في مناقشة دفاعية عن حسن البنا، ونحن لا نقدس حسن البنا ولا ندَّعي له عصمة أو ملائكية، لكن وجب أن نتصدى للعبث في موضع الجدِّ ولإهالة التراب على كنوز وثروات وتاريخ هو ملك للأمة ومحل لفخرها واعتزازها, لن أطيل ولن أتحدث عن حسن البنا, لكني أحيل إلى شهادات العلماء والأدباء والكتاب والساسة والمجاهدين والشيوخ الفطاحل الذين عاصروا البنا, يستطيع الجميع البحث في "جوجل" عن شهادات هؤلاء واستنطاقهم عن حسن البنا ليقارنوا حسن البنا الذي عرفه هؤلاء جميعًا بحسن البنا الذي يقدمه وحيد حامد.

أدعو الجميعَ لقراءة ما قاله وكتبه (محمد التابعي وعلي الغاياتي وإحسان عبد القدوس ومصطفى أمين وكامل الشناوي ومكرم عبيد) عن حسن البنا, ولقراءة ما قاله (مفتي الديار المصرية في الأربعينيات محمد حسنين مخلوف وشيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي) عن حسن البنا؟ وما قاله (اللواء محمد صالح حرب باشا وعبد الرحمن باشا عزام) عن حسن البنا؟, ولقراءة ما قاله المجاهدون في أنحاء العالم الاسلامي (محمد أمين الحسيني- عبد الكريم الخطابي- علال الفاسي- الفضيل الورتلاني) عن حسن البنا, ولقراءة ما قاله السياسيون (جمال عبدالناصر ومحمد نجيب وصلاح سالم) وهم وقوف على قبر البنا, ولقراءة ما كتبه كبار علماء الشام أمثال (ناصر الدين الألباني ومحمد الحامد) وكبار علماء الهند (أمثال الشيخ أبو الحسن الندوي) عن حسن البنا، وهؤلاء جميعًا لم يكونوا يومًا من الإخوان المسلمين بل كثيرٌ منهم اختلفوا مع الإخوان لكن خلافهم لم يمنعهم أن يثبتوا رأيهم في حسن البنا على النحو الذي عرفوه به.

أكتفي هنا بنقل بعض هذه الشهادات لعل الأستاذ وحيد حامد وزملاءه يدركون أنهم تناولوا شخصية كاريكاتيرية لا علاقةَ لها البتة بـ(الملهم الموهوب) (مجدد الاسلام في القرن العشرين) (الإمام الشهيد) حسن البنا:
قال السيّد أبو الحسن الندوي رحمه الله: "إن كلَّ مَن عرف حسن البنا عن كثب لا عن كتب، وعاش متصلاً به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود وفاجأت مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وجهادها وقوتها الفذّة، فقد اجتمعت فيه صفات ومواهب تعاونت في تكوين قيادة دينية اجتماعية لم يعرف العالم العربي والإسلامي وما وراءه قيادة دينية أو سياسية أقوى وأعظم تأثيرًا أو أكثر إنتاجًا منها منذ قرون".

وفي كلمة للزعيم محمد نجيب عن حسن البنا عقب نجاح الثورة قال: "من الناس من يعيش لنفسه لا يُفكِّر إلا فيها ولا يعمل إلا لها فإذا مات لم يأبه به أحد ولم يحس بحرارة فقده مواطن, ومن الناس مَن يعيش لأمته واهبًا له حياته حاضرًا فيها آماله مضحيًا في سبيلها بكل عزيزٍ غالٍ وهؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون وامتلأت بذكرهم القلوب, والإمام الشهيد حسن البنا أحد أولئك الذين لا يدرك البلى ذكراهم ولا يرقى النسيان إلى منازلهم؛ لأنه رحمه الله لم يعش في نفسه بل عاش في الناس ولم يعمل لصوالحه الخاصة بل عمل للصالح العام".

أما الكاتب الأمريكي روبرت جاكسون فيرى أن البنا جمع خلال القادة والمصلحين والدعاة, يقول الرجل: "كان فيه من الساسة قوتهم ومن العلماء حجتهم ومن الصوفية إيمانهم ومن الرياضيين حماستهم ومن الفلاسفة مقاييسهم ومن الخطباء لباقتهم ومن الكتاب رصانتهم، وكان كل جانب من هذه الجوانب يبدو كأنه شخصية مستقلة في وقته المناسب, هذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلاً بالكنز الذي يقع في يده.. إنه رجل لا ضريب له في هذا العصر.. لقد مرّ في تاريخ مصر مرور الطيف العابر الذي لا يتكرر.. كان لا بد أن يموت هذا الرجل (الذي صنع التاريخ وحوَّل مجرى الطريق ) شهيدًا كما مات عمر وعلي والحسين، كان لا بد أن يموت مبكرًا، فقد كان غريبًا عن طبيعة المجتمع.. يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها، أو لم يأتِ وقتها بعد).

أخيرًا: إذا كان نجاح أي دراما يرجع لقدرته على أن يجعل المشاهد يتصور أنه يعيش الحقيقة والواقع, فلماذا عمد وحيد حامد إلى أن يجعل المشاهد في كل مشهد يقسم أن هؤلاء الممثلون يمثلون عليه, بل ويكذبون عليه؟!!.