
بقلم: د. محمد عبد الرحمن
إن رؤية الإخوان المسلمين لشركاء الوطن- وهم المواطنون من غير المسلمين- تنبع أساسًا من عقيدتهم الإسلامية، وتمثل ثابتًا من الثوابت عندهم، وتتخذ المظهر الواضح والتطبيق العملي عبر تاريخها الطويل وحاضرها الحالي.
وليس هذا الموقف جديدًا في تاريخ الدعوة، وإنما هو كذلك منذ أن بدأت، وليس به مساحات غامضة كما يدعي البعض، بل وضّح مؤسسها الإمام الشهيد كل جوانب هذه العلاقة، كما أن ذلك ليس تكتيكًا أو مناورة تتغير مع الأحداث والمكاسب، وإنما تقوم على رؤية شرعية وفهم ثابت لمنهج الإسلام.
ومع هذا الوضوح المنهجي والعملي، إلا أننا نجد بعض اللغط المثار في هذا المجال نتيجة للحملات الإعلامية غير المحايدة ضد الجماعة، وتستهدف تشويه دعوتها أو اجتزاء أقوال ومواقف دعاتها، أو تنسب لأفرادها أفعالاً متطرفة من الآخرين، وهم ليسوا ممن تربوا والتزموا بالجماعة، كما أن بعض الجهات تشارك وتتاجر بهذا التشويه نظير مكاسب سياسية على المستوى المحلي أو الدولي.
- رؤية الإمام البنا وهي من ثوابت الإخوان:
يحدد الإمام الشهيد هذه العلاقات بوضوح، مرتكزًا على شريعة الإسلام ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء المواطنون من غير المسلمين هم شركاء لنا في الوطن، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
وهذه الوحدة الوطنية يرفعها الإسلام إلى مرتبة القداسة الدينية، فهي عبادة يحاسب الله عزَّ وجلَّ عليها.
يقول الإمام البنا في ذلك: ".. وأن الإسلام الذي قدّس الوحدة الإنسانية العامة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)﴾ (سورة الحجرات)، ثم قدّس الوحدة الدينية العامة كذلك، فقضى على التعصب، وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعًا، ثم قدّس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة في غير صلف ولا عدوان، فقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)﴾ (سورة الحجرات).
هذا الإسلام الذي بُني على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط" رسالة نحو النورز.
ويقول- في نفس الرسالة-: ".. يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساسًا لنظام الحياة ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوحدة بين عناصر الأمة، ولكن الحق غير ذلك تمامًا".
د. محمد عبد الرحمن
".. إن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير، لم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح، الذي لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)﴾ (سورة الممتحنة)، "فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم" (رسالة نحو النور).
ويقول أيضًا: "فإن الإسلام، وهو دين الوحدة والمساواة كفل هذه الروابط بين الجميع، ماداموا متعاونين على الخير" رسالة دعوتنا.
ويقول: "ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين دعاة تفريق عنصري بين طبقات الأمة، فنحن نعلم أن الإسلام عُني أدق العناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان..، كما أنه جاء لخير الناس جميعًا ورحمة من الله للعالمين، ودين كهذا مهمته أبعد الأديان عن تفريق القلوب وإيغار الصدور.. وقد حرَّم الإسلام الاعتداء حتى في حالات الغضب والخصومة، فقال تعالى: : ﴿.. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)﴾ (المائدة)، وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين، وإن اختلفت عقائدهم وأديانهم ...".
"كما أوصى بإنصاف الذميِّين وحسن معاملتهم (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)" (رسالة إلى الشباب).
ويقول في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي:
"والأقلية غير المسلمة من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التامة في كل تعاليمه وأحكامه، وهذا التاريخ الطويل العريض للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعًا- مسلمين وغير مسلمين- يكفينا مؤنة الإفاضة والإسراف، فإن من الجميل حقًّا أنهم يقدرون هذه المعاني في كل المناسبات، ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم، وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم".
ما نقلناه هنا هو جزء من أقوال وتوجيهات الإمام عبر أكثر من رسالة وفي سنوات مختلفة، وذلك يؤكد أن هذه رؤية ثابتة مستمرة منذ قيام الجماعة.. وهو نفس ما سار عليه جميع قادتها، فيشير الأستاذ مصطفى مشهور مرشد الجماعة الأسبق في رسالة "الرؤية الواضحة الموجهة للإخوان المسلمين": إلى أن هذه الوحدة الوطنية تشملها وتؤصلها الهوية الإسلامية، فيقول: ".. اندمجت مصر بكليتها في الإسلام؛ عقيدته ولغته وحضارته، ودافعت عنه وذدت عن حياضه، وردت عنه عادية المعتدين، وجاهدت في سبيله ما وسعها الجهاد بمالها ودم أبنائها.. هذه الهوية الإسلامية لا تقف عند حدود المتدينين بالإسلام في العالم الإسلامي، وإنما تشمل كذلك الأقليات غير المسلمة التي انصهرت قوميًّا وحضاريًّا ووطنيًّا مع الأغلبيات المسلمة، فإذا كانت الهوية الإسلامية تمثل بالنسبة للمسلم عقيدةً وشريعةً وقيمًا وحضارةً وقوميةً ووطنيةً وثقافةً وتاريخًا وتراثًا في الفكر وفي القانون، بنفس القدر الذي تمثله بالنسبة للمواطنين غير المسلمين في هذه الجوانب سواءً بسواءٍ".
ويؤكد الإمام الشهيد وضوح هذا الموقف:
".. ذلك موقف الإسلام من الأقليات غير المسلمة واضح، ولا غموض فيه ولا ظلم معه" رسالة نحو النور،
وعن الموقف من الأجانب والشعوب الغربية:
يوضح الإمام البنا ذلك فيقول: وأحب أن أؤكد لحضراتكم تأكيدًا قاطعًا أن سياسة الإسلام داخلية أو خارجية تكفل- تمام الكفالة- حقوق غير المسلمين، سواء كانت حقوقًا دوليةً، أو كانت حقوقًا وطنيةً للأقليات غير المسلمة، وذلك لأن شرف الإسلام الدولي أقدس شرف عرفه التاريخ " (من رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين).
ويقول: "وموقفه من الأجانب موقف سلم ورفق ما استقاموا وأخلصوا، فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم، فقد حدَّد القرآن موقفنا منهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)﴾ (آل عمران).
وقد حدد الإسلام تحديدًا دقيقًًا، من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم، ولا نتصل بهم.. ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)﴾ (الممتحنة)، وليس في الدنيا منصف واحد يكره أمة من الأمم على أن ترضى بهذا الصنف دخيلاً فيها، وفسادًا كبيرًا بين أبنائها ونقضًا لنظام شئونها". اهـ. (رسالة نحو النور).
نحن الإخوان لسنا في عداء مع الإنسان الغربي في أي قطر كان، فالإنسان من حيث هو إنسان تجمعنا به آصرَّة الإنسانية، أما موقفنا وحسابنا، فإنه مع الإدارة والحكومة الغربية، التي تستعبد بلاد المسلمين وتغتصب حقوقهم، أو تساند الظالمين المعتدين على ذلك.
الموقف من السلام العالمي والتعاون الدولي:
يرفع الإمام ويوجه دعوته للتعاون والسلام العالمي لخير الإنسانية كلها، فيقول: "الإنسانية لها دعامتان قويمتان، لو بُنيت عليهما الإنسانية لارتفعت بالبشر إلى علياء السموات:
1- الناس لآدم، فهم إخوان، عليهم أن يتعاونوا، وأن يسالم بعضهم بعضًا، ويدل بعضهم بعضًا على الخير.
2- والتفاضل بالأعمال، فعليهم أن يجتهدوا كل من ناحيته، حتى ترتقي الإنسانية. (رسالة دعوتنا).
فمن دعوتكم أيها الإخوان الأحبة أن تساهموا في السلام العالمي، وفي بناء الحياة الجديدة للناس، بإظهارهم على محاسن دينكم وتجلية مبادئه وتعاليمه لهم وتقديمها إليهم (من رسالة اجتماع رؤساء المناطق).
".. إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله، فهم ينادون بالوحدة العالمية؛ لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه، ومعنى قول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (١٠٨)﴾ (الأنبياء)، ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعًا" (من رسالة نحو النور).
ويقول مؤكدًا لهذه المعاني من الحرص على السلام والتعاون الدولي ".. ولسنا من الغفلة وضعف الإدراك؛ بحيث نعتقد أن في وسعنا أن نعيش بمعزل عن الناس، وبمنأى عن الوحدة العالمية التي انطلقت من حناجرنا– نحن المسلمين- أول صوت يهتف بها ويدعو إليها ويتلو آيات الرحمة والسلام..، ولكننا ندرك أن الدنيا في حاجة إلى التعاون وتبادل المصالح والمنافع، ونحن على استعداد لمناصرة هذا التعاون وتحقيقه في ظل مثل عليا فاضلة، تضمن الحقوق وتصون الحريات، ويأخذ معها القوي بيد الضعيف حتى ينهض". (رسالة اجتماع رؤساء المناطق).
ويتحقق ذلك ".. حين يعود الغرب إلى الإنصاف، ويدع سبيل الاعتداء والإجحاف، فتزول هذه العصبية وتحل محلها الفكرة الناشئة، فكرة التعاون بين الشعوب على ما فيه خيرها وارتقاؤها". (رسالة دعوتنا في طور جديد).
ويقول في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي تحت عنوان "أصول الإسلام كنظام اجتماعي" ".. إن الإسلام كان أول وأكمل تشريع خطا في سبيل إقرار السلام العالمي أوسع الخطوات، ورسم لاستقراره أوفى الضمانات، التي لو أخذت الأمم بها وسلك الحكام والزعماء والساسة نهج سبيلها لأراحوا واستراحوا ومن ذلك:
1- تقديس معنى الإخاء بين الناس والقضاء على روح التعصب.
2- الإشادة بفضل السلام، وطبع النفوس بروح التسامح الكريم.
3- حصر فكرة الحروب في أضيق الحدود، وتحريم العدوان بكل صوره وإشاعة العدل والرحمة واحترام النظام والقانون حتى في الحرب نفسها". اهـ (باختصار).
ويقول في نفس الرسالة: ".. ولقد دعَّم الإسلام هذه المعاني النظرية والمراسم العملية ببث أفضل المشاعر الإنسانية في النفوس من حب الخير للناس جميعًا والترغيب في الإيثار ولو مع الحاجة.. وتقرير عواطف الرحمة حتى مع الحيوان، فأبواب الجنة تفتح لرجل سقى كلبًا وتبتلع الجحيم امرأة؛ لأنها حبست هرة بغير طعام، كما جاء ذلك وغيره كثير من مثله في أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
" والتعامل بين المسلمين وبين غيرهم من أهل العقائد والأديان إنما يقوم على أساس المصلحة الاجتماعية والخير الإنساني.. وبذلك قضى الإسلام على كل مواد الفرقة والخلاف والحقد والبغضاء والخصومة بين المؤمنين من أي دين كانوا".
وفي رسالة اجتماع رؤساء المناطق، عن أسس التعاون مع الدول الأجنبية:
".. فنحن نطلب أولاً لوادي النيل أن تجلوا عنه الجنود الأجنبية، فلا يكون هناك جيش احتلال في أية بقعة من بقاعه.. إن كسب القلوب وإرضاء النفوس والاعتراف بالحقوق هو أضمن وسيلة لتبادل المنافع والمحافظة على المصالح".
".. إننا لا نكره الأجانب ولا نريد أن نقطع صلات التعاون بيننا وبينهم، ونحن نعلم تمامًا أننا لا نستغني عن رءوس أموالهم وعن خبرتهم الفنية، ولكن لا نريد كذلك أن يكون هذا التعاون على قاعدة أن لهم الغنم وعلينا الغرم، والواجب أن تقدّر كل هذه العوامل الأجتماعية والاقتصادية".
"ونحن نريد بعد ذلك كله ونتمنى للعالم كله أمنًا وطمأنينة وسلامًا طويلاً وراحة بال، ولا نظن ذلك يتأتى إلا بالعدل والإنصاف ونحن على هذه الفطرة جُبلنا" ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)﴾ (الزخرف). اهـ.
- التحذير من إساءة استخدام ذلك ضد الإسلام والوطن:
يوضح الإمام الشهيد ويحذر أن تتخذ تلك الدعوة للوحدة الوطنية ذريعة لغير حقيقتها، ويرد على التخوفات والشبهات التي يثيرها البعض، فيقول رحمه الله: ".. ولكننا- إلى جانب هذا- لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا ولا نساوم في سبيلها على عقيدتنا، ولا نهدر من أجلها مصالح المسلمين، وإنما نشتريها بالحق والإنصاف وكفى، فمن حاول غير ذلك أوقفناه عند حده، وأبنّا له خطأ ما ذهب إليه ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.." (رسالة إلى الشباب).
ويقول أيضًا: ".. يقول الناس: وما تفعلون بالأجانب وبغير المسلمين من المواطنين؟ فنقول: يا سبحان الله، لقد حلّ الإسلام هذا الإشكال وصان وحدة الأمة عن التشقق والانقسام، وقرر حرية العقيدة والتعبد وما يلحق بهما فقال القرآن الكريم: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: من الآية 256)، كما كان شعار التعامل بين المواطنين في أرض الإسلام دائمًا ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
على أننا نعود فنقول: أي نظام في الدنيا- دينيًّا أو مدنيًّا– استطاع أن يفسح في قلوب المؤمنين به والمتعصبين له والفانين فيه لغيرهم من المخالفين ما أفسح من ذلك الإسلام الحنيف الذي يفرض على المسلم أن يؤمن بكل نبي سبق، وبكل كتاب نزل، وأن يثني على كل أمة مضت، وأن يحب الخير، وأن يكون رحيمًا بكل ذي كبد رطبة حتى إن الجنة لتفتح أبوابها الثمانية لرجل أطفأ ظمأ كلب، وتسعر النار بأعمق دركاتها لامرأة حبست هرة- كما جاء بالحدث النبوي الشريف- هذا الدين الرحيم لا يمكن إلا أن يكون مصدر حب ووحدة وسلام ووئام" (من رسالة مؤتمر رؤساء المناطق).
ويرد الإمام البنا في هذا الشأن في (رسالة نحو النور):
".. الزعم بأن نظم الإسلام في حياتنا الجديدة، تباعد بيننا وبين الدول الغربية، وتعكر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها بعد أن كادت تستقر، هو أيضًا ظن عريق في الوهم؛ فإن هذه الدول إن كانت تسيء بنا الظنون، فهى لا ترضى عنا سواء تبعنا الإسلام أو غيره، وإن كانت قد صادقتنا بإخلاص وتبودلت الثقة بينها وبيننا؛ فقد صرح خطباؤها وساساتها بأن كل دولة حرة في النظام الذي تسلكه في داخل أرضها ما دام لا يمس حقوق الآخرين.
فعلى ساسة هذه الدول جميعًا أن يفهموا أن شرف الإسلام الدولي هو أقدس شرف عرفه التاريخ، وأن القواعد التي وضعها الإسلام الدولي لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها".
ويقول الإمام عن هذه الدول الغربية إنها " لا تتأثر إلا بشيء واحد هو ظروفها ومصالحها فقط، ولا يعنيها بعد ذلك نصرانية، فقد رأيناها في الحرب الماضية يحطم بعضها بعضًا.. وكلها مسيحية.. وها هم أولاء جميعاً يناصرون الصهيونية اليهودية- وهي أبغض ما تكون إليهم- لارتباط مصالحهم المادية وأغراضهم الاستعمارية بهذه المناصرة.
وإذن فلن يجدينا شيئًا عندهم أن نتنصل عن الإسلام، ولن يزيدهم فينا بغضًا أن نعلن التمسك به والاهتداء بهديه.
ولكن خطر التنصل من الإسلام والتنكر له عظيم على كياننا نحن، فما دمنا بعيدين عن تشرب روحه وتحقيق تعاليمه؛ فسنظل حائرين فتتحطم معنوياتنا، متفرقين فتضعف قوتنا.. إننا إن لم نتمسك بالإسلام فلن نكسب رضاهم وسنخسر أنفسنا، في حين أننا إذا تمسكنا به وتجمعنا من حوله واهتدينا بهديه كسبنا أنفسنا ولا شك، وكان هناك احتمال قوي أن نكسبهم أيضًا بتأثير قوة الوحدة، فأي الرأيين أولى بالاتباع يا أولى الألباب".
من رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي– بعنوان "ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد" باختصار بسيط.
- الإسلام ومعنى المواطنة:
أسَّس رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة، وكان داخل قبائلها العربية أسرًا يهودية متعددة، وهذا بخلاف تجمعات قبائل اليهود المجاورة والمتداخلة مع المدينة كيهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة.
ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ البداية وثيقة بمثابة دستور سياسي واجتماعي لهذه الدولة وهي تشير بوضوح إلى اعتماد المواطنة مبدأً أساسيًّا في تشكيل المجتمع من هذه الطوائف، فقد ورد فيها:
1- أن أهل يثرب (ومن تبعهم فلحق بهم) أمة واحدة من دون الناس.
2- أن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
3- أن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
وذكرت الوثيقة طوائف اليهود الأخرى الداخلة في ذلك: يهود بني الحارث، ويهود بني ساعدة، ويهود بني الأوس، ويهود بني ثعلبة.. إلخ.
4- وأن بطانة يهود كأنفسهم.
5- وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.." (انظر كتاب السيرة النبوية الصحيحة د. أكرم العمري ج1 صـ282، 283، 284).
وحق المواطنة هذا أنهم شركاء في الوطن، متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون وفق مبادئ الإسلام وأحكامه، وكذلك لهم هذه الحقوق أيضًا:
6- الأصل في علاقتهم بالسلطة والحكومة الإسلامية هو الرعاية والحماية وحسن التعامل والنصح لهم والعدل والإنصاف والبر، فهم في ذمة وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "من آذى ذميًّا أو معاهدًا أو انتقص منه فأنا حجيجه يوم القيامة".
7- ولهم حق تنظيم طوائفهم الدينية واختيار رؤسائهم الدينيين ومن يمثلهم دون تدخل من السلطات.
8- ولهم حرية ممارسة شعائر العبادة الخاصة بهم، والمحافظة على دور العبادة وبناء ما يكفي حاجتهم منها، وأغلب الكنائس في بلاد المسلمين لم تجدد أو تبن إلا في ظل الخلفاء المسلمين، وكما قال الليث بن سعد: أن الكنائس الحالية- وقتها- في مصر كلها بُنيت في عهد الإسلام.
كما لهم نفس الحقوق السياسية والاجتماعية من تشكيل الجمعيات المختلفة ودخول الانتخابات والتمثيل في البرلمان، وتولي المناصب ما عدا أمرًا واحدًا وهو رئاسة الدولة (حيث يمثل ذلك منصب الولاية العامة حسب التعريف الفقهي لها) إذ عليه واجبات دينية تشترط الإسلام؛ للقيام بها ومنها إمامة المسلمين في الصلاة وحراسة الدين وسياسة الدنيا وفق أحكام الإسلام، وفي غير ذلك لهم المساواة مع المسلمين في باقي المناصب، وهذه الخصوصية التي ذكرناها يعاملون أيضًا بمثلها؛ فلهم قانون الأحوال الشخصية الخاص بهم ولا تقام عليهم الحدود في الأمور الخاصة بدينهم مثل شرب الخمر وأكل لحم الخنزير.. إلخ.. فهذه المراعاة للدين وأصوله ميزانها واحد وتساوي بين المسلمين وغير المسلمين.
9- ومع حق المواطنة والمساواة مع المسلمين، فإنه لا تؤخذ منهم الزكاة، ولكنهم يتساوون مع المسلمين في باقي المعاملات ولهم نفس حقوق الرعاية المطلوبة من الدولة تجاه مواطنيها.
* الحكم الإسلامي بالتعبير المعاصر، هو حكم مدني وليس حكمًا دينيًّا أو كهنوتيًّا؛ فالاحتكام فيه ليس لأمر غيبي يدعيه الحاكم أو يقتصر على علماء الدين، وإنما الاحتكام لدستور وقانون مستمد من المرجعية العليا (القرآن والسنة) أي القانون المكتوب وقد توافق على تطبيقه غالبية الشعب.
* كما أن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها من غير المسلمين قد حلت محل مفهوم أهل الذمة، فالمواطنة ترتبط بالوطن استقرارًا فيه وولاءً له وانتماءً إليه فيكتسب جنسيته ويرتبط بأرضه
وهذه المواطنة تضم المسلمين وغير المسلمين.
وهى في المصطلح الإسلامي القديم تشمل:
1- المسلم الذي يؤمن بالإسلام.
2- الذمّي وهو من كان في ذمة الحكم الإسلامي، ويقبل بالانتماء لهذا الوطن.
3- أهل وأبناء هذا الوطن الذين ولدوا على أرضه وترعرعوا فيه سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
4- المستأمن، وهو الوافد إلى الوطن والمقيم فيه مؤقتًا؛ فهو في أمان دولة الإسلام حتى يرجع إلى بلده.
* وإن الضوابط والأسس التي يضعها الإسلام لسلامة المجتمع من قواعد الفضيلة وإقامة العدل والتعاون على البر وغيرها من أمور لا يختلف عليها أي دين من الأديان، بل وتطالب بها الإنسانية عبر عصورها.
* أما إذا حاول البعض المزايدة وأن يجعل من شعار المواطنة بديلاً عن المرجعية الإسلامية أو ضد قواعد الإسلام العادلة؛ فهذا لا نوافقه عليه.
حول موضوع الجزية ورؤية الإمام البنا:
الدارس لرؤية الإسلام في هذا الأمر، وكيف كان التطبيق العملي له، يجد الآتي:
- أن القواعد والضوابط في دخول الشعوب والأفراد غير المسلمين تحت سلطان الدولة الإسلامية تشمل:
أ) أن يقبل هؤلاء الناس أن يكونوا مواطنين في ظل هذا الحكم الإسلامي، شركاء في ذلك الوطن.
ب) والأمر الثاني أن تعاملهم الدولة الإسلامية (حكومةً وشعبًا) بالقسط والبر والرعاية مثلما تعامل أفرادها المسلمين، وتمكنهم من أداء شعائرهم التعبدية وأماكن العبادة الخاصة بهم ودون أي إكراه.
ج) والأمر الثالث أن توفر لهم الحماية والدفاع عنهم نظير ضريبة صغيرة كبدل عن الجندية؛ لإعفائهم منها إلا إذا رفضوا ذلك وطلبوا المشاركة في الدفاع والجندية.
* أما آية سورة التوبة التي ذُكر فيها المواجهة والقتال، فلم تكن موجهة للأفراد والشعوب، وإنما للحكومات التي تحكم هذه الشعوب وتمنع وصول دعوة الله إليهم، وتظلم وتنحرف عن مبادئ العدل والحرية؛ فكان أولاً التوجيه لهم بالأسلوب السلمي لتمكين الدعوة الإسلامية أن تصل بحرية إلى الناس وهم أحرار بعد ذلك من يشاء أن يؤمن ومن شاء أن يكفر، فكان القتال موجهًا للسلطة الحاكمة الظالمة المعتدية الرافضة لحرية الدعوة، وهدفه أن تقر بالخضوع والتسليم للدولة الإسلامية بحرية الدعوة.
* أما الجزية فهي نوع من الضريبة- لم يستحدثه الإسلام- وإنما كان موجودًا قبل الإسلام وبعد نزوله ومعمولاً به بين الأمم، ويمثل علامة للتبعية والخضوع، وإن كان استخدام الإسلام له من زاوية مختلفة عما اعتادت عليه الأمم الأخرى.
ولا يشترط الفقهاء أن تُسمى هذه الضريبة- ضريبة الإعفاء من الجندية- باسم الجزية، وقد طلبت بعض الطوائف ذلك على عهد سيدنا عمر بن الخطاب وأجابهم إليه.
فإذا عجزت الدولة عن الدفاع عنهم، أو اشتركوا في أعمال وتجهيزات متعلقة بأمن الوطن وحمايته، أو طلبوا هم عدم إعفائهم من الجندية دون إكراه لهم، رفعت عنهم ولم تؤخذ منهم، وهذا ما انتهى إليه الأمر في عصرنا الحاضر بمشاركة إخوة الوطن في الدفاع عنه وحمايته ومساواتهم في التجنيد، واختلطت دماؤهم بدماء المسلمين في مواجهة المحتل الأجنبي فأصبح الأمر مسألة تاريخية.
وإلى هذا ذهب الإمام البنا بكل وضوح في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي تحت عنوان: "أصول الإسلام كنظام اجتماعي" حيث يقول:
"الجزية: ضريبة كالخراج، وهي كلمة عربية مشتقة من الجزاء؛ لأنها تدفع نظير شيء هو الحماية والمنعة، وذهب بعض العلماء إلى أنها فارسية معربة؛ وعلى هذا فهي: نظام في الضريبة نقله الإسلام عن الفارسية ولم يبتكره".
ولقد قرر الإسلام ضريبة الجزية على غير المسلمين في البلاد التي فتحها نظير قيام الجند الإسلامي بحمايتهم وحراسة أوطانهم والدفاع عنها، في الوقت الذي قرر فيه إعفاءهم من الجندية، فهي "بدل نقدي" لضريبة الدم، وإنما سلك الإسلام هذه السبيل ولجأ إليها مع غير المسلمين من باب التخفيف عليهم، والرحمة بهم وعدم الإحراج لهم حتى لا يلزمهم أن يقاتلوا في صفوف المسلمين، فيتهم بأنه إنما يريد لهم الموت والاستئصال والفناء والتعريض لمخاطر الحرب والقتال، فهي في الحقيقة "امتياز في صورة ضريبة", ومقتضى هذا: أن غير المسلمين من أبناء البلاد التي تدخل تحت حكم الإسلام إذا دخلوا في الجند، أو تكلفوا أمر الدفاع أسقط الإمام عنهم الجزية، وقد جرى العمل على هذا فعلاً في كثير من البلاد التي فتحها خلفاء الإسلام، وسجل ذلك قواد الجيوش الإسلامية في كتب ومعاهدات ما زالت مقروءة في كتب التاريخ الإسلامي. اهـ.
- الواقع العملي في تاريخ الإخوان:
ما سبق أن أوضحناه هو رؤية الإخوان في هذا المجال وهي قائمة على فهمهم للشريعة الإسلامية، وقد فصّل الإمام الشهيد في أكثر من موضع بهذا الشأن، وإذا نظرنا في الواقع العملي التطبيقي سنجد أن الإخوان كانوا نموذجًا لما رباهم عليه الإمام الشهيد، ولم يكن ظهور جماعة الإخوان مصحوبًا بأي بُعد طائفي أو أي إثارة للمسلمين على المسيحيين، بل كان هناك الودّ والتعامل الاجتماعي الواسع، والصداقة الطيبة بين أفراد الجماعة وغيرهم من المسيحيين.. وهذه بعض النماذج والوقائع التاريخية.
1- في عام 1944 عندما أقدم الإخوان على شراء قصر كبير بميدان الحلمية ليكون مركزًا عامًّا ومقرًّا للدعوة لهم، ولم يكن لديهم المبلغ الذي تعاقدوا عليه فقاموا بعمل اكتتاب على مستوى القطر من الإخوان ومن محبيهم والمتعاطفين معهم.. فقد ساهم عدد كبير من أقباط مصر في هذا الاكتتاب كل بما استطاع؛ فمثلاً تبرع الخواجة "فرنكو" التاجر بـ10 جنيهات، وجرجس بك صالح بـ5 جنيهات، مريت بطرس غالي 20 جنيهًا، وأرمنيوس جرجس بـ500 مليم، وجبريل مرسال بـ200 مليم، ومريس فاغ بـ200 مليم، وشاكر حزقيال بـ200 مليم، وجاب الله كريمة بـ100 مليم، وولسن يونس بـ100 مليم، وإسطاس بك بـ100 مليم، وتوفيق جرجس بـ50 مليمًا.. وغيرهم كثير كان منهم الحرص على المساهمة والمشاركة رغم الحالة الاقتصادية التي كانت تمر بها مصر في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ ما يؤكد مدى العلاقة والعاطفة بينهم وبين الجماعة (راجع أوراق من تاريخ الإخوان الكتاب الخامس صـ71، 72).
2- كان هناك "خريستو" وهو مسيحي أصله لبناني ماروني في منطقة الإسماعيلية، أحب الإخوان وطلب أن ينضم لأحد الأسر الإخوانية؛ حيث أعجبه روح التكافل والأنشطة المجتمعية التي يقومون بها، واستجاب له الإخوان وكان في أسرة مسئولها الأستاذ على رزة، وكان يشاركهم في كل شيء ما عدا الصلاة والصيام.
وأعطى الإمام الشهيد توكيلاً لخريستو هذا؛ ليكون مندوبًا له في لجنة الطور في الانتخابات التي دخلها الإمام أواخر عام 1944م.
3- كان هناك صداقة ولقاءات بين الإمام البنا وقيادات الإخوان، وبين الأستاذ مكرم عبيد والأستاذ إبراهيم فرج، وهما من الرموز المسيحية الوطنية.
وعندما استشهد الإمام، اخترق مكرم عبيد الحصار المفروض من الأمن، وشارك في حمل الجثمان وتشييعه.
4- عندما قامت الحكومة بنقل الإمام الشهيد من وظيفته بالقاهرة إلى صعيد مصر؛ لإبعاده تحت ضغط الإنجليز، حاول البعض المغرض أن يرسل بشكاوى ضده؛ خوفًا أن ينقل نشاطه الإسلامي هناك في الصعيد المتوتر.
لكن الإمام الشهيد طمأن الجميع والتقى زعماء المسيحيين وقساوسة الكنائس هناك، وأوضح لهم طبيعة دعوته وطبيعة الإسلام الذي يدعو إليه، فقاموا بالتوقيع معه على طلب يطالب الحكومة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
5- كان قادة الإخوان ورموزهم بالصعيد مثل الأستاذ محمد حامد أبو النصر، والأستاذ حامد شريت وأحمد شريت وغيرهم على أحسن علاقة مع الأسر المسيحية، وكانت تلجأ لهم لحل مشاكلهم.
6- في عام 1948م قام صادق سلامة وهو مسيحي مصري، ووكيل نقابة الصحفيين بترشيح نفسه في البرلمان في انتخابات تكميلية وقتها، فقام الإخوان بتأييده بل واعتباره كأنه مرشحهم.
7- قام الإمام الشهيد بتعيين السادة: فانوس أخنوخ، ووهيب دوس، وميريت غالي أعضاء في اللجنة السياسية للإخوان المسلمين.
8- جميع شعب الإخوان في القطر المصري كانت على علاقة حسنة وطيبة بالمسيحيين، ويشاركون معهم في الأنشطة الاجتماعية والرياضية ويتبادلون الزيارات.
9- كان الإمام حريصًا على إشراك رموز الكنيسة في الفعاليات الوطنية التي تقيمها الجماعة وخاصة في قضية الجلاء وقضية فلسطين.
10- عندما حدث حريق كنيسة كفر قاسم 1951م، قام الأستاذ مكرم عبيد، وإبراهيم فرج بالدفاع عن الاتهامات التي وجَّهها الإنجليز للإخوان، وكشفوا تدبير الإنجليز وعملائهم لهذه المؤامرة وذلك الحادث.
11- واستمر هذا منهج الإخوان بعد الإمام الشهيد، وعندما خرجوا من السجون في منتصف أو أواخر السبعينيات، كان لهم دور فاعل في ترشيد الشباب في هذا المجال، وكان للمرشد العام الأستاذ عمر التلمساني جهدًا واضحًا في معالجة فتنة الزاوية الحمراء، ولم ينتظر إجراءات الحكومة في هذا الشأن والتي شابها العنف وعدم التوفيق.
12- وفي الانتخابات البرلمانية والنقابية، تعاون الإخوان مع زملائهم المسيحيين ففي عام 1987م بأسيوط قام الأستاذ محمد حامد أبو النصر بنفسه مع إخوانه بالدعاية للمرشح المسيحي جمال إسحق عبد الملاك وهو على رأس القائمة الانتخابية.
13- استمر التزاور والمجاملات في المناسبات الاجتماعية بين قيادات الإخوان والكنيسة، وإن كان لتدخل الحكومة وتسييس البعض لعرقلة هذه الصلة الوطنية بعض الأثر السلبي؛ لكن استمر الإخوان على موقفهم وعلى علاقتهم الحسنة؛ لأن هذا عقيدة عندهم وواجب ديني لديهم.
14- من المعروف والثابت أن الحفاظ على الوحدة الوطنية وحسن العلاقة مع شركاء الوطن هي من إستراتيجيات جماعة الإخوان وقواعدها الحاكمة، وأن هذا منهج عملي، يتربى عليه جميع أفراد الإخوان، وهم لم يكونوا أبدًا طرفًا في أية فتنة أو توتر طائفي طوال تاريخهم، رغم محاولات البعض إلصاق ما يفعله بعض المتطرفين عن جهل، ومحاولة نسبته زورًا لأفراد الجماعة.
15- لقد تعامل أفراد الإخوان قديمًا وحديثًا في مختلف مؤسسات المجتمع المدني ومنها النقابات والبرلمان والجمعيات والجامعات.. إلخ مع زملائهم المسيحيين؛ فكانوا نموذجًا لهذه الرؤية والتعاون والبر وحسن المعايشة. (والمقالة لا تتسع لذكر هذه النماذج الحديثة).
خاتمة:
من منطلق الحب والعاطفة الجياشة، يخاطب الإمام الشهيد الأمة كلها مسلمين ومسيحيين؛ لأنهم قومنا الذين ننتمي إليهم ونعتز بهم فيقول لهم:
".. ونحب كذلك أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تُزهق ثمنًا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء، وما أوقفنا هذا الموقف منهم إلا هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا وملكت علينا مشاعرنا.. فنحن حين نعمل للناس في سبيل الله، أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب ولن نكون عليكم يومًا من الأيام" (من رسالة دعوتنا للإمام الشهيد)... والله أكبر ولله الحمد.
إن رؤية الإخوان المسلمين لشركاء الوطن- وهم المواطنون من غير المسلمين- تنبع أساسًا من عقيدتهم الإسلامية، وتمثل ثابتًا من الثوابت عندهم، وتتخذ المظهر الواضح والتطبيق العملي عبر تاريخها الطويل وحاضرها الحالي.
وليس هذا الموقف جديدًا في تاريخ الدعوة، وإنما هو كذلك منذ أن بدأت، وليس به مساحات غامضة كما يدعي البعض، بل وضّح مؤسسها الإمام الشهيد كل جوانب هذه العلاقة، كما أن ذلك ليس تكتيكًا أو مناورة تتغير مع الأحداث والمكاسب، وإنما تقوم على رؤية شرعية وفهم ثابت لمنهج الإسلام.
ومع هذا الوضوح المنهجي والعملي، إلا أننا نجد بعض اللغط المثار في هذا المجال نتيجة للحملات الإعلامية غير المحايدة ضد الجماعة، وتستهدف تشويه دعوتها أو اجتزاء أقوال ومواقف دعاتها، أو تنسب لأفرادها أفعالاً متطرفة من الآخرين، وهم ليسوا ممن تربوا والتزموا بالجماعة، كما أن بعض الجهات تشارك وتتاجر بهذا التشويه نظير مكاسب سياسية على المستوى المحلي أو الدولي.
- رؤية الإمام البنا وهي من ثوابت الإخوان:
يحدد الإمام الشهيد هذه العلاقات بوضوح، مرتكزًا على شريعة الإسلام ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء المواطنون من غير المسلمين هم شركاء لنا في الوطن، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
وهذه الوحدة الوطنية يرفعها الإسلام إلى مرتبة القداسة الدينية، فهي عبادة يحاسب الله عزَّ وجلَّ عليها.
يقول الإمام البنا في ذلك: ".. وأن الإسلام الذي قدّس الوحدة الإنسانية العامة في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)﴾ (سورة الحجرات)، ثم قدّس الوحدة الدينية العامة كذلك، فقضى على التعصب، وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعًا، ثم قدّس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة في غير صلف ولا عدوان، فقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)﴾ (سورة الحجرات).
هذا الإسلام الذي بُني على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببًا في تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط" رسالة نحو النورز.
ويقول- في نفس الرسالة-: ".. يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساسًا لنظام الحياة ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوحدة بين عناصر الأمة، ولكن الحق غير ذلك تمامًا".
د. محمد عبد الرحمن
".. إن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير، لم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح، الذي لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)﴾ (سورة الممتحنة)، "فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم" (رسالة نحو النور).
ويقول أيضًا: "فإن الإسلام، وهو دين الوحدة والمساواة كفل هذه الروابط بين الجميع، ماداموا متعاونين على الخير" رسالة دعوتنا.
ويقول: "ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين دعاة تفريق عنصري بين طبقات الأمة، فنحن نعلم أن الإسلام عُني أدق العناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان..، كما أنه جاء لخير الناس جميعًا ورحمة من الله للعالمين، ودين كهذا مهمته أبعد الأديان عن تفريق القلوب وإيغار الصدور.. وقد حرَّم الإسلام الاعتداء حتى في حالات الغضب والخصومة، فقال تعالى: : ﴿.. وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)﴾ (المائدة)، وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين، وإن اختلفت عقائدهم وأديانهم ...".
"كما أوصى بإنصاف الذميِّين وحسن معاملتهم (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)" (رسالة إلى الشباب).
ويقول في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي:
"والأقلية غير المسلمة من أبناء هذا الوطن تعلم تمام العلم كيف تجد الطمأنينة والأمن والعدالة والمساواة التامة في كل تعاليمه وأحكامه، وهذا التاريخ الطويل العريض للصلة الطيبة الكريمة بين أبناء هذا الوطن جميعًا- مسلمين وغير مسلمين- يكفينا مؤنة الإفاضة والإسراف، فإن من الجميل حقًّا أنهم يقدرون هذه المعاني في كل المناسبات، ويعتبرون الإسلام معنى من معاني قوميتهم، وإن لم تكن أحكامه وتعاليمه من عقيدتهم".
ما نقلناه هنا هو جزء من أقوال وتوجيهات الإمام عبر أكثر من رسالة وفي سنوات مختلفة، وذلك يؤكد أن هذه رؤية ثابتة مستمرة منذ قيام الجماعة.. وهو نفس ما سار عليه جميع قادتها، فيشير الأستاذ مصطفى مشهور مرشد الجماعة الأسبق في رسالة "الرؤية الواضحة الموجهة للإخوان المسلمين": إلى أن هذه الوحدة الوطنية تشملها وتؤصلها الهوية الإسلامية، فيقول: ".. اندمجت مصر بكليتها في الإسلام؛ عقيدته ولغته وحضارته، ودافعت عنه وذدت عن حياضه، وردت عنه عادية المعتدين، وجاهدت في سبيله ما وسعها الجهاد بمالها ودم أبنائها.. هذه الهوية الإسلامية لا تقف عند حدود المتدينين بالإسلام في العالم الإسلامي، وإنما تشمل كذلك الأقليات غير المسلمة التي انصهرت قوميًّا وحضاريًّا ووطنيًّا مع الأغلبيات المسلمة، فإذا كانت الهوية الإسلامية تمثل بالنسبة للمسلم عقيدةً وشريعةً وقيمًا وحضارةً وقوميةً ووطنيةً وثقافةً وتاريخًا وتراثًا في الفكر وفي القانون، بنفس القدر الذي تمثله بالنسبة للمواطنين غير المسلمين في هذه الجوانب سواءً بسواءٍ".
ويؤكد الإمام الشهيد وضوح هذا الموقف:
".. ذلك موقف الإسلام من الأقليات غير المسلمة واضح، ولا غموض فيه ولا ظلم معه" رسالة نحو النور،
وعن الموقف من الأجانب والشعوب الغربية:
يوضح الإمام البنا ذلك فيقول: وأحب أن أؤكد لحضراتكم تأكيدًا قاطعًا أن سياسة الإسلام داخلية أو خارجية تكفل- تمام الكفالة- حقوق غير المسلمين، سواء كانت حقوقًا دوليةً، أو كانت حقوقًا وطنيةً للأقليات غير المسلمة، وذلك لأن شرف الإسلام الدولي أقدس شرف عرفه التاريخ " (من رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين).
ويقول: "وموقفه من الأجانب موقف سلم ورفق ما استقاموا وأخلصوا، فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم، فقد حدَّد القرآن موقفنا منهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)﴾ (آل عمران).
وقد حدد الإسلام تحديدًا دقيقًًا، من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم، ولا نتصل بهم.. ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)﴾ (الممتحنة)، وليس في الدنيا منصف واحد يكره أمة من الأمم على أن ترضى بهذا الصنف دخيلاً فيها، وفسادًا كبيرًا بين أبنائها ونقضًا لنظام شئونها". اهـ. (رسالة نحو النور).
نحن الإخوان لسنا في عداء مع الإنسان الغربي في أي قطر كان، فالإنسان من حيث هو إنسان تجمعنا به آصرَّة الإنسانية، أما موقفنا وحسابنا، فإنه مع الإدارة والحكومة الغربية، التي تستعبد بلاد المسلمين وتغتصب حقوقهم، أو تساند الظالمين المعتدين على ذلك.
الموقف من السلام العالمي والتعاون الدولي:
يرفع الإمام ويوجه دعوته للتعاون والسلام العالمي لخير الإنسانية كلها، فيقول: "الإنسانية لها دعامتان قويمتان، لو بُنيت عليهما الإنسانية لارتفعت بالبشر إلى علياء السموات:
1- الناس لآدم، فهم إخوان، عليهم أن يتعاونوا، وأن يسالم بعضهم بعضًا، ويدل بعضهم بعضًا على الخير.
2- والتفاضل بالأعمال، فعليهم أن يجتهدوا كل من ناحيته، حتى ترتقي الإنسانية. (رسالة دعوتنا).
فمن دعوتكم أيها الإخوان الأحبة أن تساهموا في السلام العالمي، وفي بناء الحياة الجديدة للناس، بإظهارهم على محاسن دينكم وتجلية مبادئه وتعاليمه لهم وتقديمها إليهم (من رسالة اجتماع رؤساء المناطق).
".. إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله، فهم ينادون بالوحدة العالمية؛ لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه، ومعنى قول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (١٠٨)﴾ (الأنبياء)، ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعًا" (من رسالة نحو النور).
ويقول مؤكدًا لهذه المعاني من الحرص على السلام والتعاون الدولي ".. ولسنا من الغفلة وضعف الإدراك؛ بحيث نعتقد أن في وسعنا أن نعيش بمعزل عن الناس، وبمنأى عن الوحدة العالمية التي انطلقت من حناجرنا– نحن المسلمين- أول صوت يهتف بها ويدعو إليها ويتلو آيات الرحمة والسلام..، ولكننا ندرك أن الدنيا في حاجة إلى التعاون وتبادل المصالح والمنافع، ونحن على استعداد لمناصرة هذا التعاون وتحقيقه في ظل مثل عليا فاضلة، تضمن الحقوق وتصون الحريات، ويأخذ معها القوي بيد الضعيف حتى ينهض". (رسالة اجتماع رؤساء المناطق).
ويتحقق ذلك ".. حين يعود الغرب إلى الإنصاف، ويدع سبيل الاعتداء والإجحاف، فتزول هذه العصبية وتحل محلها الفكرة الناشئة، فكرة التعاون بين الشعوب على ما فيه خيرها وارتقاؤها". (رسالة دعوتنا في طور جديد).
ويقول في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي تحت عنوان "أصول الإسلام كنظام اجتماعي" ".. إن الإسلام كان أول وأكمل تشريع خطا في سبيل إقرار السلام العالمي أوسع الخطوات، ورسم لاستقراره أوفى الضمانات، التي لو أخذت الأمم بها وسلك الحكام والزعماء والساسة نهج سبيلها لأراحوا واستراحوا ومن ذلك:
1- تقديس معنى الإخاء بين الناس والقضاء على روح التعصب.
2- الإشادة بفضل السلام، وطبع النفوس بروح التسامح الكريم.
3- حصر فكرة الحروب في أضيق الحدود، وتحريم العدوان بكل صوره وإشاعة العدل والرحمة واحترام النظام والقانون حتى في الحرب نفسها". اهـ (باختصار).
ويقول في نفس الرسالة: ".. ولقد دعَّم الإسلام هذه المعاني النظرية والمراسم العملية ببث أفضل المشاعر الإنسانية في النفوس من حب الخير للناس جميعًا والترغيب في الإيثار ولو مع الحاجة.. وتقرير عواطف الرحمة حتى مع الحيوان، فأبواب الجنة تفتح لرجل سقى كلبًا وتبتلع الجحيم امرأة؛ لأنها حبست هرة بغير طعام، كما جاء ذلك وغيره كثير من مثله في أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
" والتعامل بين المسلمين وبين غيرهم من أهل العقائد والأديان إنما يقوم على أساس المصلحة الاجتماعية والخير الإنساني.. وبذلك قضى الإسلام على كل مواد الفرقة والخلاف والحقد والبغضاء والخصومة بين المؤمنين من أي دين كانوا".
وفي رسالة اجتماع رؤساء المناطق، عن أسس التعاون مع الدول الأجنبية:
".. فنحن نطلب أولاً لوادي النيل أن تجلوا عنه الجنود الأجنبية، فلا يكون هناك جيش احتلال في أية بقعة من بقاعه.. إن كسب القلوب وإرضاء النفوس والاعتراف بالحقوق هو أضمن وسيلة لتبادل المنافع والمحافظة على المصالح".
".. إننا لا نكره الأجانب ولا نريد أن نقطع صلات التعاون بيننا وبينهم، ونحن نعلم تمامًا أننا لا نستغني عن رءوس أموالهم وعن خبرتهم الفنية، ولكن لا نريد كذلك أن يكون هذا التعاون على قاعدة أن لهم الغنم وعلينا الغرم، والواجب أن تقدّر كل هذه العوامل الأجتماعية والاقتصادية".
"ونحن نريد بعد ذلك كله ونتمنى للعالم كله أمنًا وطمأنينة وسلامًا طويلاً وراحة بال، ولا نظن ذلك يتأتى إلا بالعدل والإنصاف ونحن على هذه الفطرة جُبلنا" ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)﴾ (الزخرف). اهـ.
- التحذير من إساءة استخدام ذلك ضد الإسلام والوطن:
يوضح الإمام الشهيد ويحذر أن تتخذ تلك الدعوة للوحدة الوطنية ذريعة لغير حقيقتها، ويرد على التخوفات والشبهات التي يثيرها البعض، فيقول رحمه الله: ".. ولكننا- إلى جانب هذا- لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا ولا نساوم في سبيلها على عقيدتنا، ولا نهدر من أجلها مصالح المسلمين، وإنما نشتريها بالحق والإنصاف وكفى، فمن حاول غير ذلك أوقفناه عند حده، وأبنّا له خطأ ما ذهب إليه ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.." (رسالة إلى الشباب).
ويقول أيضًا: ".. يقول الناس: وما تفعلون بالأجانب وبغير المسلمين من المواطنين؟ فنقول: يا سبحان الله، لقد حلّ الإسلام هذا الإشكال وصان وحدة الأمة عن التشقق والانقسام، وقرر حرية العقيدة والتعبد وما يلحق بهما فقال القرآن الكريم: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: من الآية 256)، كما كان شعار التعامل بين المواطنين في أرض الإسلام دائمًا ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
على أننا نعود فنقول: أي نظام في الدنيا- دينيًّا أو مدنيًّا– استطاع أن يفسح في قلوب المؤمنين به والمتعصبين له والفانين فيه لغيرهم من المخالفين ما أفسح من ذلك الإسلام الحنيف الذي يفرض على المسلم أن يؤمن بكل نبي سبق، وبكل كتاب نزل، وأن يثني على كل أمة مضت، وأن يحب الخير، وأن يكون رحيمًا بكل ذي كبد رطبة حتى إن الجنة لتفتح أبوابها الثمانية لرجل أطفأ ظمأ كلب، وتسعر النار بأعمق دركاتها لامرأة حبست هرة- كما جاء بالحدث النبوي الشريف- هذا الدين الرحيم لا يمكن إلا أن يكون مصدر حب ووحدة وسلام ووئام" (من رسالة مؤتمر رؤساء المناطق).
ويرد الإمام البنا في هذا الشأن في (رسالة نحو النور):
".. الزعم بأن نظم الإسلام في حياتنا الجديدة، تباعد بيننا وبين الدول الغربية، وتعكر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها بعد أن كادت تستقر، هو أيضًا ظن عريق في الوهم؛ فإن هذه الدول إن كانت تسيء بنا الظنون، فهى لا ترضى عنا سواء تبعنا الإسلام أو غيره، وإن كانت قد صادقتنا بإخلاص وتبودلت الثقة بينها وبيننا؛ فقد صرح خطباؤها وساساتها بأن كل دولة حرة في النظام الذي تسلكه في داخل أرضها ما دام لا يمس حقوق الآخرين.
فعلى ساسة هذه الدول جميعًا أن يفهموا أن شرف الإسلام الدولي هو أقدس شرف عرفه التاريخ، وأن القواعد التي وضعها الإسلام الدولي لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها".
ويقول الإمام عن هذه الدول الغربية إنها " لا تتأثر إلا بشيء واحد هو ظروفها ومصالحها فقط، ولا يعنيها بعد ذلك نصرانية، فقد رأيناها في الحرب الماضية يحطم بعضها بعضًا.. وكلها مسيحية.. وها هم أولاء جميعاً يناصرون الصهيونية اليهودية- وهي أبغض ما تكون إليهم- لارتباط مصالحهم المادية وأغراضهم الاستعمارية بهذه المناصرة.
وإذن فلن يجدينا شيئًا عندهم أن نتنصل عن الإسلام، ولن يزيدهم فينا بغضًا أن نعلن التمسك به والاهتداء بهديه.
ولكن خطر التنصل من الإسلام والتنكر له عظيم على كياننا نحن، فما دمنا بعيدين عن تشرب روحه وتحقيق تعاليمه؛ فسنظل حائرين فتتحطم معنوياتنا، متفرقين فتضعف قوتنا.. إننا إن لم نتمسك بالإسلام فلن نكسب رضاهم وسنخسر أنفسنا، في حين أننا إذا تمسكنا به وتجمعنا من حوله واهتدينا بهديه كسبنا أنفسنا ولا شك، وكان هناك احتمال قوي أن نكسبهم أيضًا بتأثير قوة الوحدة، فأي الرأيين أولى بالاتباع يا أولى الألباب".
من رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي– بعنوان "ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد" باختصار بسيط.
- الإسلام ومعنى المواطنة:
أسَّس رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة، وكان داخل قبائلها العربية أسرًا يهودية متعددة، وهذا بخلاف تجمعات قبائل اليهود المجاورة والمتداخلة مع المدينة كيهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة.
ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ البداية وثيقة بمثابة دستور سياسي واجتماعي لهذه الدولة وهي تشير بوضوح إلى اعتماد المواطنة مبدأً أساسيًّا في تشكيل المجتمع من هذه الطوائف، فقد ورد فيها:
1- أن أهل يثرب (ومن تبعهم فلحق بهم) أمة واحدة من دون الناس.
2- أن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.
3- أن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
وذكرت الوثيقة طوائف اليهود الأخرى الداخلة في ذلك: يهود بني الحارث، ويهود بني ساعدة، ويهود بني الأوس، ويهود بني ثعلبة.. إلخ.
4- وأن بطانة يهود كأنفسهم.
5- وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.." (انظر كتاب السيرة النبوية الصحيحة د. أكرم العمري ج1 صـ282، 283، 284).
وحق المواطنة هذا أنهم شركاء في الوطن، متساوون في الحقوق والواجبات أمام القانون وفق مبادئ الإسلام وأحكامه، وكذلك لهم هذه الحقوق أيضًا:
6- الأصل في علاقتهم بالسلطة والحكومة الإسلامية هو الرعاية والحماية وحسن التعامل والنصح لهم والعدل والإنصاف والبر، فهم في ذمة وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "من آذى ذميًّا أو معاهدًا أو انتقص منه فأنا حجيجه يوم القيامة".
7- ولهم حق تنظيم طوائفهم الدينية واختيار رؤسائهم الدينيين ومن يمثلهم دون تدخل من السلطات.
8- ولهم حرية ممارسة شعائر العبادة الخاصة بهم، والمحافظة على دور العبادة وبناء ما يكفي حاجتهم منها، وأغلب الكنائس في بلاد المسلمين لم تجدد أو تبن إلا في ظل الخلفاء المسلمين، وكما قال الليث بن سعد: أن الكنائس الحالية- وقتها- في مصر كلها بُنيت في عهد الإسلام.
كما لهم نفس الحقوق السياسية والاجتماعية من تشكيل الجمعيات المختلفة ودخول الانتخابات والتمثيل في البرلمان، وتولي المناصب ما عدا أمرًا واحدًا وهو رئاسة الدولة (حيث يمثل ذلك منصب الولاية العامة حسب التعريف الفقهي لها) إذ عليه واجبات دينية تشترط الإسلام؛ للقيام بها ومنها إمامة المسلمين في الصلاة وحراسة الدين وسياسة الدنيا وفق أحكام الإسلام، وفي غير ذلك لهم المساواة مع المسلمين في باقي المناصب، وهذه الخصوصية التي ذكرناها يعاملون أيضًا بمثلها؛ فلهم قانون الأحوال الشخصية الخاص بهم ولا تقام عليهم الحدود في الأمور الخاصة بدينهم مثل شرب الخمر وأكل لحم الخنزير.. إلخ.. فهذه المراعاة للدين وأصوله ميزانها واحد وتساوي بين المسلمين وغير المسلمين.
9- ومع حق المواطنة والمساواة مع المسلمين، فإنه لا تؤخذ منهم الزكاة، ولكنهم يتساوون مع المسلمين في باقي المعاملات ولهم نفس حقوق الرعاية المطلوبة من الدولة تجاه مواطنيها.
* الحكم الإسلامي بالتعبير المعاصر، هو حكم مدني وليس حكمًا دينيًّا أو كهنوتيًّا؛ فالاحتكام فيه ليس لأمر غيبي يدعيه الحاكم أو يقتصر على علماء الدين، وإنما الاحتكام لدستور وقانون مستمد من المرجعية العليا (القرآن والسنة) أي القانون المكتوب وقد توافق على تطبيقه غالبية الشعب.
* كما أن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها من غير المسلمين قد حلت محل مفهوم أهل الذمة، فالمواطنة ترتبط بالوطن استقرارًا فيه وولاءً له وانتماءً إليه فيكتسب جنسيته ويرتبط بأرضه
وهذه المواطنة تضم المسلمين وغير المسلمين.
وهى في المصطلح الإسلامي القديم تشمل:
1- المسلم الذي يؤمن بالإسلام.
2- الذمّي وهو من كان في ذمة الحكم الإسلامي، ويقبل بالانتماء لهذا الوطن.
3- أهل وأبناء هذا الوطن الذين ولدوا على أرضه وترعرعوا فيه سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
4- المستأمن، وهو الوافد إلى الوطن والمقيم فيه مؤقتًا؛ فهو في أمان دولة الإسلام حتى يرجع إلى بلده.
* وإن الضوابط والأسس التي يضعها الإسلام لسلامة المجتمع من قواعد الفضيلة وإقامة العدل والتعاون على البر وغيرها من أمور لا يختلف عليها أي دين من الأديان، بل وتطالب بها الإنسانية عبر عصورها.
* أما إذا حاول البعض المزايدة وأن يجعل من شعار المواطنة بديلاً عن المرجعية الإسلامية أو ضد قواعد الإسلام العادلة؛ فهذا لا نوافقه عليه.
حول موضوع الجزية ورؤية الإمام البنا:
الدارس لرؤية الإسلام في هذا الأمر، وكيف كان التطبيق العملي له، يجد الآتي:
- أن القواعد والضوابط في دخول الشعوب والأفراد غير المسلمين تحت سلطان الدولة الإسلامية تشمل:
أ) أن يقبل هؤلاء الناس أن يكونوا مواطنين في ظل هذا الحكم الإسلامي، شركاء في ذلك الوطن.
ب) والأمر الثاني أن تعاملهم الدولة الإسلامية (حكومةً وشعبًا) بالقسط والبر والرعاية مثلما تعامل أفرادها المسلمين، وتمكنهم من أداء شعائرهم التعبدية وأماكن العبادة الخاصة بهم ودون أي إكراه.
ج) والأمر الثالث أن توفر لهم الحماية والدفاع عنهم نظير ضريبة صغيرة كبدل عن الجندية؛ لإعفائهم منها إلا إذا رفضوا ذلك وطلبوا المشاركة في الدفاع والجندية.
* أما آية سورة التوبة التي ذُكر فيها المواجهة والقتال، فلم تكن موجهة للأفراد والشعوب، وإنما للحكومات التي تحكم هذه الشعوب وتمنع وصول دعوة الله إليهم، وتظلم وتنحرف عن مبادئ العدل والحرية؛ فكان أولاً التوجيه لهم بالأسلوب السلمي لتمكين الدعوة الإسلامية أن تصل بحرية إلى الناس وهم أحرار بعد ذلك من يشاء أن يؤمن ومن شاء أن يكفر، فكان القتال موجهًا للسلطة الحاكمة الظالمة المعتدية الرافضة لحرية الدعوة، وهدفه أن تقر بالخضوع والتسليم للدولة الإسلامية بحرية الدعوة.
* أما الجزية فهي نوع من الضريبة- لم يستحدثه الإسلام- وإنما كان موجودًا قبل الإسلام وبعد نزوله ومعمولاً به بين الأمم، ويمثل علامة للتبعية والخضوع، وإن كان استخدام الإسلام له من زاوية مختلفة عما اعتادت عليه الأمم الأخرى.
ولا يشترط الفقهاء أن تُسمى هذه الضريبة- ضريبة الإعفاء من الجندية- باسم الجزية، وقد طلبت بعض الطوائف ذلك على عهد سيدنا عمر بن الخطاب وأجابهم إليه.
فإذا عجزت الدولة عن الدفاع عنهم، أو اشتركوا في أعمال وتجهيزات متعلقة بأمن الوطن وحمايته، أو طلبوا هم عدم إعفائهم من الجندية دون إكراه لهم، رفعت عنهم ولم تؤخذ منهم، وهذا ما انتهى إليه الأمر في عصرنا الحاضر بمشاركة إخوة الوطن في الدفاع عنه وحمايته ومساواتهم في التجنيد، واختلطت دماؤهم بدماء المسلمين في مواجهة المحتل الأجنبي فأصبح الأمر مسألة تاريخية.
وإلى هذا ذهب الإمام البنا بكل وضوح في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي تحت عنوان: "أصول الإسلام كنظام اجتماعي" حيث يقول:
"الجزية: ضريبة كالخراج، وهي كلمة عربية مشتقة من الجزاء؛ لأنها تدفع نظير شيء هو الحماية والمنعة، وذهب بعض العلماء إلى أنها فارسية معربة؛ وعلى هذا فهي: نظام في الضريبة نقله الإسلام عن الفارسية ولم يبتكره".
ولقد قرر الإسلام ضريبة الجزية على غير المسلمين في البلاد التي فتحها نظير قيام الجند الإسلامي بحمايتهم وحراسة أوطانهم والدفاع عنها، في الوقت الذي قرر فيه إعفاءهم من الجندية، فهي "بدل نقدي" لضريبة الدم، وإنما سلك الإسلام هذه السبيل ولجأ إليها مع غير المسلمين من باب التخفيف عليهم، والرحمة بهم وعدم الإحراج لهم حتى لا يلزمهم أن يقاتلوا في صفوف المسلمين، فيتهم بأنه إنما يريد لهم الموت والاستئصال والفناء والتعريض لمخاطر الحرب والقتال، فهي في الحقيقة "امتياز في صورة ضريبة", ومقتضى هذا: أن غير المسلمين من أبناء البلاد التي تدخل تحت حكم الإسلام إذا دخلوا في الجند، أو تكلفوا أمر الدفاع أسقط الإمام عنهم الجزية، وقد جرى العمل على هذا فعلاً في كثير من البلاد التي فتحها خلفاء الإسلام، وسجل ذلك قواد الجيوش الإسلامية في كتب ومعاهدات ما زالت مقروءة في كتب التاريخ الإسلامي. اهـ.
- الواقع العملي في تاريخ الإخوان:
ما سبق أن أوضحناه هو رؤية الإخوان في هذا المجال وهي قائمة على فهمهم للشريعة الإسلامية، وقد فصّل الإمام الشهيد في أكثر من موضع بهذا الشأن، وإذا نظرنا في الواقع العملي التطبيقي سنجد أن الإخوان كانوا نموذجًا لما رباهم عليه الإمام الشهيد، ولم يكن ظهور جماعة الإخوان مصحوبًا بأي بُعد طائفي أو أي إثارة للمسلمين على المسيحيين، بل كان هناك الودّ والتعامل الاجتماعي الواسع، والصداقة الطيبة بين أفراد الجماعة وغيرهم من المسيحيين.. وهذه بعض النماذج والوقائع التاريخية.
1- في عام 1944 عندما أقدم الإخوان على شراء قصر كبير بميدان الحلمية ليكون مركزًا عامًّا ومقرًّا للدعوة لهم، ولم يكن لديهم المبلغ الذي تعاقدوا عليه فقاموا بعمل اكتتاب على مستوى القطر من الإخوان ومن محبيهم والمتعاطفين معهم.. فقد ساهم عدد كبير من أقباط مصر في هذا الاكتتاب كل بما استطاع؛ فمثلاً تبرع الخواجة "فرنكو" التاجر بـ10 جنيهات، وجرجس بك صالح بـ5 جنيهات، مريت بطرس غالي 20 جنيهًا، وأرمنيوس جرجس بـ500 مليم، وجبريل مرسال بـ200 مليم، ومريس فاغ بـ200 مليم، وشاكر حزقيال بـ200 مليم، وجاب الله كريمة بـ100 مليم، وولسن يونس بـ100 مليم، وإسطاس بك بـ100 مليم، وتوفيق جرجس بـ50 مليمًا.. وغيرهم كثير كان منهم الحرص على المساهمة والمشاركة رغم الحالة الاقتصادية التي كانت تمر بها مصر في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ ما يؤكد مدى العلاقة والعاطفة بينهم وبين الجماعة (راجع أوراق من تاريخ الإخوان الكتاب الخامس صـ71، 72).
2- كان هناك "خريستو" وهو مسيحي أصله لبناني ماروني في منطقة الإسماعيلية، أحب الإخوان وطلب أن ينضم لأحد الأسر الإخوانية؛ حيث أعجبه روح التكافل والأنشطة المجتمعية التي يقومون بها، واستجاب له الإخوان وكان في أسرة مسئولها الأستاذ على رزة، وكان يشاركهم في كل شيء ما عدا الصلاة والصيام.
وأعطى الإمام الشهيد توكيلاً لخريستو هذا؛ ليكون مندوبًا له في لجنة الطور في الانتخابات التي دخلها الإمام أواخر عام 1944م.
3- كان هناك صداقة ولقاءات بين الإمام البنا وقيادات الإخوان، وبين الأستاذ مكرم عبيد والأستاذ إبراهيم فرج، وهما من الرموز المسيحية الوطنية.
وعندما استشهد الإمام، اخترق مكرم عبيد الحصار المفروض من الأمن، وشارك في حمل الجثمان وتشييعه.
4- عندما قامت الحكومة بنقل الإمام الشهيد من وظيفته بالقاهرة إلى صعيد مصر؛ لإبعاده تحت ضغط الإنجليز، حاول البعض المغرض أن يرسل بشكاوى ضده؛ خوفًا أن ينقل نشاطه الإسلامي هناك في الصعيد المتوتر.
لكن الإمام الشهيد طمأن الجميع والتقى زعماء المسيحيين وقساوسة الكنائس هناك، وأوضح لهم طبيعة دعوته وطبيعة الإسلام الذي يدعو إليه، فقاموا بالتوقيع معه على طلب يطالب الحكومة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
5- كان قادة الإخوان ورموزهم بالصعيد مثل الأستاذ محمد حامد أبو النصر، والأستاذ حامد شريت وأحمد شريت وغيرهم على أحسن علاقة مع الأسر المسيحية، وكانت تلجأ لهم لحل مشاكلهم.
6- في عام 1948م قام صادق سلامة وهو مسيحي مصري، ووكيل نقابة الصحفيين بترشيح نفسه في البرلمان في انتخابات تكميلية وقتها، فقام الإخوان بتأييده بل واعتباره كأنه مرشحهم.
7- قام الإمام الشهيد بتعيين السادة: فانوس أخنوخ، ووهيب دوس، وميريت غالي أعضاء في اللجنة السياسية للإخوان المسلمين.
8- جميع شعب الإخوان في القطر المصري كانت على علاقة حسنة وطيبة بالمسيحيين، ويشاركون معهم في الأنشطة الاجتماعية والرياضية ويتبادلون الزيارات.
9- كان الإمام حريصًا على إشراك رموز الكنيسة في الفعاليات الوطنية التي تقيمها الجماعة وخاصة في قضية الجلاء وقضية فلسطين.
10- عندما حدث حريق كنيسة كفر قاسم 1951م، قام الأستاذ مكرم عبيد، وإبراهيم فرج بالدفاع عن الاتهامات التي وجَّهها الإنجليز للإخوان، وكشفوا تدبير الإنجليز وعملائهم لهذه المؤامرة وذلك الحادث.
11- واستمر هذا منهج الإخوان بعد الإمام الشهيد، وعندما خرجوا من السجون في منتصف أو أواخر السبعينيات، كان لهم دور فاعل في ترشيد الشباب في هذا المجال، وكان للمرشد العام الأستاذ عمر التلمساني جهدًا واضحًا في معالجة فتنة الزاوية الحمراء، ولم ينتظر إجراءات الحكومة في هذا الشأن والتي شابها العنف وعدم التوفيق.
12- وفي الانتخابات البرلمانية والنقابية، تعاون الإخوان مع زملائهم المسيحيين ففي عام 1987م بأسيوط قام الأستاذ محمد حامد أبو النصر بنفسه مع إخوانه بالدعاية للمرشح المسيحي جمال إسحق عبد الملاك وهو على رأس القائمة الانتخابية.
13- استمر التزاور والمجاملات في المناسبات الاجتماعية بين قيادات الإخوان والكنيسة، وإن كان لتدخل الحكومة وتسييس البعض لعرقلة هذه الصلة الوطنية بعض الأثر السلبي؛ لكن استمر الإخوان على موقفهم وعلى علاقتهم الحسنة؛ لأن هذا عقيدة عندهم وواجب ديني لديهم.
14- من المعروف والثابت أن الحفاظ على الوحدة الوطنية وحسن العلاقة مع شركاء الوطن هي من إستراتيجيات جماعة الإخوان وقواعدها الحاكمة، وأن هذا منهج عملي، يتربى عليه جميع أفراد الإخوان، وهم لم يكونوا أبدًا طرفًا في أية فتنة أو توتر طائفي طوال تاريخهم، رغم محاولات البعض إلصاق ما يفعله بعض المتطرفين عن جهل، ومحاولة نسبته زورًا لأفراد الجماعة.
15- لقد تعامل أفراد الإخوان قديمًا وحديثًا في مختلف مؤسسات المجتمع المدني ومنها النقابات والبرلمان والجمعيات والجامعات.. إلخ مع زملائهم المسيحيين؛ فكانوا نموذجًا لهذه الرؤية والتعاون والبر وحسن المعايشة. (والمقالة لا تتسع لذكر هذه النماذج الحديثة).
خاتمة:
من منطلق الحب والعاطفة الجياشة، يخاطب الإمام الشهيد الأمة كلها مسلمين ومسيحيين؛ لأنهم قومنا الذين ننتمي إليهم ونعتز بهم فيقول لهم:
".. ونحب كذلك أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء، وأن تُزهق ثمنًا لمجدهم وكرامتهم ودينهم وآمالهم إن كان فيها الغناء، وما أوقفنا هذا الموقف منهم إلا هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا وملكت علينا مشاعرنا.. فنحن حين نعمل للناس في سبيل الله، أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب ولن نكون عليكم يومًا من الأيام" (من رسالة دعوتنا للإمام الشهيد)... والله أكبر ولله الحمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق