بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 4 مايو 2010


تُعتبر قصة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أروع القصص القرآني التي نستطيع أن نقف معها لنتدبر الدروس والعبر، فهو كما وصفه ربه ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)﴾ (النحل)، ومعنى أمة أنه كان الجامع لصفات الخير.

والسؤال هو: كيف كان خليل الرحمن أمة؟ وما الخصال التي أهَّلته لهذا الوصف العظيم من ربِّ العالمين؟ إننا لو عشنا مع آيات القرآن الكريم لوجدنا أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام كان أمةً في نفسه وفي بيته وفي مجتمعه، أي أن هناك صفات اتصف بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام في نفسه، وصفات اتصف بها في مجتمعه، وصفات اتصف بها مع أهل بيته.

وكل هذه الصفات أهَّلته لهذا الوصف الجامع من ربِّ العالمين، فهيا بنا نقف مع آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن هذه الصفات، نحاول أن نفهمها، ونقف معها ونتدبرها ونعمل بها؛ فإن التشبه بالرجال فلاح.

- الصفات والأخلاق التي تحلَّى بها نبي الله إبراهيم:
هناك كثير من الصفات التي اتصف بها خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، هذه الصفات أهَّلته صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾، ومعنى الأمة فهو الإمام الذي يُقتدى به (1) قال عبد الله بن مسعود: الأمة معلم الخير. وقال ابن عمر: الأمة الذي يعلِّمُ الناس دينهم. وقال مجاهد: أي أمة واحدة؛ فما الصفات التي أهَّلت إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف؟ هذه الصفات هي:

1- توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به:
ومعنى توحيد الله عزَّ وجلَّ (2) الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه هو الذي يستحق وحده أن يُفرد بالعبادة من صلاة وصوم ودعاء ورجاء وخوف وذل وخضوع, وأنه المتصف بصفات الكمال كلها, والمنزه عن كل نقص.

وهذا التوحيد اتصف به نبي الله إبراهيم عليه السلام، وعبَّر الله عنه في أكثر من آية، قال تعالى:

﴿قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فالقانت هو الخاشع المطيع والحنيف، هو المنحرف قصدًا من الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال: ﴿وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، ومن ثمرات التوحيد أنه كان شاكرًا لنعم الله عليه، ويظهر هذا المعنى أيضًا في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (67)﴾ (آل عمران)، وهذا أيضًا يظهر في إفراده صلى الله عليه وسلم ربه في الدعاء وخشوعه وخوفه منه تبارك وتعالى، قال تعالى:

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35)﴾ (إبراهيم)، ففي هذا المقام محتجًّا على مشركي العرب بأن البلد الحرام مكة، إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له، ثم دعا ربه تعالى لهذه البقعة بالأمن ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾، وقد استجاب الله له فقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ (العنكبوت: من الآية 67)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)﴾ (التوبة)، قال ابن مسعود: الأوّاه هو الدّعاء. وقال ابن جرير: قال رجل: يا رسول الله ما الأوّاه؟ قال: "المتضرع"، وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)﴾ (هود)، فالحليم الذي يحتمل أسباب الغضب فيصبر ويتأنَّى ولا يثور، والأوّاه الذي يتضرع في الدعاء من التقوى، والمنيب الذي يعود سريعًا إلى ربه؛ هكذا كان نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان موحدًا لله عزَّ وجلَّ، فما أحوجنا أن نعيش بهذا التوحيد، فلا نشرك مع الله شيئًا وذلك عن طريق:

* وجوب إخلاص المحبة لله:
قال تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾ (البقرة: من الآية 165)، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾ (التوبة).

* وجوب إفراد الله تعالى في الدعاء والتوكل والرجاء:
قال تعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنْ الظَّالِمِينَ (106)﴾ (يونس)، ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)﴾ (المائدة)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)﴾ (البقرة).

* وجوب إفراد الله تعالى بالخوف منه:
قال تعالى: ﴿فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)﴾ (النحل)، ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)﴾ (يونس).

* وجوب إفراد الله عزَّ وجلَّ بجميع أنواع العبادات البدنية من صلاة وركوع وسجود وصوم وذبح وطواف وجميع العبادات القولية من نذر واستغفار.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾ (النساء)، هكذا كان إبراهيم عليه السلام مخلصًا العبادة لله، وهكذا يجب علينا أن نكون.

2- متمكن ومطمئن ومتيقن من عبادته لربه:
ما أجمل أن يعيش الإنسان لفكرة هي كل حياته يضحي في سبيلها بكل غالٍ ونفيس، هكذا عاش خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، ويظهر ذلك في كثير من الآيات قال تعالى:﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)﴾ (البقرة).

قال العلماء ومنهم بن كثير رضي الله عنه في هذه الآية إن لسؤال إبراهيم أسبابًا، منها أنه لما قال للنمرود ﴿رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ (البقرة: من الآية 258) أحب أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة؛ فأما الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم"، إذ قال: (رب أرني كيف تحي الموتى قال أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي)"، فليس المراد هنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده، وقال صاحب الظلال: لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل، واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف، ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله، ولكنه سؤال الكشف والبيان، والتعريف بهذا الشوق، وإعلانه، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم مع عبده الحليم الأوّاه المنيب، وفي موضع آخر يقول الله عز وجل: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81)﴾ (الأنعام)، وقبل ذلك يواجههم في طمأنينة ويقين قال: ﴿أَتُحَاجُّونِي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِي﴾ (الأنعام: من الآية 80)، وقبله أيضًا قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ (75)﴾ (الأنعام)، هكذا وجد إبراهيم ربه تعالى، وجده في إدراكه ووعيه، بعد أن كان يجده وحسب في فطرته وضميره، فلا بد للمؤمن السائر في طريق الله أن يكون مطمئنًا متيقنًا في طريق الله عزَّ وجلَّ، وهذا ما ربى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عليه، ولقد بلغ الإيمان ببعض هؤلاء الصحابة إلى درجة قال فيها: لو كشف عني الحجاب ما ازددت يقينًا (3)، وفي حديث الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه ما يعطينا الصورة المشرقة لهذا الإيمان، فقد مرَّ حارثة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "كيف أصبحت يا حارثة؟" قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا، قال: "انظر ماذا تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟" قال: عزفت نفسي عن الدنيا؛ فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها (4) فقال: "عرفت يا حارثة فالزم" (5)، وهكذا يجب أن يكون حالنا مع الله عزَّ وجلَّ، ولكي نصل إلى هذه الطمأنينة واليقين لا بد من الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، فالطمأنينة أثر من آثار الإيمان قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾ (الرعد)، وقال أيضًا: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ (الفتح: من الآية 4)، وإذا اطمأن القلب وسكنت النفس شعر الإنسان ببرد الراحة، وحلاوة اليقين، واحتل الأهوال بشجاعة، وثبت إزاء الخطوب مهما اشتدت، ورأى أن يد الله ممدودة إليه، وأنه القادر على فتح الأبواب المغلقة، فلا يتسرب إليه الجزع، ولا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)﴾ (البقرة).

3- الصدق الوفاء الكرم:
أما عن الصدق؛ فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)﴾ (مريم)، قال ابن كثير رضي الله عنه: كان صديقًا نبيًّا مع أبيه، كيف نهاه عن عبادة الأصنام؟ قال صاحب الظلال: لفظة صديق تحتمل أنه كثير الصدق، وأنه كثير التصديق، وكلتاهما يناسب شخصية إبراهيم.

أما عن الوفاء: فقد قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)﴾ (الأحزاب)، فالله عزَّ وجلَّ أخذ العهد والميثاق في إقامة الدين وإبلاغ الرسالة والتعاون والتناصر والإتقان؛ فهل وفّى الخليل بعهده مع ربه تبارك وتعالى؟ نعم وفّى، ووصفه ربه بأفضل الأوصاف فقال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)﴾ (النجم)، أي بلغ جميع ما أمر به وفي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عبرة، فهل وفينا بحق الله علينا؟ قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)﴾ (الأعراف)؛ فعلينا أن نقوم بحق الله علينا، ونحقق فينا صفات الخيرية التي وصفنا الله بها في كتابه العزيز، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110)، وقال أيضًا: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ (آل عمران).

أما عن صفة الكرم؛ فهي صفة من صفات إبراهيم عليه الصلاة والسلام، واستمع إلى قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)﴾ (هود)، وفي آية أخرى قال تعالى: ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)﴾ (الذاريات) أي أنه قدَّم لهم عجلاً سمينًا مشويًّا على حجارة الرضف المحماة، فهذا هو كرم أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهذا ما علَّمنا إياه نبي الرحمن صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (متفق عليه)، هذه بعض الصفات التي اتصف بها إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، والتي اتصف بها في نفسه.

- الصفات التي اتصف بها الخليل عليه الصلاة والسلام مع أهله وأسرته:
كما أنه صلى الله عليه وسلم كانت له صفات في نفسه؛ فإن هناك صفات اتصف بها مع أهل بيته مع أسرته، والسؤال: ما هذه الصفات التي اتصف بها مع أهل بيته؟

(1) حرصه الدائم على أن يسلك أهله مسلكه في طاعته لله عز وجل، ويظهر ذلك في آيات كثيرة في القرآن الكريم ومنها:

* وصيته لبنيه أن يتمسكوا بالإسلام قال تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)﴾ (البقرة)، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات: "أي أحسنوا في هذه الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المؤمن يموت غالبًا على ما كان عليه، وقد أجرى الله عادته بأن من قصد الخير وُفِّق له ويُسِّر عليه، ومن نوى صالحًا ثبت عليه، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون يبنه وبينها إلا باع- أو ذراع- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"؛ لأنه قد جاء في بعض الروايات لهذا الحديث "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة"، وقد قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾ (الليل)، وهكذا ظهر في هذه الآية حرصه على بنيه أن يتمسكوا بالإسلام، ويشكروا هذه النعمة العظيمة

* دعوته لأبيه بالحكمة والموعظة الحسنة: قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)﴾ (مريم)، فقد كان إبراهيم صديقًا نبيًّا مع أبيه، كيف نهاه عن عبادة الأصنام، يقول صاحب الظلال: بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه، يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه الله إياه وهداه إليه، وهو يتحبب إليه ويخاطبه "يا أبت"، ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي، فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد، فيقول له: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)﴾ (مريم)، ولكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يغضب، ولم يفقد بِرَّه وعطفه وأدبه مع أبيه ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)﴾ (مريم)، وما زال يستغفر له حتى قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)﴾ (التوبة).

هكذا يجب على كل مسلم أن يدعو أهله وأسرته إلى طاعة الله عزَّ وجلَّ، وهكذا وصَّى الله في قرآنه، والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته أن يطلب الإنسان الهداية لنفسه ولأهل بيته قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)﴾ (الفرقان)، يقول صاحب الظلال: هذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق، شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله أولهم الذرية والأزواج، فهم أقرب الناس تبعة، وهم أول أمانة يُسأل عنها الرجال، قال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين.

وسُئل الحسن البصري عن هذه الآية، فقال: أن يُرِيَ الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله، لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدًا أو ولد ولدٍ أو أخًا، أو حميمًا مطيعًا لله عزَّ وجلَّ.

وقال أسلم: يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.

وعلى هذا حثَّنا النبي صلى الله عليه وسلم على حسن التربية والرعاية والتعهد من ولي الأمر لأسرته، ولأهل بيته، فقد ذكر الإمام النووي رضي الله عنه في كتابه القيم "رياض الصالحين" بابًا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب أمره أهله وأولاده المميزين وسائر من في رعيته بطاعة الله، ونهيهم عن المخالفة، وتأديبهم ومنعهم من ارتكاب منهي عنه، وبدأ الباب بقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ (طه: من الآية 132) وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ (التحريم: من الآية 6) وذكر مجموعة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومنها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كخ كخ.. ارم بها أما علمت أنّا لا نأكل الصدقة" (متفق عليه)، وفي رواية: "إنا لا تحل لنا الصدقة".

وفي حديث آخر عن أبي حفص عمر بن أبي سلمة- عبد الله بن عبد الأسد ربيب رسول الله صلى لله عليه وسلم- قال: كنت غلامًا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سّم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك، فما زالت تلك طعمتي بعد" (متفق عليه).

وفي حديث آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمراة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته" (متفق عليه).

وفي حديث آخر عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع" (حديث حسن).

2- التربية على الاستجابة لله ولرسوله:
وهذا ما أشارت إليه آيات القرآن في قصة الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال تعالى:﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)﴾ (الصافات)، ومع ذلك فقد أسلما في ثقة وطمأنينة ورضا وتسليم وتنفيذ، وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها إلا الإيمان العظيم، وهذه هي نتيجة التربية على طاعة الله عز وجل، وهذا هو أثرها التسليم لله في كل وقت من الأوقات، ليست هذه الطاعة من الابن فقط، ولكن انظر إلى الأم كيف تربت على طاعة الله عزَّ وجلَّ قال تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)﴾ (إبراهيم).

وقد روى الإمام البخاري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت،عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحدٌ، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفي إبراهيم منطلقًا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه الدعوات فقال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ (إبراهيم: من الآية 37).

وهكذا ربى إبراهيم أهله على الحب والطاعة لله عزَّ وجلَّ، وهذه هي الصفات التي اتصف بها إبراهيم في بيته ومع أهله: الدعوة إلى الله بالحب والرحمة والعطف، فكان صلى الله عليه وسلم أمة، وكان بيته قدوة لكل البيوت، فالّلهم أصلح بيوتنا على الإيمان والطاعة لك.

- الصفات التي اتصف بها الخليل عليه السلام في مجتمعه:
ونستطيع من سرد هذه الآيات أن نقف على هذه الصفات قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)﴾ (البقرة).

يحكي الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بصيغة وتعبير يعبِّر عن التشنيع والتفظيع قصة هذا الرجل الذي أعطاه الله عزَّ وجلَّ المُلك، وهذه نعمة تستحق الشكر، ولكنه طغى وتكبر على ربه عز وجل، ولم يذكر الله اسمه في القرآن؛ لأن المراد العبرة والعظة.إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أراد أن يُرجعه إلى آثار الله عزَّ وجلَّ في الكون عن طريق أنه ذكر له الموت والحياة، ولكنه كان يحسب نفسه إلهًا لكونه يملك الحكم في قومه، فأتى إبراهيم له بحجة أكبر جعلته لا يستطيع أن يتكلم وبتعبير القرآن الكريم ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)﴾ (البقرة)، وفي هذا تعليم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وتجربة يتزود بها أصحاب الدعوة الجدد في مواجهة المنكرين، وفي ترويض النفوس على تعنت المنكرين.

ما هذا الإيمان القوي! إنه إيمان الإنسان في أشد الحاجة إليه، كحاجته إلى الطعام والشراب (6).

وفي آية أخرى يقول الله تبارك وتعالى: ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ (70)﴾ (الأنبياء).

هذا موقف آخر من مواقف الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وما أكثر هذه المواقف في حياة إبراهيم عليه الصلاة والسلام! ومع هذا كان الخليل صلى الله عليه وسلم صغيرًا في السنِّ ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)﴾ (الأنبياء)، ولكنه تهكَّم على آلهتهم المصنوعة من الحجارة حتى أراد أن يرجعهم إلى عقلهم ورشدهم ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ (63)﴾ (الأنبياء) ويصور القرآن كيف يكون الصراع بين الإنسان وفطرته السليمة ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ (65)﴾ (الأنبياء)، فهذا التعبير القرآني الذي يصور هذه الحالة من النكس على الرءوس لاتباعهم أهواءهم.

ثم يذكر الحق تبارك وتعالى قدرة من قدراته ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)﴾ (الأنبياء)، فالله الذي خلق النار قادرٌ على إنقاذه منها.

وفي موضع آخر يذكر الله عزَّ وجلَّ هذه الحقيقة فيقول تبارك وتعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ (الشعراء)، وهكذا هي الآيات التي تتحدث عن إبراهيم وعلاقته بقومه، ومن هذه الآيات نستطيع أن نخرج ببعض الدروس المستفادة ومنها:

1- الإيجابية، وحرصه الدائم على تبليغ رسالته إلى قومه بكل الوسائل وفي كلِّ الظروف،وهذا ما دعانا إليه الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث من أحاديثه الكريمة، ففي الحديث الذي رواه أبو رقية تميم بن أوس الدّاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة" قلنا لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (رواه مسلم).

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبّ لنفسه" (متفق عليه).

2- جرأته في قول الحق، وهذا ما وصانا به أيضًا صلى الله عليه وسلم:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" (رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَاسِقُونَ﴾ (المائدة)، ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو يضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم" (رواه أبو داود).

وهكذا عشنا مع خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وعرفنا صفاته صلى الله عليه وسلم، والتي أهًّلته لكي يكون أمة سواء هذه الصفات التي تَخلَّق بها في نفسه أو مع أهله أو في مجتمعه قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ (الممتحنة: من الآية 4)، وقال تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)﴾ (النساء)، وقال تعالى: ﴿سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)﴾ (الصافات)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (122)﴾ (النحل).

والله يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
---------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق