بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 مايو 2010

حق الدعوة في الدخل الشهري


لقيت صديقي العزيز بعد أن تأخَّر عن دفع حق الدعوة في دخله الشهري، وسألته عن السرِّ فأعرض ونأى وكاد أن يلتفت، فابتسمت له ابتسامةً مصحوبةً بربتةٍ على كتفه، وقلت له: هذا من حقِّ الأخوة بيننا أن أهتمَّ بك، وأعرف عنك كل شيء؛ فإن كنت في ضائقةٍ ماليةٍ رفعنا سويًّا شعار التكافل والتكامل، وإن كان فتورًا أو كسلاً أخذتُ بيديك وأخذتَ بيدي إلى الجدِّ والاجتهاد والحماسة والجهاد، وإن كان حرصًا وبخلاً فتحت يديك وفتشت بين قلبك وعينيك عن الجود والكرم لتعلنها لربك لبيك وسعديك والخير منك وإليك، خذ مني ومن مالي حتى ترضى عني.

* أما علمت أخي الكريم أن من حقي عليك أن تفصح لي عن همومك وآلامك بعد أن عشت معك في دعوة الله سنين؟

* أما علمت أخي أنك بالنسبة لي صفحة مفتوحة، وهكذا أنا بالنسبة لك؟ فمن العيب عليَّ ألا أهتم بك وأن لا أسأل عنك فأنت أخي كدرك كدري وهمك همي يحزنك ما يحزنني ويحزنني ما يحزنك، ويسعدك ما يسعدني ويسعدني ما يسعدك.

دقات قلبك نبض قلبي وخطاك خطوي بين دربي
الله آخــى بيننا بعقيـ دة ربـطت وحب
فرباطنا ديـن الإله فمن يفـل رباط ربي
* ثم أخي الكريم أما يحزنك أن تتفاوت المنازل بيننا يوم القيامة؛ لأني بخلت عليك بالسؤال والنصيحة؟ أو لأنك غفلت عن حق الدعوة في مالك بعد العهد الذي قطعته بينك وبين ربك أن تحرسها وتحميها بنفسك ومالك وأن تضحي من أجلها بكل شيء؟

* أما قرأت آية سورة الزمر ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ (الزمر: من الآية 73)، أي جماعات؟

يقول ابن كثير: جماعة بعد جماعة: المقربون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تناسب بعضها بعضًا (تفسير ابن كثير).

ونحن فكرنا واحد، ورايتنا واحدة، وفهمنا لشمولية الإسلام واحد، واسمي مع اسمك في مكان واحد، والمائدة التي نجلس عليها واحدة، والطريق الذي نسير فيه ونسرع عليه الخطى إلى الرضوان والجنة واحد، ويدي مع يدك رافعة للراية، وغرسي بجوار غرسك لإنبات زرع التمكين لدين الله في الأرض، فكيف لا أسأل عنك أو لا تسأل عني؟ من العيب أن لا أسأل ومن العيب عليك أن لا تجيب.

روى البخاري بإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لا يَبْصُقُونَ فِيهَا، وَلا يَمْتَخِطُونَ، وَلا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمْ الأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنْ الْحُسْنِ، لا اخْتِلافَ بَيْنَهُمْ وَلا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا" جعلني الله وإياك منهم.

* أخي الكريم.. إن سر سؤالي لك وإلحاحي عليك هو رصيد حبي الكبير لك يعلم الله وحده ذلك، أو ما علمت أن عمر رضي الله عنه صلى الفجر ثم التفت فقال: أين معاذ بن جبل؟ وكان معاذ يصلي في مؤخرة الصفوف، فقال: ها أنا يا أمير المؤمنين، فقال: يا معاذ لقد تذكرتك البارحة فبقيت أتقلب على فراشي حبًّا وشوقًا إليك فتطاولا وتقابلا وتعانقا وتباكيا حتى ضجَّ المسجد بالبكاء.

وفي الزهد لأحمد بن حنبل، عن الحسن أن عمر رحمه الله كان يذكر الأخ من إخوانه بالليل، فيقول: (ما أطولها من ليلة) فإذا صلى الغداة غدا إليه، فإذا لقيه؛ التزمه، أو اعتنقه.

اللهم اجعل حبي لك كحب عمر لمعاذ.. رحم الله عمر ومعاذ ورضي عنهما، لقد غابت عنا هذه الروح العمرية، وخفتت بعض الشيء، ولو كانت موجودة لأجبتني على الفور وما ترددت يا أنا، أتذكرك عند الغروب، صورتك تسبق صورتي، وترتسم في قلبي فأدعو لك قبل نفسي وأهلي، وأنت الآن تغضب مني وتعرض عني؟ سامحك الله أخي الكريم.

* أو ما قرأت موقف المأمون مع مخارق عندما أنشده بيتًا لنديمه أبي العتاهية
وإني لمحتاجٌ إلى ظلِّ صاحبٍ يروق ويصفو إن كدرت عليه
فقال لي: أعد، فأعدت سبع مرات، فقال لي: يا مخارق خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب.

لماذا لا تكون أنت أو نكون أنا هذا الصاحب الذي يصفو ويروق عند كدر صاحبه؟ وما سألتك أخي من باب الفضول، فيعلم الله أنني لا أريد لك أن تعيش في كدر أو حزن أبدًا.

* إن هذا الجهاد أخي الكريم مطيتك يوم القيامة إلى الجنة، فلا تجعلها ضعيفة هزيلة بل قوها بجدك، وحلها بسعيك وجملها بإنفاقك، ولا تضعفها بفتورك واعتذارك عن عمرو بن قيس الملائي قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبُه ريحًا، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله قد طيَّب ريحك وحسَّن صورتك! فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا، فاركبني أنت اليوم! وتلا ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)﴾ (مريم) (تفسير ابن كثير).

* أتعلم أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما طلب الصدقة من النساء في يوم عيد في ساعة رخاء وفرح وسرور فإنهن تصدقن بحليهن، ولم يحوجنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمال ليجبو منهن الأموال؟ روى مسلم بإسناده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقَالَ: "تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ، سَفْعَاءُ الْخَدَّيْن،ِ فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ"، قَالَ فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرِاطَِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ).

لا تباطؤ ولا كسل ولا فتور، بل سباق إلى الجنة وإلى عتق الرقاب- بهذه الصدقات- من النار، لقد سبقوا غيرهم من أثرياء اليوم الذين آمنوا بالتثاؤب والتباطؤ والفتور والكسل، يترك أحدهم جهاده بلا عذر مقبول، ولا يدفع إلا بعد المطالبة والإلحاح وكثرة السؤال.

ألسنا اليوم بعد أن كثرت رايات العنت والتضييق من قِبل الظالمين والفاسدين والمفسدين أن نسارع بإخراجها؟ أما يدعونا وضع إخواننا المشردين والمضطهدين في أرض الله إلى أن نسرع الخطى وأن نبكر بها بعد أن أصبحت بعد الكفاية عينًا؟

* فالتفت إليَّ مبتسمًا، ورد الجميل بالجميل، والمعروف بالمعروف، والإحسان بأحسن منه، فابتسم ابتسامة مصحوبة بربتة الحب على القلب قبل الكتف وقال: أخي جزاك الله خيرًا على نصحك، لقد علتني بعض الهموم والمشاكل والمشاغل، وسبق الجميع الفتور والكسل ليس إلا، وما تأخرت لشك ولا لشبهة؛ لأني آمنت من أعماق قلبي بأن ذلك حق دعوي وعقد وعهد رباني عقدته منذ أن وطأت أقدامي هذه الدعوة.

* ومن أخي الكريم يرضى لنفسه بعد أن ذاق نعمة البذل والعطاء في هذا الميدان الرحب والواسع والفسيح أن يحرم نفسه منها، وماله من متعتها، وقلبه من الشعور بها، ويده من الحركة بها، وعقله وفكره من مردودها، وبيته من بركتها؟

أخي.. لقد ذقت لذة الجهاد بمالي فكيف أقطعه؟ إن من ذاق لذة البذل وسط هذه المحاريب والميادين عرف، ومن جرب صدق، ومن مرَّ في حياته بهذا الشعور بقي يطلبه باستمرار.

إنها نعمة مَنَّ الله بها عليّ وباب من الخير فتح لي فهل أغلقه، لا وألف لا، هكذا يحدثني عقلي، وإن تأخرت فلن أتركه فهو دين في عنقي لا بد من الوفاء به.

* أعرف أخي سر سؤالك لي، وهذا ما تبادر إلى ذهني الآن، فإن كنت تظن أخي أنني أستكثر ما أدفعه في الجهاد المالي للدعوة؛ فأنا أعرف والله تشعب الميادين وكثرتها وقلة الموارد وندرتها، وما ندفعه من مال الله الذي استخلفنا عليه لها إلا قليل؛ لأن المسلم في حالة الجهاد يبذل الغالي والنفيس من أجل التمكين لدين الله في الأرض، وما العشرة في المائة التي يقرؤها البعض على أنها كثيرة إلا غيض من فيض بجوار هذه الميادين الرحبة الواسعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وسر من أسرار التحديد مراعاة جهد المقل، أما المكثر فالميدان مفتوح والباب واسع ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)﴾ (الطلاق)، وأما المقل فلينفق على قدر استطاعته حتى لا يفوته الثواب، وليشارك في القافلة وليزاحم غيره من إخوانه من أهل البذل والعطاء، مشاركًا في نشر الفكرة ورعاية الأخوة ومنطلقًا بالدعوة.

* نؤمن يا أخي أن هذا الحق الدعوي في الدخل الشهري فريضة وضرورة، فكيف أتقاعس وأنا أرى حال الأمة يتردى وأرى الراية تسقط؟ هل يغمض لي جفن أو يجف لي دمع أو تتوقف لي يد عن البذل والعطاء؟ والله عز وجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾ (الصف).

* أعرف أن إخواني يريدون أن يأخذوا بأيدينا إلى الجنة أخذًا بهذا الجهاد فجزاهم الله خيرًا، ومن يغضب من ذلك فليراجع نفسه، وثقتي في قدرتهم على القيام بتوزيع هذا الجهاد وهذا الحق الدعوي في مصارفه ووضعه في مواضعه كبيرة، فهم أمناء وأيديهم طاهرة، ووقوع هذا المال في أيديهم بركة، فهو مال مبارك في أيدٍ أمينة مباركة.

* يا أخي نخرج من أموالنا لدعوتنا وشعارنا معها ما قاله الصحابة لنبيهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر "خذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك" (السيرة النبوية لابن كثير).

فخذي أيتها الدعوة من أموالنا ما تشائي، واتركي ما تشائي، فما أخذتي أحب إلينا مما تركتي.

* وأنا أعتقد أخي الكريم أن الجهاد المالي ليس كلامًا، وإنما هو واقع عملي، على هذا بايعت، وبه آمنت، وعلى بركة الله توكلت، أعرف التبعات والعقبات، ومهما علت فلن أتراجع ولن أسلم رايتي؛ لأن الجنة هنا والراحة هناك، أقول ذلك لفرط ثقتي في عطاء ربي، فالإنسان إذا خرج إلى السوق لشراء سلعة وكان معه ثمنها وهو متأكد وواثق من وجودها في السوق فإنه يتبادر إلى ذهنه أن السلعة في جيبه لفرط ثقته في وجودها وملك ثمنها.

والجنة سلعة غالية موجودة، أعد الله فيها للمتقين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وثمنها في الدنيا الجد والتشمير، والسعي المتواصل المستمر الذي لا ينقطع أبدًا في محراب العبادة وميدان الدعوة وساحة العلم والتضحية.

فإذا ما باع الإنسان نفسه وماله وكل ما يملك لله ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111)، وهذا يسمى بالمعاوضة فإنه بذلك يكون قد اشترى الجنة.. "ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة".

فالجنة معنا إذا ملكنا الثمن أما إذا أصيب الإنسان بالفلس فلا سلعة له.

فمن جد واجتهد هنا استراح هناك، ومن لعب وضيَّع وفرَّط هنا تعب وأرهق هناك.

إن الداعية أثناء سعيه بين الناس مبلغًا دعوة الله يجد الجنة ويشعر بها كشعور أنس رضي الله عنه عندما شعر بالخطر على الإسلام، فصرخ في الصحابة قوموا موتوا على ما مات عليه رسول الله إني أجد ريح الجنة.

ولو سعى الداعية كسعي أنس في يوم أحد، واستشعر المسئولية كشعوره، واحترق أثناء تبليغه للإسلام كحرقته لشم رائحة الجنة ونعيمها كما شمها أنس وسعد بن الربيع رضي الله عنهما، ولرأى الجنة رأي عين بعد كده وتعبه وأرقه وبذل كل طاقته في سبيل تبليغ دعوة الله في الأرض، كما رآها خبيب بن عدي رضي الله عنه وهو في الأسر.

ذكر الواقدي في مغازيه قوله.. وَكَانَتْ مَاوِيّةُ قَدْ أَسْلَمَتْ بَعْدُ فَحَسُنَ إسْلامُهَا، وَكَانَتْ تَقُولُ وَاَللّهِ مَا رَأَيْت أَحَدًا خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاَللّهِ لَقَدْ اطّلَعْت عَلَيْهِ مِنْ صِيرِ الْبَابِ وَإِنّهُ لَفِي الْحَدِيدِ مَا أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ حَبّةَ عِنَبٍ تُؤْكَلُ وَإِنّ فِي يَدِهِ لَقِطْفَ عِنَبٍ مِثْلَ رَأْسِ الرّجُلِ يَأْكُلُ مِنْهُ وَمَا هُوَ إلا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللّهُ، وَكَانَ خُبَيْبٌ يَتَهَجّدُ بِالْقُرْآنِ وَكَانَ يَسْمَعُهُ النّسَاءُ فَيَبْكِينَ وَيُرَقّقْنَ عَلَيْهِ.(مغازي الواقدي).

فعلى الداعية أن يؤمن بهذه البرقيات وأن يثبتها في عقله وقلبه، وأن يجعلها معه في كل جولاته ليراها ماثلة أمامه كلما سدت في وجهه الأبواب وحيل بينه وبين الناس والأحباب، وكلما دخل عليه الفتور، ليثبت على الطريق ولا يعتذر عن تكليف ولا يهرب من جهاد ولا ينتظر من يجبي منه المال، بل يبادر ويسارع ويسابق غيره في الميدان.

* إن الله قد اختارنا للذبِّ عن دينه والدفاع عنه، والعمل في ساحة الدعوة ومحرابها مع إخواننا؛ ولذلك أؤمن بأنه ينبغي علينا أن نقوم ببري سهم دعوتنا حتى يكون نافذًا مخترقًا للصعاب والآلام مؤثرًا صائبًا.

وبري السهم بعد الاختيار والاصطفاء والاجتباء يكون بالإخبات لله والتذلل بين يديه، والاعتصام به سبحانه وتعالى فمنه العون والمدد، والتضحية والجهاد بالمال والنفس؛ فقد خصَّنا من بين الناس بهذا الفضل وبهذا الشرف العظيم وهو التوقيع عنه في الأرض بين الناس.

* أخاف على نفسي كما تخاف على نفسك من أن أموت صغيرًا بسبب كسلي وعدم جدي واجتهادي فأقصي من ميدان الكبار ومصنع الرجال والأبطال، يقول سيد قطب في تفسير قول الله تعالى ﴿قُمْ فَأَنذِرْ (2)﴾ (المدثر): إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، ولكنه يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير، فما له والنوم؟ وما له والراحة؟ وما له والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر وقدّره، فقال لخديجة رضي الله عنها وهي تدعوه أن يطمئن وينام: "مضى عهد النوم يا خديجة"! أجل، مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق! "الظلال".

* فانفرجت أسارير قلبي قبل وجهي، وعلت الابتسامة جبيني، وقلت له بعد أن قبضت على يده بشدة قبضت المحب الخائف على حبيبه ونفسي تحدثني قائلة لي: على هذا تربينا أيها البطل، ثم قلت له: إذا كان هذا فهمك وهذا إيمانك فما الذي يدفعك لأن تجبي منك الدعوة حقها في دخلك الشهري يطالبك زيد مرة ويلتفت إليك عمرو أخرى يلمح هذا ويصرح ذاك؟ لماذا لا تتحرك أنت حركة ذاتية مصحوبة بحب الجهاد والتضحية؟ إن رصيد التربية الذي عشته وعشناه في محراب الدعوة يدفعنا للجهاد والتضحية بعيدًا عن الجباية والمطالبة.

أتعلم أن الناس في الحياة لهم مشارب مختلفة، فالذي يحبه زيد قد يكرهه عمرو وعلى العكس ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود: من الآية 119).

وإذا ما نظرنا في الحياة التعبدية نجد أن واحدًا يحب القيام ويكثر منه، والآخر يحب الصيام ويكثر منه، والآخر يدمن قراءة القرآن الكريم، هذا يحب الذكر والآخر يحب التفكر.

ومع الكل يعمل عداد الإيمان ولا يتعطل، ولكن فرق بين من يحصي له العداد بالآحاد ومن يحصي له العداد بالعشرات ومن يحصي له العداد بالمئات ومن يحصي له العداد بالآلاف ومن يحصي له العداد بالملايين والمليارات.... ومن يحصي له العداد بلا حصر.

فقدرات الناس متفاوتة في تشغيل العداد وأفهامهم متعددة، والكل يسعى وله أجره وثواب سعيه.

ولكن هل يستوي من يحصي بأقل مجهود جبالاً من الحسنات ومن يتعب نفسه ويرهق روحه ثم يخرج بالقليل؟ هل يستوي من يحصي له العداد بلا حصر مع من يحصي له العداد بالآحاد؟

إن ورثة الأنبياء الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وأوقفوا حياتهم لله يعد لهم العداد بلا حصر إن تجردوا وأخلصوا في أعمالهم لله عز وجل.

ومن العيب على الداعية أن يرضى بالدون ولا يتطلع إلى معالي الأمور.

وأن يستوي مع من يحصي له عداده الإيماني بالآحاد أو العشرات، لأن وريث النبي صلى الله عليه وسلم مجاهد يحلق دائمًا في سماء الفضل كما صوره الإمام البنا عليه رحمه الله: ".... أعد العدة، وأخذ الأهبة، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه؛ فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام على قدم الاستعداد، إن دُعي أجاب أو نُودي لبى، غدوه ورواحه حديثه، وكلامه جده، ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، حياته وإرادته يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه وترى في بريق عينيه وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم في قلبه من جوى لاصق وألم دفين وما تفيض به نفسه من همة عالية وغاية بعيدة" .اهـ. لا يرضى بالدون أبدًا، فهو لا يلهو مع من يلهو، ولا يلعب من يلعب، يعمل في الحياة ويتحرك على بصيرة وفق خطة مستنيرة.

ثم قلت له: عذرًا أخي إن كنت قد أطلت عليك فيعلم الله أني أحبك في الله، ولا أريد أن أتفلت منك أو تتفلت مني يوم القيامة.

فقال لي: عذرًا أخي لن أعود وأعدك بالوفاء لبيعتي وعهدي مع دعوتي وإخواني، ومن اليوم عهد جديد مع البذل والعطاء، وإن علاني الكسل فترة فإن شاء الله سأخلع عباءته، فليس من العيب أن يقع المرء، ولكن العيب أن يظل راقدًا على الأرض، وبعد نصحك لي قد نهضت من جديد، أسأل اللهَ أن يشرح صدورنا، وأن يتقبل جهادنا، وأن يثبتنا على دعوته، اللهم آمين والحمد لله رب العالمين.
-----------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق