بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 27 فبراير 2010

ويخوفونك بالذين من دونه

يقول جل وعلا " أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد" .. هذا السؤال الذي هو في أول الآية الكريمة من سورة الزمر والذي هو من أربع كلمات قوله تعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ .. ) يتحدى الله به الإنسان بكل أنواع العتب والغضب والكرم والكفاية والتمنين أو الإهلاك والإسعاد أو الإشقاء هذه الحقيقة تجهلها الأكثرية الساحقة من البشر وهي أنه إذا أراد أحد من عباد الله أن يكتفي بالله يعني أن يكون الله وحده ربه ، وأن يكون الله وحده إلـٰهه ، وأن يكون الله وحده رازقه ، وأن يكون الله وحده حصنه ، وأن يكون الله وحده طبيبه ، وأن يكون الله وحده مدبره ومدبر من له بهم عناية ، وبإختصار شديد أن يكون الله سبحانه وتعالى وليَّه في جميع شؤون حياته ومماته وآخرته ، فإن الله تعالى يكفيه كل ذلك بما يشاء وكيف يشاء ، بالأسباب وهو سبحانه مسبب الأسباب ، أو بكلمة كن فيكون ، بشرط حسن التوكل ، وعدم التواكل وبشرط الجهادين الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس تقرباً إلى الله وجهاد أعداء الله إذا اقتضت الضرورات ذلك.
ولقد جاء في الحديث القدسي : إذا اعتصم عبدي بي دون جميع خلقي فتحت له أبواب السماوات والأرض وإذا دعاني استجبت له وإذا استغفرني غفرت له، وإذا إعتصم عبدي بأحد دوني من جميع خلقي أقفلت دونه أبواب السماوات والأرض وإذا دعاني ما استجبت له وإذا استغفرني ما غفرت له
فإن من أهمِّ حقائق الإيمان التي يهتم المنهج الإسلامي بغرسها في نفوس المؤمنين: الخوف من الله تعالى دون ما سواه. إن رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحدَه الذي يعصِم من فتنة هذه الدنيا، وهو الذي يضبط تصرفات الخلق، وهو الذي يضبط المعيار والميزان في النفوس، فهو أصلُ كلِّ خير في الدنيا والآخرة، وصدق إبراهيم بن أدهم إذ يقول: "الهوى يُرْدِي، وخوفُ الله يشفي، واعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك: إذا خفت مَنْ تعلم أنه يراك".
وقد تنبه لهذا وول ديورانت صاحب (قصة الحضارة) فقال: "الأمم لا تتحضَّر أبدًا إلاَّ بالدين؛ لأن الخوف من الله الذي يرى كل شيء والقادر على كل شيء، هو وحده- أي هذا الخوف- الذي يضبط النزعات الفردية المتمثِّلة في الرغبات البشرية، والدين مصاحب لمولد كل الحضارات، وغياب الدين نذير بموتها". وهذا صحيح، فبدون الخوف من الله لا يصلح قلب، ولا تصلح حياة، ولا تستقيم نفس، ولا يُهذَّب سلوك، فلا يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات، من زنى وبغي وظلم واعتداء وعنصرية.. غير الخوف من الله، ولا يهدِّئ فيها سعارَ الشهوات وجنونَ المطامع غيرُ الخوف من الله، ولا يردع الإنسان عن التقصير والخيانة إلا الخوفُ من الله سبحانه، والعلمُ بأنه مطَّلع على كل ما نعمله بل وعلى ما تخفيه الأنفس. إن مما ينبغي ألا يتجاهله المنصفون: أن المسئول الذي لا يعرف الخوفُ من الله طريقًا إلى قلبه سوف يسرق ويظلم ويفسد ويحتكر وينهب ويدمر البلاد والعباد، وهل منع يوسفَ عليه السلام من الوقوع في الفاحشة إلا خوفُه من الله، فقال لامرأة العزيز: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(يوسف: من الآية23. وكلنا نذكر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الفتاة التي رفضت أن تطيع أمَّها التي أمرتها بغش اللبن؛ باعتبار أن عمر لا يراهما، فقالت البنت: أي أماه.. فأين الله؟! واللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملأ، وأعصيه في الخلاء.
فإذا انعدم الخوف من الله انقلب الإنسان وحشًا كاسرًا، لا يحجزه عن الشر رادع، وصارت القوة والحيلة وبالاً على صاحبها وعلى الدنيا كلها؛ إذ يستخدمها في الظلم والاستيلاء على بلاد وأموال الآخرين، والاعتداء على أعراضهم، وإنكار حقوقهم، والتعالي عليهم.
والخوف من الله يقوِّي القلب ويحرِّر النفس من الخوف من الخلق قال المحاسِبِيِّ: "كلما عَظُمَتْ هيبةُ اللَّه عزَّ وجلَّ في صدورِ الأولياء، لم يهابوا معه غيره؛ حياءً منه عزَّ وجلَّ أن يخافوا معَهُ سواه"، وذكر الحكماء أن علامة خوف الإنسان من الله أن يؤمِّنه خوفُه من كلِّ خوف غير خوف ربه تبارك وتعالى. وهذا صحيح تمامًا، فالذي يخاف الله يتحرر قلبه من الخوف من كل ما سوى الله، وإلا فما الذي يثبِّت المؤمن في المعركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر سوى يقينه بأن الأمر كله بيد الله؟ وما الذي يثبت الإيمان عند الإنسان رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضمِّ الهائج إلا الرغبة في جزاء الله، والخشية والخوف مما أعدَّه الله من العذاب المقيم لمن خالف أمره وعصاه؟!
إن الخوف من الله هو الذي يجعل صاحبه يفعل الطاعة والخير حتى ولو كان فيه حتفه. فذلك المجاهد الذي يخوض المعارك؛ ما جاء للمعركة وهو يعتقد أنه خرج في نزهة أو سياحة، بل كان يعلم أنه ذاهبٌ إلى ميدان حرب، ولكنه يعلم يقينًا أن استشهاده وتضحياته إن كان صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر هي التي يدخل بها الجنة برحمة الله وفضله. ولن يخاف الإنسان غيرَ الله إلا لمرض في قلبه، وقد شكا رجل إلى أحمد بن حنبل خوفَه من بعض الولاة فقال: "لو صححت لم تخف أحدًا"؛ أي خوفك سببه زوال الصحة من قلبك.
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين لهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه لم تُرهِبْهم تهديداتُ قريش بعد انتهاء غزوة أحد، فقد كتب علماء السيرة أن أبا سفيان وجموع قريش أرادوا أن يُدخلوا الرعب والخوف في قلوب المسلمين، فقالوا لركب من عبد القيس مروا بهم في طريقهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَافَيْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنّا قَدْ أَجْمَعْنَا السّيْرَ إلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ؛ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيّتَهُمْ، فَمَرّ الرّكْبُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِاَلّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ:"حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وفي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
وبقي هذا الدرس للأمة كلها درسًا حيًّا متجددًا، من خلال آيات القرآن التي خلَّدته؛ إذ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 173- 175 قـال سبحـانـه( وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ .. ) والمعنى يخوفك شياطين الجن والإنس ويخوفك المشركون والكافرون والمنافقون يخوفك كل هؤلاء لأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته فلذلك هم ينظرون إلى جميع مراكز القوى الدنيوية ويتعبدون لها. وهذه القوى منها قوة السلطان، قوة النافذين في المجتمع مالية كانت أو عسكرية أوسياسية أو حتى نسوية أو حتى لا أخلاقية أو حتى قوى الجن المزعومة إلى غير ذلك من قوى الشر التي تملأ الأرض، ولا سيما في هذا العصر، نعم يخوفونك بكل ذلك وينسون أن الله هو الحي القيوم الحاكم المطلق ، القائم على كل نفس بما كسبت، والذي هو بالمرصاد للأفراد، وبالمرصاد للأمم بحكامها وعساكرها وشعوبها، هذا كله والقرآن الكريم كتاب الله يصدع ويردد قول الله تعالى(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ) فالشيطان يضخِّم من شأن أوليائه، ويُظهرهم بمظهر القوة والقدرة، ويوقِع في النفوس أنهم ذوو قوة باطشة جبارة، وأنهم يملكون النفع والضر، وذلك ليحقِّق بهم الشر والفساد في الأرض، وليُخضِع لهم الرقاب، ويُطَوِّع لهم القلوب، ويوهمهم أنه لا تستطيع قوة معارضة أن تقف في وجههم، حتى لا يرتفع في وجوههم صوتٌ بالإنكار، ولا يفكر أحد في مواجهتهم أو دفعهم عن الشر والفساد. وإن من أكبر أعوان الشيطان في تحقيق هذه الأغراض الدنيئة ذلك الطابور الخامس؛ الذي يقوم بعملية التخذيل والتثبيط والتخويف، وضرب مناعة الأمة، وإضعاف قوتها النفسية، وإشاعة الانهزام في صفوفها فتحت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب والبطش يفعل أولياء الشيطان في الأرض ما يقرُّ عينه!.. يبدِّلون القيم، ويروِّعون الآمنين، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويخنقون صوت الحق والرشد والعدل، ويقيمون أنفسهم آلهةً في الأرض، تحمي الشر وتحارب الخير، دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم، بل دون أن يجرؤ أحد على كشف الباطل الذي يروِّجون له، وجلاء الحق الذي يطمسونه. ومن هنا يعرِّف الله المؤمنين الحقيقة، حتى لا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم؛ فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته، قال تعالى: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي إذا خوَّفكم الشيطان بهم أو منهم فتوكَّلوا عليَّ والجؤوا إليَّ، فإني كافيكم وناصركم عليهم، يعني أن الإيمان يقتضي أن تؤثِروا خوف الله على خوف الناس.
إن القوة الوحيدة التي تُخشَى وتُخاف هي القوة التي تملك النفع والضر.. هي قوة الله، وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله، وهم حين يخشونها وحدها لا تقف امامهم قوة في الأرض، لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان.

فكم وكم من الناس الذين يلجأون لغير الله ويعتمدون على غير الله ويستجيرون بغير الله ويدعون غير الله من البشر، يدعون الأنبياء والأولياء أمواتاً وأحياءً وهم يقرأون القرآن ويجودونه ويقرؤون في جملته قوله جل وعلا (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) ولكن يخِرُّون عليها صماً وعمياناً، هؤلاء يضلهم الله تعالى بضلالهم، هم الذين اختاروا الضلالة والغواية والتكذيب ، ولذلك يقول سبحانة تعـالى ) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . ( ومن يستطيع من خلق الله من الملائكة أو الأنبياء أو الأئمة أن يهدي من يضله الله جلت عظمته أو أن يضل من هـداه الله كما في قوله تعالى) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ( بلى إن الله عزيز ذو إنتقام ينتقم بعدله غير ظالم، ينتقم بعد أناته وصبره ووعده ووعيده

حينما تكون الهمة رجلاً

أما الرجل فهو رجل بسيط ، كان يرعى الغنم في بادئ أمره ، همته وأعلى طموحاته شاة يقودها ، ومرعىً خصباً ترعى فيه، كان يقيم هناك في بني أسلم بالقرب من المدينة النبوية ، كان يقيم مع والديه. سمع هو وغيره بقدوم رسول الله للمدينة، سمعوا عن صدقه وأمانته، سمعوا عن حب أصحابه له ، فما كان منه إلا أن ترك غنيماته وذهب ليرى هذا الرجل الذي سمع عنه. هناك في المدينة النبوية .. كانت النقلة الكبرى التي قدرها الله تعالى لهذا الرجل، كانت النقلة التي غيرت صاحبنا رضي الله عنه، قدم المدينة ورأى الرسول وآمن به وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. عاد راعي الغنم بعد ذلك إلى أهله، عاد ولكنه لم يعد، نعم لقد عاد بجسده ولم يعد بفكره ومشاعره لقد كان جسده في بني أسلم وقلبه في المدينة النبوية، هذه المشاعر الإيمانية قادت صاحبنا رضي الله عنه للعودة للمدينة، فبعد وقت غير طويل من اللقاء الأول مع رسول الله استأذن صاحبنا رضي الله عنه والديه ليسكن المدينة قرب الرسول. وصل المدينة ، وقابله النبي صلى الله عليه وسلم بالبشر الذي قابله به أول مرة، وعرفه النبي فزاد فرح وسعادة صاحبنا رضي الله عنه، فقره وقلة ما في يده جعله مع أهل الصفة ( قوم فقرء من أصحاب الرسول يسكنون خلف المسجد النبوي، تأتيهم الصدقات من موسري الصحابة وكان يختصهم ببعض الأطعمة والأشربة ). ثم جاءت النقلة الأخرى لهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه..إنها النقلة الحقيقية .. لقد قاده حبه للنبي لطلب عظيم لقد طلب أن يكون خادماً للنبي، نعم فذو الهمة العالية رضي الله عنه كان خادماً ، لكنه خادماً لأعظم من وطأت رجله الثرى، لأعظم البشر. لقد تشرف جمع من صحابة رسول الله بخدمته. لقد قادتهم تلك الخدمة المباركة للقرب من النبي ومعرفة أحواله وأخلاقه وسننه، لقد انتفعوا رضوان الله عليهم من النبي علماً جماً، ألم يكن خادمه الأول أنس بن مالك رضي الله عنه من أكثر الصحابة رواية للحديث. خدم ربيعة بن كعب بن مالك الأسلمي رضي الله عنه النبي وانتقل من رعي الغنم لخدمة أعظم البشر، نعم فارسنا وصاحب الهمة العالية هو ربيعة الأسلمي رضي الله عنه . كانت مظاهر خدمة ربيعة رضي الله عنه متنوعة متعددة ولنتصور تلك المظاهر فلنستمع لربيعة رضي الله عنه يحكي ذلك: ( كنت أبيت مع رسول الله فأتيته بوضوئه وحاجته .. ) ( مسلم). ( كنت اخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله العشاء الآخرة فأجلس ببابه حتى إذا دخل بيته أقول لعلها تحدث لرسول الله حاجة ... حتى أمل فارجع أو تغلبني عيني فارقد .) (أحمد)
وهكذا كان يوم ربيعة رضي الله عنه وليلته وقفاً لله تعالى وخدمة لرسوله وسعياً في قضاء حوائجه، حتى أنه رضي الله عنه يتلمس حاجات النبي يقضي حوائجه في النهار و يبيت الليالي عند باب بيت النبي. لقد استفاد ربيعة رضي الله عنه من هذه الملازمة للنبي فوائد جمة نجملها فيما يلي : أولها وأعظمها مكافأة النبي له ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمة ربيعة رضي الله وعنه وخفته في ذلك، قال ربيعة رضي الله عنه (فقال لي - يعني النبي - يوماً لما يرى من خفتي له وخدمتي إياه سلني يا ربيعة أعطك ) إمام الأئمة ورسول البشرية وقائدها محمد بن عبدالله يحتفي بخادمه ويكافئه ويقدر له عمله وخدمته وتفانيه وهكذا فليكن القائد والمدير والأب وولي الأمر ورب الأسرة وصاحب الفضل، وهكذا فلنكن مع أصحاب المعروف، لم يكن ربيعة رضي الله عنه ينتظر المكافأة بل مكافأته هي التشرف بخدمة النبي. ( سلني يا ربيعة أعطك ) السائل محمد بن عبد الله رسول الله قائد الأمة صاحب الدعوة المستجابة، والمسؤول ربيعة بن كعب رضي الله عنه رجل فقير عديم .. لا مال .. لا سكن ..لا زوجة .. لا دابة يركبها، إنها أمنيات لكل أحد مال وفير وزوجة حسناء وسكن واسع ومركوب فاره ، وإن تعجبوا فاعجبوا من إجابة ربيعة رضي الله عنه قال ( فقلت أنظر في آمري يا رسول الله ثم أعلمك ذلك ) ترو وتأن وتعقل ، وهكذا ينبغي أن يكون ديدن المسلم فالتأني من الله والعجلة من الشيطان كما ثبت ذلك عن رسول الله، النظر في الأمر والتمعن فيه وخصوصاً عند الأمور المهمة مطلب يقود بإذن الله تعالى إلى نتائج مرضية، ونعود إلى قصتنا .. ما سبب طلب ربيعة رضي الله عنه هذه المهلة، اسمعوا قال ربيعة رضي الله عنه: ( ففكرت في نفسي فعرفت إن الدنيا منقطعة زائلة وان لي فيها رزقا سيكفيني ويأتيني قال فقلت أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم آخرتي فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به ) أعلمتم السبب .. فكر .. ودارت في ذهنه هموم الدنيا كلها ومطالبها لكنه عرف قيمتها ومنزلتها ( إن الدنيا منقطعة زائلة ) هذه حقيقتها ومنزلتها عند ربها لا تساوي عند الله جناح بعوضة هي مزرعة والحصاد هناك في الآخرة .. نعم في الآخرة .. لهذا قال ربيعة رضي الله عنه (فقلت أسأل رسول الله لآخرتي فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به ) وصدق فرسول الله أعلى الخلق وأرفعهم مكانة وأشرفهم منزلة عند ربه. ( قال فجئت فقال ما فعلت يا ربيعة قال فقلت نعم يا رسول الله أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار قال فقال من أمرك بهذا يا ربيعة قال فقلت لا والله الذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قلت سلني أعطك وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به نظرت في آمري وعرفت إن الدنيا منقطعة وزائلة وان لي فيها رزقا سيأتيني فقلت اسأل رسول الله لآخرتي قال فصمت رسول الله طويلا ثم قال لي إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود ) هذه رواية الإمام أحمد رحمه الله ، أما رواية الإمام مسلم رحمه الله فقد جاءت على النحو التالي ( قال كنت أبيت مع رسول الله فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي سل فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعنى على نفسك بكثرة السجود ).. الله أكبر .. إن الهمم لتصغر أمام هذه الهمة الرفيعة لم يرد ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه الجنة فحسب بل أراد أعلى منزلة فيها لقد أراد رضي الله عنه مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، لقد أراد رضي الله عنه شفاعة النبي، لقد أراد رضي الله عنه العتق من النار. همة تناطح الجبال وعزيمة تريد أن تصل إلى المنال، تفكير في محله رؤية ثاقبة وأمان عظيمة، وثبات أيما ثبات يسأله النبي وربيعة يجيب - من أمرك بهذا يا ربيعة – هل أحد أملى عليك هذه الأماني، هل أحد ذكرك بهذه الهمة، ويعلنها ربيعة رضي الله عنه:- لا والله الذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قلت سلني أعطك وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به نظرت في آمري وعرفت إن الدنيا منقطعة وزائلة وان لي فيها رزقا سيأتيني فقلت اسأل رسول الله لآخرتي – جاء في رواية مسلم - أو غير ذلك قلت هو ذاك – ليس غير الجنة مبتغاً عند ربيعة رضي الله عنه فلتهنك الهمة أبا فراس. - صمت رسول الله طويلاً – ثم جاءت البشرى - إني فاعل – ويالها من بشرى لاتعدلها أي بشرى، هل توقف النبي عند هذه البشرى لا فقد رغب ربيعة بعد أن بشره وكأنه يقول للأمة من أراد أن يسمو بنفسه وينل تلك المكانة العظيمة فليكن شعاره مقالة النبي لربيعة رضي الله عنه ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ). لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لربيعة (فأعني على نفسك بكثرة السجود) ولم يكتفي بذكر الإكثار من السجود فحسب بأن يقول مثلاً فأكثر من السجود ، أو لعلنا نأتي بالسؤال بصيغة أخرى لماذا اختص النبي النفس بهذا المطلب السامي الذي طلبه ربيعة رضي الله عنه ، الجواب على هذه المسألة فصله شراح الحديث ولخصه الشيخ نور الدين السندي رحمه الله في حاشيته على سنن النسائي بقوله : ( فأعني على نفسك أي على تحصيل حاجة نفسك التي هي المرافقة والمراد تعظيم تلك الحاجة وأنها تحتاج إلى معاونة منك ومجرد السؤال مني لا يكفي فيها أو المعنى فوافقني بكثرة السجود قاهرا بها على نفسك وقيل أعني على قهر نفسك بكثرة السجود كأنه أشار إلى أن ما ذكرت لا يحصل الا بقهر نفسك التي هي أعدى عدوك فلا بد لك من قهر نفسك بصرفها عن الشهوات ولا بد لك أن تعاونني فيه وقيل معناه كن لي عونا في إصلاح نفسك واجعلها طاهرة مستحقة لما تطلب فإني أطلب إصلاح نفسك من الله تعالى وأطلب منك أيضا اصلاحها بكثرة السجود لله فإن السجود كاسر للنفس ومذل لها وأي نفس انكسرت وذلت استحقت الرحمة والله تعالى أعلم ) . هذه هي الفائدة الأولى والعظمى التي نالها ربيعة رضي الله عنه من ملازمة النبي ، ومن فوائد تلك الملازمة المباركة أيضاً روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقله طرفاً من قيام النبي الليل والمتمثلة في الأحاديث التالية / فعن ربيعة بن كعب الأسلمى قال ( كنت أنام في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أسمعه إذا قام من الليل يصلي يقول الحمد لله رب العالمين الهوى قال ثم يقول سبحان الله العظيم وبحمده الهوى ) وعنه أيضاً رضي الله عنه ( قال كنت أبيت عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيه وضوءه فاسمعه بعد هوى من الليل يقول سمع الله لمن حمده واسمعه بعد هوى من الليل يقول الحمد لله رب العالمين ) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد والنسائي . الهويَ بفتح الهاء وكسر الواو ونصب الياء المشددة ، قال الطيبي رحمه الله ( الحين الطويل من الزمان )، وقيل مختص بالليل والتعريف هنا لاستغراق الحين الطويل بالذكر بحيث لا يفتر عنه . وروى الإمام أحمد في مسنده قول ربيعة رضي لله عنه ( كنت أخدم رسول الله وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة فاجلس ببابه إذا دخل بيته أقول لعلها أن تحدث لرسول الله حاجة فما أزال اسمعه يقول رسول الله سبحان الله سبحان الله سبحان الله وبحمده .... ) الحديث . هذه هي حياة النبي في الليل صلاة وذكر وتقرب إلى الله تعالى كما روى ذلك ربيعة رضي الله عنه ، لقد كان النبي يقوم الليل حتى تتفطر قدماه تسأله زوجه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا . قال الله تعالى ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) وهي الشفاعة وكل عسى في القرآن فهي واجبة وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله وعسى من الله حق . هذه هي حال النبي صلى الله عليه وسلم في الليل وحال أصحابه رضوان الله عليهم شبيهة بحاله ، فما حالنا مع الليل وماهو أغلب المسلمين مع هذا الوقت الفاضل وقت النزول الإلهي حينما ينزل ربنا إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته حين يبقى ثلث الليل الأخير كما ثبت ذلك في الصحيحين فيقول هل من سائل فأعطيه هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له ، نعم أيها الأحباب إن هذا الوقت المبارك.. فرصة للسائلين.. فرصة للداعين ..فرصة للمستغفرين ،فأين أصحاب الحاجات.. أين أصحاب الكربات..أين أصحاب الهموم ..أين أصحاب الغموم .. أين الذين يسألون العباد وينسون رب العباد .. إن هذا الوقت المبارك يدعو النائمين يدعو الغافلين يدعو اللاهين ربكم الغني عنكم يدعوكم لسؤاله يدعوكم لدعائه يدعوكم لاستغفاره فهل أنتم مجيبون . وعودة إلى رحلتنا الماتعة مع ربيعة رضي الله عنه فقد كان ربيعة رضي الله عنه ملازماً للنبي ، كما أنه رضي الله عنه كان يغزو مع النبي ، جاء عند الحاكم رحمه الله (ولم يزل ربيعة بن كعب يلزم النبي بالمدينة ويغزو معه ) . بقي ربيعة رضي الله عنه ملازماً للنبي لايريد أن يشغله أحد عن هذا الشرف العظيم ، حتى أنه رضي الله عنه لم يفكر أن يتزوج لنفس هذا السبب ، لكن رسول الله فطن لهذا الأمر واهتم له ، ودعونا نستمع إلى قصة زواج ربيعة رضي الله فهي قصة عجيبة فيها أحداث كثيرة وفوائد ولعلنا نسوق القصة أولاً ثم تكون الدروس والعبر فلنستمع إليها كما يرويها ربيعة رضي الله عنه.

قضاء حوائج المسلمين

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال : ( أحب الناس إلى الله أنفعهم وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه ديناأو تطرد عنه جوعا ، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن اعتكف في المسجد شهرا ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظا ، ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له ، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام ، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل ) رواه الطبراني في الكبير ، وابن أبي الدنيا وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة .
إن بعض الناس يتأفف من لجوء الناس إليه لقضاء حوائجهم خاصة إذا كان ذا وجاهة أو سعة من المال .ولا يدري أن من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، وأن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه .فلئن تقضي لأخيك حاجة كأن تعلمه أو ترشده أو تحمله أو تقرضه أو تشفع له في خير أفضل عند الله من ثواب اعتكافك شهرا كاملا.
إن مجرد أن تقضي لأخيك حاجة قد لايستغرق أداؤها أحيانا نصف ساعة فإنه يسجل لك بها ثواب اعتكاف شهر واحد ، فتخيل لو أردت اعتكاف شهر كامل كم ستحتاج من مجاهدة للنفس بتعطيل أعمالك الخاصة وبقائك حبيس المسجد ثلاثين يوما إما ذاكرا لله أو ساجدا أو قارئا للقرآن ؟ ولكن خلال دقائق معدودة تنجز فيها لأخيك حاجته أو تسعى فيها لأرملة يسجل في صحيفتك كأنك اعتكفت سنوات عديدة .فكم سنة لم تحييها في الواقع سيسجل لك ثوابها إذا سخرت جزءا من وقتك لخدمة إخوانك المسملين ؟ إن الموظف الذي يقابل الجمهور وهو على مكتبه ليخدمهم وينجز لهم معاملاتهم لو استحضر هذا الحديث واحتسب عمله ، فكم من السنوات سيسجل له ثواب اعتكافها يا ترى ؟ إن بعض هؤلاء الموظفين تجدهم يشغلون أنفسهم عن المراجعين بأحاديث جانبية مع زملائهم في الوظيفة أو يتغيبون عن مكاتبهم وبعضهم يتعمد تعطيل المراجعين وتأخير معاملاتهم ولو علم بهذه الأحاديث النبوية وأمثالها لما بدرت منه هذه التصرفات.
فعلى العاقل ان يستعين على قضاء حوائج نفسة بالسعى فى قضاء حوائج الناس فإنك اذا سعيت فى قضاء حاجات المسلمين سعى الله نفسة فى قضاء حاجتك فأيهما خير لك؟ أن تسعى انت فى قضاء حاجة نفسك ام يسعى لك العليم القدير الذى بيدة ملكوت كل شئ وعندة خزائن كل شئ فى قضاء حاجتك ومن هنا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد حرصا على قضاء حوائج الناس : )كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم ، فلما استُخلف قالت جارية منهم :الآن لا يحلبها ، فقال أبو بكر : بلى وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله(. ) وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد بعض الأرامل فيسقي لهن الماء بالليل ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة . فدخل إليها طلحة نهارا فإذا هى عجوزا عمياء مقعدة ، فسألها :ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت : هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني ، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى .فقال طلحة : ثكلتك أمك يا طلحة ، عثرات عمر تتيع؟!
ومنها ان الحسن البصرى ارسل نفرا من اصحابة ف قضاء حاجة لرجل من المسلمين وأمرهم ان يمروا بثابت البنان فيأخذوه معهم فأتوا ثابت فأخبروة فقال انى معتكف فرجعوا الى الحسن فقال لهم قولوا له يا أعمش أما تعلم ان مشيك فى قضاء حوائج المسلمين خير لك من حجة بعد حجة فرجعوا الى ثابت فترك اعتكافة وخرج معهم.
وروى أن ابن عباس كان معتكفا في مسجد رسول الله ، نظر إلى إنسان رأى في وجهه كآبة ، قال له : مالك تبدو كئيباً ، قال له : ديون لزمتني لا أطيق سدادها ، قال له : لمن ؟ قال له : لفلان ، قال ابن عباس : أتحب أن أكلمه لك ؟ قال : إذا شئت ، فقام ابن عباس وخرج من معتكفه ، والاعتكاف في رمضان من أرقى العبادات ، قال له أحدهم : يا ابن عباس أنسيت أنك معتكف ؟ قال : لا والله ما نسيت ، ولكني سمعت صاحب هذا القبر وأشار إلى قبر النبي ، والعهد به قريب ، ودمعت عيناه ، قال :( والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر ، واعتكافه في مسجدي هذا ).
فى الصحيحين عن انس بن مالك رضى الله عنه انة قال كنا مع رسول الله فى سفر فنزل منزلا فى يوم شديد الحر أكثرنا ظلا من يستظل بكساء ومنا من يتقى الشمس بيده وكان منا الصائم ومنا المفطر فنزل الصائمون وقام المفطرون فضربوا الابنية وسقوا الركاب فقال النبى صلى الله عليه وسلم "ذهب المفطرون اليوم بالاجر" لانهم كانوا فى خدمة إخوانهم الصائمين وقضاء حوائجهم. (قال مجاهد: صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني أكثر)
) وكان حكيم بن حزام يحزن على اليوم الذي لا يجد فيه محتاجا ليقضي له حاجته . فيقول :ما أصبحت وليس ببابي صاحب حاجة ، إلا علمت أنها من المصائب التي أسأل الله الأجر عليها(
وإذا علمت أخي المسلم أن هذا الثواب العظيم كله لمن يخدم أخاه المسلم وهو له سنة فاضلة . فكيف بمن يكون في خدمة والديه وفي قضاء حوائجهما وهو أمر واجب عليه. فالله الله بالوالدين والحذر كل الحذر من العقوق أعذنا الله وإياكم من ذلك.
وفى الحديث عن النبى يقول " ومن مشى مع اخية فى حاجة حتى يثبتها لة ثبت الله قدمة يوم تزول الاقدام" والمراد بالحاجة اية حاجة سواء كانت مالية او مادية او معنوية او دينية اوادبية والمراد بقولة ثبت الله قدمة يوم تزول الاقدام ان الذى يمشى فى حاجة اخية المسلم حتى يثبتها لة ثبت الله قدمة يوم القيامة على الصراط الذى هو مدحضة مذلة أرق من الشعرة وأحد من السيف وعلى جنبية خطاطيف وكلاليب تتخطف الناس.
فيا أخى المسلم إقضى الحوائج ما استطعت واسع فى حوائج المسلمين وتذكر ان ما بك من نعمة فإنما انعم الله عليك بها لتنفع المسلمين وتمشى فى حوائجهم فإن انت فعلت أتم الله عليك نعمتة وزادك منها وإن انت بخلت ذهبت عنك نعمة الله
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله :«إن لله عند أقوام نعماً ، أقرها عندهم ما كانوا في حوائج المسلمين ، ما لم يملوهم ، فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم» [أخرجه الطبراني]، وفي رواية له : «إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع العباد ، يقرهم فيها ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم». . وتأمل كيف رفع النبي شأن من زار أخاه للزيارة فقط .. فكيف بمن زاره مواسياً مسلياً معزياً مساعداً .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ :«أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا ، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ . قَالَ : هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ : لَا ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ » [مسلم] .
أيها الاحباب .. كثير من الناس يفرح في هذه الدنيا لأنه يعرف الوزير فلان.. إذا أراد أن يعين ابنه أو أخته ما عليه إلا أن يحمل خطاباً من ذاك المسؤول فيُلبى طلبه وتُحقق رغبته .. لكن ماذا لو حظيت بنيل عون الله .. إذا فرح العبيد بعون العبيد ألا تفرح بعون العزيز المجيد ؟ ولكن.. كيف السبيل لذلك.. يجيب نبيك :« وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» [مسلم]. فكن في عون أخوانك في مصائبهم يكن الله لك في أمورك كلها . وعند الطبراني :«لا يزال الله في حاجة العبد ما دام في حاجة أخيه».
، فإنّ وقوفك بجانبهم دليل على رحمتك ، وقد قال النبي :«الراحمون يرحمهم الرحمن»، وقال : « مَنْ لا يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ» [البخاري ومسلم] . والجزاء من جنس العمل . اسمعوا قصة هذا الرجل ، قال نبينا :«كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ : تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا ، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْه» [البخاري ومسلم] . وفي رواية عند النسائي : «إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ، وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ ، فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ : خُذْ مَا تَيَسَّرَ ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ ، وَتَجَاوَزْ ؛ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا . فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ : هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ قَالَ : لَا ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ ، وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ ، فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ : خُذْ مَا تَيَسَّرَ ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ ، وَتَجَاوَزْ ؛ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ» .
وهذا يدل – عباد الله – على أنّ العبادة التي يتعدى نفعها أعظم من العبادة قاصرة النفع .. ومن ذلك إعانة المنكوبين وإغاثة الملهوفين . واسمع لهذه المقارنة التي صيغت في سؤال رُفع إلى رسول الله .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلَانَةَ تُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : «هِيَ فِي النَّارِ». قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ فُلَانَةَ تذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا وَإِنَّهَا تتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ :«هِيَ فِي الْجَنَّةِ» [أحمد] . فانظر فضل الإحسان إلى المسلمين ، وفضل العبادة التي يتعدى نفعها . وكل ذلك كائن في إعانة الملهوفين .
أقول لكم مرة ثانية : الذي يشدّ المؤمن إلى الله ليس التصور الإسلامي الصحيح والعميق ، والدقيق ، والمتناسق فقط ، الذي يشد المؤمن إلى الله أنك إذا عاملت الله دُهشت ، إن عاملته بالطاعة عاملك بالتكريم ، إن عاملته بالإنفاق عاملك بالإغناء ، إن عاملته بالتواضع رفع لك ذكرك ، لمجرد أن تتعامل مع الله مباشرة ، لمجرد أن تجعل إرضاء الله الهدف الأكبر أن تقول دائماً : إلهي أنت مقصودي ، ورضاك مطلوبي ، تجد المعاملة الإلهية تأخذ بالألباب . ( أنفق ، أنفق عليك ).

مواقف من حياة النبي صلى الله عليه وسلم

وهذه بعض من المواقف العظيمة من حياة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى نتعلم منه- صلى الله عليه وسلم - ونتخذه أسوة حسنه لنا، ونقتدي به في جميع أمورنا وأحوالنا · العفو : - في السنة الثامنة من الهجرة نصر الله عبده ونبيه محمدا-صلى الله عليه وسلم- على كفار "قريش"، ودخل النبي- صلى الله عليه وسلم- "مكة المكرمة" فاتحًا منتصرًا، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل "مكة"، وقد امتلأت قلوبهم رعبًا وهلعًا، وهم يفكرون في حيرة وقلق فيما سيفعله معهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد أن تمكن منهم، ونصره الله عليهم، وهم الذين آذوه، وأهالوا التراب على رأسه الشريف وهو ساجد لربه، وهم الذين حاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر، بل وتآمروا عليه بالقتل -صلى الله عليه وسلم- ، وعذبوا أصحابه أشد العذاب، وسلبوا أموالهم، وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم ، لكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قابل كل تلك الإساءات بالعفو والصفح والحلم قائلاً: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال-صلى الله عليه وسلم- : "اذهبوا فأنتم الطلقاء" . - ذات يوم كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يسير مع خادمه "أنس بن مالك"، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يلبس بردا نجرانيا يعني رداء كان يلتحف به ، ونجران بلد بين الحجاز واليمن ، وكان طرف هذا البرد غليظا جدًا ، فأقبل ناحية النبي- صلى الله عليه وسلم- أعرابي من البدو فجذبه من ردائه جذبًا شديدًا، فتأثر عاتق النبي- صلى الله عليه وسلم- ، (المكان الذي يقع ما بين المنكب والعنق) من شدة الجذبة، ثم قال له في غلظة وسوء أدب : يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك، فتبسم له النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- في حلم وعفو ورحمة، ثم أمر له ببعض المال .
·خرج رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في غزوة ناحية بلاد نجد من أرض الحجاز، وفى طريق عودته-صلى الله عليه وسلم- من تلك الغزوة مر بوادِ به شجر كثير الشوك، في وقت الظهيرة، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الجيش بالتوقف في هذا المكان لينالوا قسطًا من الراحة، فنام الجيش، ونام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تحت ظل شجرة كثيرة الأوراق وقد علق بها سيفه، وبعد فترة نادى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المسلمين فتجمعوا حوله – صلى الله عليه وسلم- ، فإذا برجل أعرابي يجلس أمامه فقال رسول الله- صلى عليه وسلم-: إن هذا الرجل أخذ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وسيفي في يده، فقال لي : من يمنعك منى ؟! (أي من يمنعني من قتلك الآن) ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (في ثبات عظيم وثقة وإيمان بالله) : الله، فارتعد الأعرابي بشدة، ووقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، وقال له : من يمنعك منى ؟ فقال الرجل لا أحد، ولم يقابل النبي الكريم إساءة هذا الأعرابي له بمثلها، بل- صلى الله عليه وسلم- عفا عنه فأسلم الرجل، وعاد إلى قومه، وأخبرهم بخلق النبي، وجميل عفوه وصفحه فأسلم معه خلق كثير.
· الشجاعة : - بعد أن فتح الله "مكة" على رسوله- صلى الله عليه وسلم- دخلت القبائل العربية في دين الله أفواجًا إلا أن بعض القبائل المتغطرسة المتكبرة وفي مقدمتها "هوازن" و"ثقيف" رفضت الدخول في دين الله، وقررت حرب المسلمين، فخرج إليهم النبي- صلى الله عليه وسلم- في اثني عشر ألف من المسلمين، وكان ذلك في شهر "شوال" سنة (8 ﻫ)، وعند الفجر بدأ المسلمون يتجهون نحو وادي "حنين"، وهم لا يدرون أن جيوش الكفار تختبئ لهم في مضايق هذا الوادي، وبينما هم كذلك انقضت عليهم كتائب العدو في شراسة، ففر المسلمون راجعين، ولم يبق مع النبي في هذا الموقف العصيب إلا عدد قليل من المهاجرين، وحينئذٍ ظهرت شجاعة النبي- صلى الله عليه وسلم- التي لا نظير لها، وأخذ يدفع بغلته ناحية جيوش الأعداء، وهو يقول في ثبات وقوة وثقة : "أنا النبي لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب"، ثم أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- عمه "العباس" أن ينادي على أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- فتلاحقت كتائب المسلمين الواحدة تلو الأخرى، والتحمت في قتال شديد مع كتائب المشركين، وما هي إلا ساعات قلائل حتى تحولت الهزيمة إلي نصر مبين . ذات ليلة سمع أهل المدينة صوتًا أفزعهم، فهب المسلمون من نومهم مذعورين وحسبوه عدوًا يتربص بهم، ويستعد للهجوم عليهم في جنح الليل فخرجوا ناحية هذا الصوت ، وحين كانوا في الطريق قابلوا النبي- صلى الله عليه وسلم- راجعًا راكبًا فرسه بدون سرج ويحمل سيفه ، فطمأنهم النبي- صلى الله عليه وسلم- وأمرهم بالرجوع بعد أن استطلع الأمر بنفسه- صلى الله عليه وسلم- فلم تسمح مروءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشجاعته أن ينتظر حتى يخبره المسلمون بحقيقة الأمر .
· الجود والكرم : - لقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وأكرم الناس، وما سأله أحد شيئًا من متاع هذه الدنيا إلا أعطاه- صلى الله عليه وسلم- ، حتى إن رجلاً فقيرًا جاء إليه- صلى الله عليه وسلم- يطلب صدقة فأعطاه النبي غنمًا كثيرة تملأ ما بين جبلين ، فرجع الرجل إلي قومه فرحًا سعيدًا بهذا العطاء الكبير، وأخذ يدعو قومه إلى الإسلام، واتباع النبي الكريم، وهو يخبرهم عن عظيم سخاء النبي- صلى الله عليه وسلم- ، وغزارة جوده وكرمه فهو يعطي عطاء من لا يخاف الفقر أو الحاجة . فعن أنس قال : "ما سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئًا إلا أعطاه . قال فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلي قومه فقال : يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة" (رواه مسلم(· الأمانة : عرف النبي- صلى الله عليه وسلم- بين أهل "مكة" قبل الإسلام بالاستقامة والصدق والأمانة فلقبوه بالصادق الأمين، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- موضع ثقة أهل "مكة" جميعًا؛ فكان كل من يملك مالاً أو شيئًا نفيسًا يخاف عليه من الضياع أو السرقة يودعه أمانة عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يحافظ على هذه الأمانات، ويردها إلى أصحابها كاملة حين يطلبونها، وعندما اشتد أذى الكفار له- صلى الله عليه وسلم- أذن الله له بالهجرة إلى "المدينة"، وكان عند النبي- صلى الله عليه وسلم- أمانات كثيرة لهؤلاء الكفار وغيرهم، لكن الأمين- صلى الله عليه وسلم- لم يهاجر إلا بعد أن كلف ابن عمه علي ابن أبي طالب أن يمكث في مكة ليرد تلك الأمانات إلى أهلها، في حين كان أصحاب تلك الأمانات يدبرون مؤامرة لقتل النبي- صلى الله عليه وسلم
· الشورى والتعاون : في السنة الخامسة من الهجرة تجمع حول المدينة جيش كبير من قريش وبعض القبائل العربية بلغ عدده نحو عشرة آلاف مقاتل، وذلك بتحريض من اليهود الغادرين، ولما بلغت هذه الأحزاب أسوار المدينة جمع النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه ليستشيرهم في خطة الدفاع عن المدينة، فأشار عليه الصحابي سلمان الفارسي قائلاً : يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، أي حفرنا خندقًا يحول بيننا وبين عدونا فاستحسن النبي- صلى الله عليه وسلم- رأي سلمان، وأخذ بمشورته، وشرع في تنفيذ هذه الخطة الرائعة التي لم تكن تعرفها العرب من قبل .
وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحثهم على الحفر بل كان- صلى الله عليه وسلم- يحفر كما يحفرون، ويحمل التراب كما يحملون .
وبفضل الشورى، والتعاون، والحب وصدق الإيمان حمى الله المدينة من جيوش المشركين، وأرسل عليهم ريحًا عاتية قلعت خيامهم وردتهم إلي ديارهم خائبين خاسرين مهزومين .
· العدل والمساواة : قلقت قبيلة قريش قلقًا شديدًا بعد أن سرقت امرأة قرشية من بني مخزوم، ولم يكن قلقهم بسبب ما أقدمت عليه تلك المرأة من السرقة بقدر ما كان قلقهم من إقامة الحد عليها، وقطع يدها، فاجتمع أشراف قريش، يفكرون في طريقة يحولون بها دون تنفيذ تلك العقوبة على امرأة منهم، وانتهت محاوراتهم إلى توسيط الصحابي الجليل أسامة بن زيد حب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، فهو أقدر الناس على مخاطبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر، فقبل أسامة رجاءهم، وتقدم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يشفع في درء حد السرقة عن تلك المرأة، فتلون وجه النبي- صلى الله عليه وسلم- ، وغضب غضبًا شديدًا، واستنكر أن يشفع أسامة في تطبيق حد من حدود الله، فأدرك أسامة خطأه، وطلب من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر له . وقد كان هلاك الأمم السابقة أنهم كانوا ينفذون العقوبة على الضعفاء والفقراء، ولا ينفذونها على الأقوياء والأغنياء ، فجاء الإسلام وسوى بين الناس فى الحقوق والواجبات .وقد طبق رسول الله- صلى الله عليه وسلم حدود الله على الجميع بلا استثناء، حتى إنه- صلى الله عليه وسلم- أقسم لو أن فاطمة بنته سرقت لقطع- صلى الله عليه وسلم- يدها، ثم أمر- صلى الله عليه وسلم- بتنفيذ حد الله في السارقة فقطعت يدها، ولقد تابت تلك المرأة عن فعلتها، وحسنت توبتها، وتزوجت بعد ذلك، وكانت تتردد على بيت النبوة فتجد فيه الود والرعاية والقبول .
اللهم صل على سيدنا محمد و على آل سيدنا محمد و صحبه و سلم تسليما
كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس خلقًا، وأكرمهم أصلاً، وأهداهم سبيلاً، وأرجحهم عقلاً، وأصدقهم قولاً وفعلاً، أدبه ربه – عز وجل -فأحسن تأديبه، ورباه فأحسن تربيته، وأثنى عليه -سبحانه -في كتابه الكريم فقال : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم
موقف للرسول صلى الله علية وسلم مع ضماد بن ثعلبة الازدىكان ضماد صديقا لرسول الله صلى الله علية وسلم فى الجاهلية وكان رجلا يتطيب ويرقى ويطلب العلم فسمع سفهاء من اهل مكة يقولون : ان محمدا مخبون فجاءة و قال انى راق فهل بك شىء فأريقك ؟ فاجابة صلى الله علية وسلم بقولة ((( انا الحمد لله نحمدة ونستعينة ومن يهدة الله فلا مضل لة ومن يضلل فلا هادى لة واشهد ان لا اله الا الله وحدة لا شريك لة وان محمدا عبدة ورسولة اما بعد ))) فقال له ضماد اعد على كلماتك هؤلاء فأعادهن رسول الله صلى الله علية وسلم ثلاثا فقال ضماد و الله لقد سمعت قول الكهنة وسمعت قول السحرة وسمعت قول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات لقد بلغت ناعوس البحر (وسطة ) فمد يدك ابايعك على الاسلام فمد النبى صلى الله علية وسلم يدة فبايعة واسلم رضى الله عنةالموقف الثانى ::::موقف للرسول صلى الله علية وسلم مع ابى جهل:روى مسلم عن ابى هريرة قال : قال ابو جهل هل يعفر محمد وجهه بين اظهركم ؟ قال : فقيل : نعم و اللات و العزى لان رايتة لاطئن على رقبتة او لاعفرن وجهه فى التراب فاتى رسول الله صلى الله علية وسلم وهو يصلى ليطأ رقبتة فما فجئهم منه الا و هو ينكص على عقبية ويتقى بيدية فقالوا : مالك يا ابا الحكم ؟ قال: ان بينى وبينه لخندقا من نار و هولا واجنحه فقال رسول الله صلى الله علية وسلم : لو دنا منى لاختطفتة الملائكه عضوا عضواموقف للرسول صلى الله عليه وسلم مع نفسه::::::::عن على رضى الله عنة قال سمعت رسول الله يقولما هممت بقبح مما هم به اهل الجاهلية حتى اكرمنى الله بالنبوة الا مرتين من الدهر كلتاهما عصمنى الله عز وجل من فعلهما قلت لفتى كان معى من قريش باعلى مكه فى غنم لاهلة يرعاها : ابصر لى غنمى حتى اسمر هذة الليلة بمكه كما يسمر الفتيان قال : نعم ( فلما جئت ادنى دار من مكه سمعت غناء وصوت دفوف و مزامير فقلت : ما هذا قالوا: فلان يتزوج فلانة فلهوت بذلك الصوت حتى غلبنى النوم فنمت فما ايقظنى الا مس الشمس فرجعت الى صاحبى فقال ما فعلت ؟ فاخبرتة . ثم فعلت الليلة الاخرى مثل ذلك).موقف للرسول مع ابى عزة عمرو الجمحى الشاعر ::::::ابو عزة عمرو الجمحى الشاعر كان من اسرى غزوة بدر و كان يؤذى النبى صلى الله علية وسلم بشعرة فقال : يا رسول الله انى فقير و ذو عيال و حاجة قد عرفتها على فمن عليه رسول الله صلى الله علية وسلم واطلقة بغير فداء و اخذ علية عهدا ان لا يظاهر علية احدا ولما وصل الى مكة قال سحرت محمدا ورجع لما كان علية من ايزاء بشعرة ولما كان يوم غزوة احد خرج مع المشركين يحرض على قتال المسلمين بشعرة فاسرة النبى صلى الله علية وسلم و امر بضرب عنقة فقال : اعتقنى و اطلقنى فانى تائب . فقال الرسول (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) فضرب عنقة و حمل راسة الى المدينة وانزل الله فية (وان يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم)موقف للرسول مع السيدة عائشة رضى الله عنها ::::::روى احمد و الطبرانى ان السيدة عائشة قالت: كان رسول الله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها فذكرها يوما ما من الايام فاخذتها الغيرة فقالت لرسول الله هل كانت الا عجوزا قد ابدلك الله خيرا منها؟ فغضب النبى ثم قال: (لا و الله ما ابدلنى الله خيرا منها امنت بى اذا كفر بى الناس و صدقتنى اذا كذبنى الناس وواستنى بمالها اذ حرمنى الناس و رزقنى الله منها الولد دون غيرها من النساء)موقف للرسول صلى الله علية وسلم مع عبد الله بن مسعود :::::::عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله علية وسلم : اقرا علي القران فقلت يا رسول الله اقرا عليك وعليك انزل قال: انى احب ان اسمعة من غيرى قال فقرات علية سورة النساء حتى جئت الى هذة الاية (فكيف اذا جئنا من كل امه بشهيد وجئنا بك على هؤلا ء شهيدا ) سورة النساء الاية 41 قال رسول الله صلى الله علية وسلم حسبك الان فالتفت الية فاذاعيناة الكريمتان تذرفان بالدموع صلى الله علية وسلمموقف للرسول صلى الله علية وسلم مع عبد الله بن سلام ::::::دخل النبى صلى الله علية وسلم المدينة فجاءة عبد الله بن سلام فقال : اشهد انك رسول الله وانك جئت بالحق وقد علمت اليهود انى سيدهم وابن سيدهم واعلمهم وابن اعلمهم فادعهم فاسألهم عنى قبل ان يعلموا انى قد اسلمت فانهم ان يعلموا انى قد اسلمت قالوا : فى ما ليس فى فارسل اليهم نبى الله صلى الله علية وسلم فاقبلوا فدخلوا علية فقال صلى الله علية وسلم يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فو الله الذى لا اله الا هو انكم لتعلمون انى رسول الله حقا وانى جئتكم بحق فاسلموا قالوا ما نعلمه قالوا ذلك للنبى ثلاث مرات قال:فاى رجل فيكم عبد الله بن سلام ؟قالوا ذاك سيدنا وابن سيدنا واعلمنا وابن اعلمناقال : افرايتم ان اسلم؟ قالوا : حاشا لله ما كان ليسلم قال: يا بن سلام اخرج عليهم فخرجفقال يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله الذى لا اله الا هو انكم لتعلمون انه رسول الله وانة جاء بالحق فقالوا كذبت فاخرجهم رسول اللهوفى رواية اخرى قالوا: بعد ان اسلم عبد الله هو سفيهنا وابن سفيهنا
وهذه بعض من المواقف العظيمة من حياة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم- حتى نتعلم منه- صلى الله عليه وسلم- ونتخذه أسوة حسنه لنا، ونقتدي به في جميع أمورنا وأحوالنا .

الدعاء يرقق القلب

جعل الله تعالى من الدعاء عبادة وقربى، وأمر عباده بالتوجه إليه لينالوا عنده منزلة رفيعة وزلفى، أمر بالدعاء وجعله وسيلة الرجاء، فجميع الخلق يفزعون في حوائجهم إليه، ويعتمدون عند الحوادث والكوارث عليه.
يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}... البقرة:186. تأمل يا أخي هذه الآية تجد غاية الرقة والشفافية والإيناس، آية تسكب في قلب المؤمن النداوة والود والأنس والرضا والثقة واليقين.
ولو لم يكن في الدعاء إلا رقة القلب لكفى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}... [الأنعام:43]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)
بل هو من أكرم الأشياء على الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) . والمؤمن موعود من الله تعالى بالإجابة إن هو دعا مولاه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}...غافر:60.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها). قالوا: يا رسول الله، إذًا نكثر. قال: (الله أكثر(
ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إني لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن أحمل هم الدعاء، فمن رزق الدعاء فإن الإجابة معه.
وحقيقة الدعاء: هو إظهار الافتقار لله تعالى، والتبرؤ من الحَوْل والقوة، واستشعار الذلة البشرية، كما أن فيه معنى الثناء على الله، واعتراف العبد بجود وكرم مولاه.
مما لا شك فيه أن الدعاء الذي يرجو صاحبه الإجابة هو ما التزم فيه الآداب الواردة فيه ومنها:
تحري أوقات الاستجابة: فيتخير لدعائه الأوقات الشريفة؛ كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السَّحَر من ساعات الليل.
وأن يغتنم الأوقات والأحوال التي يُستجاب فيها الدعاء، كوقت التنزُّل الإلهي في آخر الليل، وفي السجود، وأن ينام على ذِكْر فإذا استيقظ من الليل ذكر ربه ودعاه، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول المطر، وعند التقاء الجيوش في الجهاد، وعند الإقامة، وآخر ساعة من نهار الجمعة، ودعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب، ودعوة المسافر والمظلوم، ودعوة الصائم والوالد لولده،، ودعاء رمضان.
ومن الآداب: أن يدعو مستقبل القبلة وأن يرفع يديه، وألا يتكلف السجْع في الدعاء، وأن يتضرع ويخشع عند الدعاء؛ قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)... الأعراف:55، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}... الأنبياء:90
وأن يخفض الصوت؛ فإنه أعظم في الأدب والتعظيم، ولأن خفض الصوت أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو رُوح الدعاء ومقصوده؛ فإن الخاشع الذليل المتضرع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبُه وذلَّت جوارحُه، وهذه الحالة لا يليق معها رفع الصوت بالدعاء أصلاً. ولأنه أبلغ في الإخلاص، وأبلغ في حضور القلب عند الدعاء.
ولأن خفض الصوت يدل على قرب صاحبه من الله، فيسأله مسألة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد، وهذا من الأسرار البديعة جدًّا، ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً}... مريم:3
وإخفاء الدعاء يكون سببا في حفظ هذه النعمة العظيمة -التي ما مثلها نعمة- من عيْن الحاسد..
أن يفتتح الدعاء بذكر الله والثناء عليه وأن يختمه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل دعاء محجوبٌ حتى يُصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم)
ومن أهم الآداب التي ينبغي للداعي أن يحافظ عليها تطهير الباطن – وهو الأصل في الإجابة – فيحرص على تجديد التوبة ورد المظالم إلى أهلها، وتطهير القلب من الأحقاد والأمراض التي تحول بين القلب وبين الله، وتطييب المطْعَم بأكل الحلال.
أن يجزمَ بالدعاء ويُوقن بالإجابة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم مُوقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ غافل لاهٍ)
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت. وليعزم المسألة، ولْيعظم الرغبة؛ فإن الله لا يعظُمُ عليه شيء أعطاه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدُكم إذا دعا: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت. فليعزم المسألة؛ فإنه لا مُكره له). ويعزم المسألة معناه أن يطلب ما يريد من غير تعليقه بالمشيئة، فيقول مثلا: اللهم ارزقني، اللهم اغفر لي.
قال سفيان بن عُيينة: لا يمنعنَّ أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه؛ فإن الله عز وجل أجاب دعاء شرِّ الخلق إبليس لعنه الله: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}... الحجر:36، 37
أن يُلحَّ في الدعاء ويكرِّره ثلاثًا: قال ابن مسعود): كان عليه السلام إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا)
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مازال يهتف بربِّه، مادًّا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبَيْه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتُك ربَّك، فإنه سيُنجِزُ لك ما وعدك.
وهذا نبي الله يعقوب صلى الله عليه وسلم، مازال يدعو ويدعو، فذهب بصره، وأُلقي ولدُه في الجُبِّ ولا يدري عنه شيئًا، وأُخرج الولدُ من الجُبِّ، ودخل قصرَ العزيز، إلى أن شبَّ وترعرع، ثم راودته المرأة عن نفسها فأبى وعصَمَه الله، ثم دخل السجن فلبث فيه بضع سنين، ثم أُخرج من السجن، وكان على خزائن الأرض، ومع طول هذا الوقت كله ويعقوب يقول لبنيه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}...يوسف:87
أن يُعظِّمَ المسألة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تمنى أحدُكم فليُكثر، فإنما يسأل ربَّه).
قال المناوي رحمه الله: إذا تمنى أحدكم خيرًا من خير الدارَيْن فليكثر الأماني، فإنما يسأل ربه الذي ربَّاه وأنعم عليه وأحسن إليه، فيعظم الرغبة ويوسِّع المسألة ... فينبغي للسائل إكثار المسألة ولا يختصر ولا يقتصر؛ فإن خزائن الجُود لا يُفنيها عطاءٌ وإن جلَّ وعظُم، فعطاؤه بين الكاف والنون، وليس هذا بمناقضٍ لقوله سبحانه: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}... [النساء:32] فإن ذلك نهي عن تمنِّي ما لأخيه بغْيًا وحسدًا، وهذا تمنى على الله خيرًا في دينه ودنياه، وطلب من خزائنه فهو كقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}... [النساء:32[
وقد ذم الله من دعا ربه الدنيا فقط، فقال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ {..البقرة:200، وأثنى سبحانه وتعالى على الداعين بخيري الدنيا والآخرة فقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}... [البقرة:201[
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة – أراه قال: وفوقه عرشُ الرحمن – ومنه تفجَّرُ أنهار الجنة)
الدعاء باسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب: فعن بُريدة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب)
أن يجتهد في الإتيان بالأدعية الواردة في الكتاب والسنة ؛ فإنها لم تترك شيئا من خير الدنيا والآخرة إلا وأتت به، وألا ييأس إن تأخرت الإجابة فإن هذا من العجلة التي نهى عنها الشرع. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستجيب دعاءهم، والحمد لله رب العالمين.

اتق الله حيثما كنت

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد ايها المسلمون، فنعيش هذه الدقائق القليلة في رحابِ سنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، ومع حديثٍ شريفٍ عظيم، مروي عن سيدنا أبي ذر(جندب بن جنادة) وابى عبد الرحمن معاذ بن جبل- رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم- قال: "اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأَتْبِع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِق الناسَ بخُلُقٍ حسن".
وتقوى الله اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه وحق التقوى كما ذكر ابن مسعود رضي الله عنه أن يطاع الله فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى أو أن يتقي العبد مالا يتقي كما قال بعض السلف إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا مالا يتقي أي جعلوا بينهم وبين الحرام سترة من الحلال فاجتنبوا بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام وقوله صلى الله عليه وسلم: (حيثما كنت) إرشاد إلى عبادة الله على وجه المشاهدة فإن لم يكن فعلى الأقل على وجه المراقبة كما قال صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه), أي على وجه الحضور والمشاهدة كأنما تشاهده جل وعلا .
هذا الحديث قد جمع للمسلم أصول علاقاته في الدنيا، وهي علاقات ثلاث:
علاقته أولاً بربه ومولاه سبحانه وتعالى، وهذه تناولها قوله- صلى الله عليه وسلم- "اتق الله حيثما كنت".. كذلك علاقته بنفسه، وهذه تناولها قوله- صلى الله عليه وسلم- "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، ثم بعد ذلك علاقته بسائرِ الناس تناولها قوله- صلى الله عليه وسلم- "وخالق الناس بخلق حسن".
أولاً: علاقة الإنسان بربه ومولاه: لا شك أنَّ كلَّ علاقة من هذه العلاقاتِ مرتبطة بالأخرى، وأعظمها وأولاها علاقة الإنسان بالله عز وجل، لا بد من وجودها ولا بد من حسنها لكي يترتب عليها حسن علاقة الإنسان بنفسه ثم بعد ذلك علاقته بالناس (علاقته بالمجتمع(، ولا شك كذلك أنَّ لهذا الحديثِ صلةً قويةً وعلاقةً متينةً بما يسعى الناس إليه في هذه الأيام ويكثر الحديث حوله عن قضية الإصلاح والتغيير.

"اتق الله حيثما كنت" تعني: أنه لا بد من استشعارِ معية الله في كل وقت.. فبعض الناس يظنون أنَّ التدينَ مقصورٌ معناه على نطاقٍ ضيقٍ محصور بين جدران المساجد، فتسأل الواحد من هؤلاء: هل أنت متدين؟ فيقبل يده ظاهرًا وباطنًا ويقول: الحمد لله أُصلي ولا أدعُ فرضًا، وأصوم رمضان، ولو كان عندي مال أزكي أو أحج، والبعض يقول: لقد حججتُ أكثر من مرة.
ثم ماذا بعد، ماذا عن أثرِ الإسلام في حياته؟ ماذا عن آثار أداء هذه العبادات في واقعه مع نفسه وواقعه مع الناس؟ لم يقل النبي- صلى الله عليه وسلم-: اتق الله في المسجد، أو اتق الله أثناء أدائك العبادة أو أدائك الشعائر التعبدية، وإنما قال: "اتق الله حيثما كنت".. اتق الله في متجرك وكن تاجرًا صدوقًا أمينًا حتى تُحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إذا كنت بائعًا أو مشتريًا فليكن عنوان بيعك وشرائك تقوى الله تبارك وتعالى على حد قوله- صلى الله عليه وسلم-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يحققا ربحًا ما ويمحق الله بركة بيعهما".

اتق الله في مدرستك، إن كنت طالبًا أو مدرسًا أو موظفًا إداريًّا أو مسئولاً عن المدرسة.. اتق الله في كليتك، إن كنت أستاذًا أوعميدًا لها أو كذا أو كذا.

اتق الله في مصنعك، اتق الله في ورشتك، اتق الله في مؤسستك، اتق الله في وظيفتك، في كل مجالٍ وفي كل مكان.. "اتق الله حيثما كنت"، في أي مكان تواجدت، في أي موقع وُجدت، لا بد أن تكون مراقبًا تمامًا لمولاك سبحانه وتعالى.

ومن الأمثلة الفذة في الإحساسِ بمعية الله: أذكر في هذا المقام ما حدث من راعٍ شاب صغير مرَّ عليه سيدنا عمر- رضي الله عنه- في رواية، أو مجموعة الصحابة في رواية أخرى.

أراد سيدنا عمر أن يجري للشاب اختبارًا ليعرف مدى قربه من الله ومدى صلته بمولاه، فقال له: أيها الشاب إننا نسير في الصحراء منذ عدة أيام، بلغ بنا الجوع مبلغه، أعطنا شاةً نأكلها خذ ثمنها لنفسك وقل لصاحبها: إن الذئب أكلها.. معصية تأتي له بمصلحة، انحراف يعود عليه بنفع، ولكن انظر إلى المراقبة "اتق الله حيثما كنت".. ماذا قال الشاب التقي النقي؟ قال له: يا هذا- وهو لا يعرفه، ولا يعرف أنه عمر أمير المؤمنين- قال له: إن استطعت أن أكذب على صاحبِ الغنمِ، فكيف أكذبُ على ربي ورب صاحب الغنم؟!!

علم سيدنا عمر أنَّ هذا الشاب تقي نقي مراقب لمولاه، يطبق حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "اتق الله حيثما كنت" فأراد أن يُكافئه فذهب إلى سيد هذا الغلام واشترى منه الغلام والقطيع كله وأعتق الغلام حرًّا لوجه الله رب العالمين وأعطاه القطيع كله هديةً له، بعد أن كان سيأخذ ثمن شاة واحدة من حرام أصبح القطيع كله ملكًا له وفوق ذلك أصبح حرًّا بعد أن كان عبدًا. وقال له سيدنا عمر: "أعتقتك كلمتك في الدنيا وأدعو الله أن تعتقك من عذاب جهنم يوم القيامة".
ثانيًا: علاقة الإنسان بنفسه: ولكن قد يقول قائل- وهذا شيء منطقي وواقعي-: لسنا ملائكة ولسنا معصومين، نحن بشر نُخطئ ونُصيب، جاهزون وصالحون للطاعةِ أو المعصية، فيدي هذه أستطيع أن أمسح بها على رأس يتيم، وأستطيع أن أقدم بها صدقة، ويمكن أيضًا أن أبطش بها أو أن أضرب بها أو أمدها إلى حرام، ستطيعني لأن الله أمرها أن تكون طوع أمري، لا شك أن الإنسان قد يقع في معصية، قد يقع في انحراف! فما العمل؟
المسلم ليس معصومًا من الخطأ: هنا تأتي الفقرة الثانية المتعلقة بعلاقةِ الإنسان بنفسه، يا هذا أنت لست معصومًا، أنت بشر، فإن وقعت في معصية، أو انزلقت في انحرافٍ، فبادر بالعودة وأسرع بالإنابة إلى الله عز وجل "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" أما إذا بقيت السيئة ولم تتبع بحسنة ثم جاءتها سيئة أخرى ومعصية ثالثة وانحراف رابع، فإنه يتراكم الانحراف على قلب الإنسان ويصبح رانًا على قلبه (نسأل الله العفو والعافية) على حدِّ قول الله عزَّ وجل ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ المطففين:14)

فالكيس والذكي والفطن، إذا انزلقت قدمه إلى معصية، وإذا وقع في انحراف سرعان ما يبادر بالتوبة، وباب الله لا يُغلق في وجه طالب أبدًا، ويكفي أن الله عز وجل قد خاطب، ليس العصاة فحسب، وإنما مَن أسرفوا على أنفسهم بالعصيان، مَن تجاوزوا الحدَّ في المعصية، ولم يحرمهم من شرفِ الانتساب إليه، قال سبحانه ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر: 53).. يا للعظمة، مع أنهم قد تجاوزوا الحدَّ في العصيانِ إلا أنَّ ربهم لم يحرمهم من شرفِ الانتساب إليه.
- ومما زادني شــرفًا وتيـهًا وكدتُ بأخمصي أطأ الثريا
- دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبـيا
خير الخطائين التوابون: إذًا، فأتبع السيئة الحسنة تمحها، ومن كرمه عز وجل أن جعل لنا باب التوبة مفتوحًا في كل وقت ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ هود: 114)
وفي الصحيح، صحيح البخاري -رحمه الله- وغيره أن رجلا من الصحابة نال من امرأة قُبلة فأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بالخبر مستعظما لما فعل، فيسأله عن كفارة ذلك، فنزل قول الله -جل وعلا-: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ فقال له -عليه الصلاة والسلام- هل صليت معنا في هذا المسجد؟ قال: نعم. قال: فهي كفارة ما أتيت .
وهذا يدل على أن المؤمن يجب عليه أن يستغفر من السيئات، وأن يسعى في زوالها، وذلك بأن يأتي بالحسنات، فالإتيان بالحسنات يمحو الله -جل وعلا- به أنواع السيئات.
وكل سيئة لها ما يقابلها، فليس كل سيئة تمحوها أي حسنة فإذا عظمت السيئة وكبرت فلا يمحوها إلا الحسنات العظام؛ لأن كل سيئة لها ما يقابلها من الحسنات.
ثالثًا: علاقة الفرد بالناس من حوله: إذا أصلح الإنسان علاقته بمولاه، وبالتالي أصلح علاقته بنفسه، فلا شك أنَّ علاقته بالناس ستكون علاقةً قائمةً على منهجِ الله عزَّ وجل فتأتي الفقرة الثالثة "وخالق الناس بخلق حسن". وأول الخلق الحسن: أن تكف عنهم أذاك من كل وجه، وتعفو عن مساوئهم وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي وأخص ما يكون بالخلق الحسن: سعة الحلم على الناس، والصبر عليهم، وعدم الضجر منهم، وبشاشة الوجه، ولطف الكلام والقول الجميل المؤنس للجليس، المدخل عليه السرور، المزيل لوحشته. وقد يحسن المزح أحياناً إذا كان فيه مصلحة، لكن لا ينبغي الإكثار منه وإنما المزح في الكلام كالملح في الطعام، إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم.ومن الخلق الحسن: أن تعامل كل أحد بما يليق به، ويناسب حاله من صغير وكبير، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل.
وخالق الناس: المرأة، زوجتي من ضمن الناس، مطلوب أن أُعاشرها وأعاملها بالمعروف، أبنائي من ضمن الناس، جيراني، المحيطون بي في عملي، أقاربي، كل الناس، مطلوب مني أن أعاملهم بالصورة التي تُرضي الله سبحانه وتعالى. وخالق الناس بخلق حسن والناس هنا يراد بهم المؤمنون في جماع الخُلق الحسن بأن يحسن إليهم، ويراد بهم -أيضا- غير المؤمنين في معاملتهم بالعدل، والخُلق الحسن يشمل: ما يجب على المرء من أنواع التعامل بالعدل لأهل العدل، والإحسان لمن له حق الإحسان، قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: خالق الناس بخلق حسن . والخلق الحسن فسر بتفسيرات منها أنه: بذل الندى وكف الأذى، يعني: أن تبذل الخير للناس، وأن تكف أذاك عنهم
وقال آخرون: إن الخلق الحسن: أن يحسن للناس بأنواع الإحسان، ولو أساءوا إليه، كما جاء الأمر بمخالقة الناس بالخلق الحسن، والحث على ذلك، وبيان فضيلته في أحاديث كثيرة.
ومما جاء في بيان فضيلته قوله -عليه الصلاة والسلام-: إن أدناكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون . وثبت عنه -أيضا عليه الصلاة والسلام- أنه قال: إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم يعني:: المتنفل بالصيام، والمتنفل بالقيام فحسن الخلق الذي يبذله دائما طاعة من طاعات الله -جل وعلا-، فإذا كان دائم إحسان الأخلاق على النحو الذي وصفت، فإنه يكون في عبادة دائمة، إذا فعل ذلك طاعة لله -جل وعلا-.
وحسن الخلق تارة يكون "طبعا"، وتارة يكون "حملا" يعني: طاعة لله -جل وعلا- لا طبعا في المرء، وما كان من حسن الخلق على امتثال الطاعة، وإلزام النفس بذلك فهو أعظم أجرا ممن يفعله على وفق الطبيعة، يعني: لا يتكلف فيه؛ لأن القاعدة المقررة عند العلماء أن: الأمر إذا أمر به في الشرع، يعني: أن المسألة إذا أمر بها في الشرع، فإذا امتثلها اثنان فإن من كان أكلف في امتثال ما أمر به كان أعظم أجرا في الإتيان بالواجبات.

"اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن": سمعت أن بعض الناس يستحلون أموال غير المسلمين، ويعتدون على حرماتهم بدعوى أنهم غير مسلمين.. والحديث يقول "اتق الله حيثما كنت" في بلد إسلامي، أو غير إسلامي، تتعامل بمنطق (وخالق الناس) لم يقل (وخالق المؤمنين أو المسلمين) وإنما قال )وخالق الناس) كل الناس (بخلق حسن). وفقنا الله تعالى وإياكم إلى ما يحب ويرضى وثبتنا على طريق الحق.

أحب الناس إلى الله

عن عبد الله بن عمر أن رجلاً جاء إلى رسول الله فقال: "يا رسول الله أي الناس أحبُ إلى الله؟" وأي الاعمال أحبُ إلى الله؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : 'أحب الناس إلى الله أنفعهم ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كُربة، أو تقضي عنه دينا،أو تطرد عنه جوعا ، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في المسجد شهراً، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل' حديث حسنه الألباني
فهذا حديث عظيم, ملىء بالدعوة الى الحب والمحبة والأخوة الصادقة والأخلاق العالية الرفيعة الكفيلة بإشاعة التراحم والتكافل بين أفراد الأمة وتحويل المجتمع الى كيان وجسد واحد يتداعى بعضه لبعض ويحمل كل عضو هم الأخر بكل رضي وسرور.
إن للأخوة أبواباً جليلة وواجبات كثيرة وحقوقاً عظيمة وهذا يدل على عظم منزلة الأخوة والألفة والمحبة ..هناك باب من أبواب الأخوة عظيم النفع جليل القدر كثير الأجر ، به تحفظ الأخوة ، به تدوم الألفة ، به تصدق المحبة ، و به يختبر الصديق ويمتحن في صدق محبتهِ . إن قضاء الحوائج واصطناع المعروف باب واسع يشمل كل الأمور المعنوية والحسية التي ندب الإسلام عليها وحثَّ المؤمنين على البذل والتضحية فيها لما فيه من تقويةٍ لروابط الأخوة وتنمية للعلاقات البشرية ،
فالأيمان ليس فقط عقيدة ينعقد عليها القلب فحسب بل لابد لها من أعمال تصدقها وتبرهن على حقيقة وجودها في تلك المضغة التي لو صلحت لصلح الجسد كله ولو فسدت لفسد الجسد كله, وفي هذه الكلمات النيرات المنطلقة من أطهر لسان (وما ينطق عن الهوى , إن هو الا وحي يوحى ) رسمٌ لمعالم المجتمع الفاضل الذي يحرص كل فرد فيه على حاجات أخيه ومشاعره وأحاسيسه وتأسيس لمجتمع متكافل متراحم. ففي هذا الحديث ربط جميل بين منزلة المحبة العظيمة التي يتمناها ويشتاق اليها كل مسلم رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وبين سلوكيات المسلم مع نفسه ومع مجتمعه ومع إخوانه في كل الأحوال وفي كل الظروف. فلكي تنال هذه المنزلة العالية وهي محبة الله عز وجل فاحرص على ان تكون مصدر نفع لكل الناس صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم وترك لك الخيار في اختيار أنفع ما تستطيعه حتى تقدمه للناس.
فهذا رجل ن الذين طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا يسأل النبى عن احب الناس الى الله عسى ان يكون منهم ويسأل عن احب الاعمال الى الله تعالى ليعملها فيجيبة النبى بهذا الحديث العظيم الجامع لانواع الخير وخصال البر وفى السؤال وجوابه دليل على محبة الله لاهل الخير كما قال تعالى " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين"
والنبى فى هذا الحديث يبن أن أحب الناس الى الله انفعهم للناس ومعنى ذلك أن الناس يتفاوتون فى محبة الله عز جل لهم وأن أحبهم اليه سبحانة وتعالى انفعهم للناس فكلما كثر نفع العبد لاخوانة من المسلمين كلما ازدادت محبة الله تعالى له وكلما نقصت منفعة العبد لاخوانه من المسلمين كلما نقصت محبة الله تعالى له. والنفع المذكور فى هذا الحديث ليس مقصورا على النفع المادى فحسب ولكنه يمتد ليشمل النفع بالعلم والرىء والنصيحه والمشوره والجاه والسلطان ونحو ذلك فكلما أستطعت أن تنفع به إخوانك المسلمين فنفعتهم به فأنت داخل ف الذين يحبهم الله.
ولما أخبر النبي السائل بمن يحبهم الله من عباده، فقال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس) أشار إلى منزلة عظيمة جدا، ودرجة عالية رفيعة، ذلك أن محبة الله للعبد شيء عظيم، فإن الله إذا أحب عبدا أحبه أهل السماء والأرض، وإن الله إذا أحب عبدا لا يعذبه، كما جاء في الحديث عن النبي : (إن الله تعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل فقال: يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) , وقال : ( والله لا يلقى الله حبيبه في النار). ولذلك لما قالت اليهود والنصارى نحن ابناء الله وأاحبائه أمر الله تبارك وتعالى النبى أن يقول لهم " قل فلم يعذبكم بذنوبكم" فلو كنتم أحبابه ما عذبكم لان الحبيب لا يعذب حبيبه, فقر عينا ايها المسلم يا من تجتهد فى نفع اخوانك من المسلمين فإنك اذا نفعت الناس أحبك الله وإذا أحبك الله أحبك أهل السماء ووضع لك القبول فى الارض وإذا أحبك الله لا يعذبك ابدا.
ثم جاء الحديث وأبرزلنا جانبا من جوانب النفع المعنوي النفسي وهو إدخال السرور الى قلب أخيك المسلم ثم ترك لك الخيار في إيجاد الطريقة المناسبة لإدخال السرور في قلبه, فقد تكون كلمة طيبة او ابتسامة او زيارة .... وأقلها كما قال أحد الصالحين : " حق أخيك المسلم ثلاث: إذا لم تنفعه فلا تضره ... وإذا لم تمدحه فلا تذمه .. وإذا لم تسره فلا تغمه "" إن الأعمال الصالحة التي تنفع الناس ترتقي إلى مستوى العبادات. فإذا أدخلت السرور على أخيك المؤمن فهذه واحدة من أرقى العبادات؛ قد تسره بكلمة أو بابتسامة أو بعطاء . أو بقرض أو حتى بتلبية دعوته لك. فأي وجه من أوجه إدخال السرور على المؤمن له عند الله شأن كبير. بل إن من موجبات المغفرة إدخال السرور على أخ مسلم كعيادته إذا مرض أو تلبية دعوته إلى طعام أو تهنئته في الفرح أو تعزيته في الحزن.
وعن ابن عباس أن النبي قال: "إن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم." وعن أنس قال: قال عليه الصلاة والسلام:"من لقي أخاه المسلم بما يحبُ ليَسُرَهُ بذلك سَرَهُ الله عز وجل يوم القيامة." وعن عمر : "أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن: كسَوتَ عورته أو أشبعتَ جوعته أو قضيتَ له حاجة ."
فالمؤمن إذا خدم الناس ومسح دموعهم وأزال عنهم كربهم وأعانهم وأمسك غضبه عن من هو أضعف منه وسترهم (ومن أسماء الله الحسنى "الستار") أصبح من أحب الناس إلى الله، لأن كل شيء يقوم به محفوظ عند الله: مواقفه وعطاءاته وابتساماته وحتى زياراته.
فكل هؤلاء الناس من حولنا هم خلق الله، فإذا خدمتهم تقربت إلى خالقهم بخدمتهم وجزاك الله عنهم في الدنيا قبل الآخرة.
فأن يحبك الله عز وجل، خالق الكون ومن إليه المصير ومن تؤول إليه إلى الأبد، فإن ذلك منتهى الآمال. قال الضحاك في قوله تعالى{ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } - في قصة يوسف عليه السلام -: "كان إحسانه إذا مرض رجل بالسجن قام عليه ، وإذا ضاق عليه المكان وسع له إذا احتاج جمع سأل له".
وقيل لابن المنكدر أي الأعمال أفضل؟ قال: "إدخال السرور على المؤمن". قيل أي الدنيا أحب إليك ؟ قال: "الإفضال على الإخوان". أي التفضل عليهم والقيام بخدمتهم.
وقال وهب بن منبه: "إن أحسن الناس عيشاً من حسن عيش الناس في عيشه وإن من ألذ اللذة الإفضال على الإخوان"
فوائد قضاء الحوائج:- يقول ابن عباس: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره فإنه يشكرك عليه من لم تصنعه إليه، أيضاً يقال: لا يزهدنك في المعروف من يسديه إليك، ولا ينبو ببصرك عنه، فإن حاجَتَك في شكره ووفائه لا منظره، وإن لم يكن أهله فكن أهله. قال عمرو بن العاص: "في كل شيء سَرَفٌ إلا في ابتناء المكارم أو اصطناع المعروف ، أو إظهار مروءة".
حفظ الله لعبده في الدنيا كما في الحديث القدسي" يابن آدم أنفق ينفق عليك " وقد قيل (صنائع المعروف تقي مصارع السوء) قال ابن عباس: "صاحب المعروف لا يقع فإن وقع وجد متكئاً".. وكان خالد القسري يقول على المنبر: "أيها الناس عليكم بالمعروف فإن فاعل المعروف لا يعدم جوازيه وما ضعف عن أدائه الناس قوي الله على جوازيه".

الثلاثاء، 23 فبراير 2010

علو الهمة

علو الهمة
أما بعد: الهمة في اللغة : ما هم به من الأمر ليفعل .
الهمة في الاصطلاح : الباعث على الفعل ، وعرف بعضهم علو الهمة بأنه : استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور . قال الشاعر مصوراً طموح المؤمن
إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
وعرف ابن القيم علو الهمة بقوله : "علو الهمة ألا تقف -أي النفس- دون الله وألا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم ، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات".
الهمة: هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول.. الهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةًً من القيود التي تكبل الأجساد..ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة :" ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوّاً، كالشعلة ِ من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعا "
وهمَّـــة المؤمـــن أبلغ من عملـــه: قال صلى الله عليه وسلم:" من همَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة " رواه البخاريوقال صلى الله عليه وسلم: " من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه " رواه مسلم وغيرهوقال صلى الله عليه وسلم فيمن تجهز للجهاد، ثم أدركه الموت: " قد أوقع الله أجره على قدر نيته " رواه الإمام أحمد وغيرهوقال صلى الله عليه وسلم : " ما من امرئٍ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم ، إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً عليه " رواه النسائي وأبو داودوقد يتفوق المؤمن بهمته العالية كما بيَّن ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله:" سبق درهم مائة ألف "، قالوا: يا رسول الله ، كيف يسبق درهم مائة ألف ؟! ، قال:" رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ، أخذ من عَرْضها مائة ألف "رواه أحمد وغيره
يا عالـــــي الهمَّــة.. بقَدْر ما تَتَعنَّى ، تنالُ ما تتمنَّى
إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته، لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات، و اللذات و الكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب. من أراد الجنة سلعةَ الله الغالية لم يلتفت إلى لوم لائم، ولا عذل عاذل، ومضى يكدح في السعي لها قال تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا )وقال صلى الله عليه وسلم: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة
قال أحد الصالحين: همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال, فإن من محاسن الأخلاق وطيب السجايا علو الهمة.
فكبير الهمة من يتحرى الفضائل، لا للذةٍ ولا لثروة ولا استعلاءً على البرية، بل يتحرى مصالح العباد، شاكرًا بذلك نعمة الله، وطالبًا به مرضاته، غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قلّ المساعد، وطرق العلياء قليلة الإيناس.
قال سفيان بن عيينة: "اسلكوا سبلَ الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهلها".
إن كبير الهمة لا يزال يحلق في سماء المعالي، ولا ينتهي تحليقة دون عليين، فهي غايته العظمى وهمه الأسمى، حيث لا نقص ولا كدر، ولا تعب ولا نصب، ولا هم ولا غم ولا حزن، وإنما هي نور يتلألأ، وريحانه تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجه حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبدي، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108].
وعالي الهمة يعرف قدر نفسه في غير كبر ولا غرور، قد صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تهان، ونزهها عن دنايا الأمور، وجنبها مواطن الذل، بأن يحملها ما لا تطيق أو يضعها فيما لا يليق بقدرها، فتبقى نفسه في حصن حصين وعز منيع، لا تعطى الدنية ولا ترضى بالنقص ولا تقنع بالدون.
وقد أثنى الله على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم خاتم الأنبياء والمرسلين محمد : فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:30]، وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل.
وقد أمر الله بالتنافس في الخيرات فقال عز وجل: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [الحديد:21]، وقال: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:61]، وقال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]. وقد كان رسول الله يتعوذ بالله من العجز والكسل، وعلمنا علو الهمة كما عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله :((فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة))، وكما عند مسلم من حديث ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سلني))، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أوَغير ذلك؟))، قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)). قال صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها ) وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( إن الله تعالى يحب معالي الأمور ، ويكره سفاسفها )وقد فقه سلفنا الصالح عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا ومصيرها، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين والِهِين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة تشهد بعلو همتهم، فعن وكيع قال: كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة. قال البخاري رحمه الله: "ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد". وروي عن الرازي أنه قال: "أول ما رحلت أقمت سبع سنين، ومشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا، ثم إلى الرملة، ثم إلى طرسوس، ولي عشرون سنة". وقال أبو زرعة: "كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث"، وقال: "حفظت مائتي ألف حديث، كما يحفظ الإنسان: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "إن لي نفسا تواقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلي الجنة".
وخامل الهمة كلما أراد أن يسمو إلى المعالي ختم الشيطان على قلبه: عليك ليل طويل فارقد، وكلما سعى في إقالة عثرته والارتقاء بهمته عالجته جيوش التسويف والبطالة، وإن نازعته نفسه إلى طلب المعالي والارتقاء بهمته، واقتحام الأهوال والتخلي عن البطالة والعجز والكسل، زجرها ونهاها.
وقد قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175، 176]، وقال في ذم المنافقين: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة:87]، وشنّع عز وجل على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر همهم، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38].
أما بعد: فإن من أسباب علو الهمة العلم والبصيرة، فالعلم يرفع صاحبه عن الدنايا، ويلزمه معالي الأمور، ويتقي فضول المباحات.
ومنها: إرادة الآخرة، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، وقال : ((من كانت همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة)).
ومنها كثرة ذكر الموت؛ لأنه يدفع إلى العمل للآخرة، والتجافي عن دار الغرور، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة. قال: كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء، فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون .
ومنها صحبة أولي الهمم العالية، ومطالعة أخبارهم. ومنها الاهتمام والعناية بتربية الابن على معالي الأمور ومحاسن الأخلاق منذ نعومة أظفاره، وعدم تجاهله واحتقاره، فهذا أسامة بن زيد يقود جيش المسلمين في حروب الردة وفيهم أبو بكر وعمر وعمره ثماني عشرة سنة، ويقول الشافعي رحمه الله: "كنت يتيمًا في حجر أمي فدفعتني إلى الكتاب"، وهذا سفيان الثوري تقول له أمه: "يابني، اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي"، والأوزاعي نشأ يتيمًا في حجر أمه، وتنقلت به من بلد إلى بلد، حتى استفتي وله ثلاث عشرة سنة.
التحول عن البيئة المثبطة.. إذا سقطت الجوهرة في مكان نجس فيحتاج ذلك إلى كثير من الماء حتى تُنَظَّف إذا صببناه عليها وهي في مكانها، ولكن إذا أخرجناها من مكانها سهل تنظيفها بالقليل من الماء .
فما بال بعض شبابنا اليوم، قد صرفوا عن المعالي، وغيبوا عن الفضائل، وأبعدوا عن كريم الشمائل، ورضوا بسبل الرذائل، إذا سألت أحدهم عن مناه، تنمى أن يكون مفحطًا موهوبًا أو راقصًا معروفًا أو سائحًا في ديار الكفر مفتونًا أو متسكعًا في الأسواق معاكسًا أو مغنيًا يطرب الجماهير أو لاعبًا يهز المدرجات، وإذا ارتفعت همته فإلى جمع الطوابع أو ألعاب الحاسب الآلي.
أين هم من قول سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله : فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غدًا، إنا لصُبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
هكذا ـ يا شباب الإسلام ـ فليترب أبناء الأمة، فلسنا اليوم في وقت اللعب، ولسنا في وقت اللهو والطرب، فالأمة تتلقى الطعنات تلو الفاجعات، الأعداء يتربصون بها، والمنافقون يكيدون بها، أما ترون غدرهم في فلسطين؟! أما تشاهدون مكرهم في الشيشان؟! أما تسمعون جرائمهم في كشمير؟!
إن أمتك المسلمة تترقب منك جذبة " عُمَرِيَّة " توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر منك صيحة " أيوبية " تغرس بذرة الأمل، في بيداء اليأس، وعلى قدر المئونة؛ تأتي من الله المعونة، فاستعن بالله ولا تعجز .فالعودة العودة ـ يا مسلمون ـ إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، تسعدوا بذلك وتسودوا.

أين الله فى قلوبنا

لو تأملنا في هذه الكلمات (أين الله في قلوبنا؟) ووقفنا معها وفكرنا فيها لقفزت إلى أذهاننا مجموعة كبيرة من التساؤلات: هل نحن نعظم الله حق التعظيم؟ وكيف عظمته في قلوبنا؟ لقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يصف الصالحين "عَظُمَ الخالقُ في قلوبهم، فصغُر ما دونه في أعينهم". فانظروا معي أيها الأحباب إلى هذا التعظيم الذي جعلهم ينشغلون بعظمته وحده عن عظمة من سواه كائنا من كان، فصاروا لا يخافون إلا منه، ولا يسكنون ولا يطمئنون ولا يلجئون إلا إليه، ولا يرون رقابة أحد سواه حتى تعلقت به قلوبهم، واستحوذ جلاله على نفوسهم، فصار هو سبحانه وتعالى حسبهم ووكيلهم، يوافيهم بالعطايا والهبات ويؤيدهم بالمعاني ويثبتهم بالكرامات وصاروا هم أهله وأحبابه وخاصته.فأين نحن من حب الله؟ وكيف علاقتنا بحبيبنا؟ وهل نحن حريصون على تصحيح مفاهيم حبنا له سبحانه؟ بمعنى هل نحب أن يكون الله كما نريد منه جل جلاله؟ أم نحب ونجتهد أن نكون نحن كما يريد الله منا؟ ثم نقف بعدها على عتبة العبودية؟!اسمعوا نداء ربكم لداود عليه السلام: "يا داود.. أنت تريد وأنا أريد، إن أطعتني فيما أريد أرحتك فيما تريد، وإن عصيتني فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد"، وفي الخبر الإلهي أيضا: "إذا أطاعني عبدي رضيت عنه، وإذا رضيت عنه باركته، وليس لبركتي نهاية، وإن عصاني عبدي غضبت عليه، وإن غضبت عليه لعنته...".ايها الاحباب إن الله لا يحب أن تزاحمه أعراض الدنيا في قلب عبده وحبيبه، فحين يزاحم حب الولد محبة الله في قلب الخليل يأمره الله بذبح ابنه، وعندما تصدق المحبة يخلص قلب الخليل لربه العظيم.وحينما يكون لتعظيم البيت الحرام مكان في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وقلوب الصحابة يأخذ الله عز وجل منهم القبلة التي استأثرت بقلوبهم، ويأمرهم بالصلاة جهة بيت المقدس حتى يرى هل حبه أعظم وأقوى وأكبر من حبهم وتعظيمهم للبيت الحرام؟ وحين تكون الإجابة نعم يرد إليهم البيت بأمره كما أخذه منهم بأمره. وفي الخبر الإلهي "من آثرني على من سواي آثرته على من سواه".
هل نفرح بالقرب منه؟ هل نحرص على أن يكون معنا دائما؟ إذن فما مدى فرحنا بالصلاة التي نقابله فيها ونناجيه؟ وما مدى حبنا للسجود الذي نكون فيه أقرب إلى الله؟ وما مدى دوامنا على الذكر الذي يوجب معيته لنا؟ "وأنا مع عبدي متى ذكرني وتحركت بي شفتاه"، وهل لنا نصيب من وقت القرب الإلهي في ثلث الليل الأخير، وربنا ينادي علينا "هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه...".
ايها الاحباب أليس المحب يتمنى الخلوة مع حبيبه فأين قلوبنا من الخلوة بالله؟! أوليس المحب يضحي من أجل حبيبه؟! فأين تضحيتنا من أجل الله ومن أجل إعلاء كلمته ودينه؟! ثم أليس المحب يسعى في رضا حبيبه ويتحمل من أجل رضاه ما قد يشق على نفسه؟ فهل نحن نراقب مواضع رضا مولانا وحبيبنا لنسرع إليها؟ وهل نراقب مواضع سخطه لنفر إليه منها؟ ونرتمي في ساحات رحمته وننزل به حاجاتنا ونشكو إليه بثنا وأحزاننا وضعفنا، ونطرق على بابه لعله يتكرم ويفتح لنا نحن المذنبين المقصرين المشفقين المساكين؟!!
وتأملوا معي أيها الاحباب هذا الموقف من شاب أراد أن يتلمس موضعا من مواضع رضا ربه وحبيبه في غزوة بدر،يسأل عوف بن الحارث الرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟! "غمسه يده في العدو حاسرا" (يعني دخول القتال بدون درع) فنزع عوف درعا كانت عليه فألقاها ثم أخذ سيفه فقام فقاتل القوم حتى قُتل! فمن منا يسأل نفسه عما يضحك الرب؟ أو عما يفرح الرب فيسارع إليه؟!! ومن منا يتساءل عما يغضب الرب فيفر منه ويبتعد عنه حتى لا يغضب حبيبه؟ كم مرة شاهدنا الله في نعمة أنعمها علينا فشكرناها وأدينا الذي علينا فيها؟ هل شكرنا الله على نعمة الهداية والإسلام؟ هل شكرنا الله على نعمة الصحة؟ هل شكرنا الله على نعمة المال، على نعمة الولد، على نعمة الأبوين، على نعمة الزوجة الصالحة على نعمة التوفيق... إلخ؟ أم تأتي النعمة فننسى المنعم وننسب النعمة إلى غيره، ونصرف كثيرا من نعمه فيما يغضبه وليس فيما يرضيه عنا؟ وتأملوا معي هذا العتاب الإلهي "إني والأنس والجن لفي نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد، أتودد إليهم بالنعم وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أحوج شيء إلي...". وما أجمل كلام ابن القيم حين قال "ليس العجب من عبد يتملق سيده ولكن العجب كل العجب من سيد يتودد إلى عبيده وهم يفرون عنه"
أيها الاحباب كثيرا ما تأتي الأقدار بما لا يوافق أهواءنا، وتكون الابتلاءات التي تستلزم منا الصبر الجميل، فهل نتساءل عند البلاء والمحنة ونزول الضر أين الله في قلوبنا؟ وهل نشاهد رحمة الله بنا في البلاء؟ وهل نستشعر حب الله لنا عند الابتلاء؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبدا ابتلاه...". وهل نعيش معاني الصبر الجميل الذي ليس فيه شكوى؟! حقا ما أعجب كلام ابن القيم وهو يصف ناسا نظروا إلى المصائب نظرة أخرى فاستقبلوا مصائبهم كما يستقبلون النعم لأن مصدرهما واحد وهو الله.ولنتوقف مع كلامه حين يقول: وكل ما يصدر عن الله جميل وإذا كنا لا نرى الجمال في المصيبة فلا بد أن نتأمل قصص موسى عليه السلام مع الخضر في سورة الكهف، ونتأمل كيف كان خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار في قرية السوء شرا محضا من وجهة نظر سيدنا موسى وكيف ظهرت له مواطن الجمال في أفعال الله بعد معرفة الحقائق والحكم التي وراء الابتلاء. وهناك من الناس من يعترض على قدر الله وقضائه، وقد تبدو منهم علامات السخط على القدر أو عدم الرضا بالقضاء، فهل سألوا أنفسهم أين الله في قلوبنا؟ وإن هناك من يترك أحكام القرآن والسنة ويحكمون أهواء أو أشخاصا أو قوانين غير قوانين الله! وهناك من يعرضون أنفسهم لغضب الله بالمعاصي فيحجبهم الله عن كل خير! وكل هذا لأنهم لم يقفوا يوما ليسألوا أنفسهم أين الله في قلوبنا؟!
لحظة من فضلك قد تأخذنا الحياة وقد تلهينا الدنيا وقد تشغلنا الأنفس والأموال والأولاد ولكن لا بد أن نتوقف كل حين لنسأل أنفسنا:0أين الله في قلوبنا؟! إذا هممت أن تقع في المعصية فقل لنفسك: أين الله في قلبي؟ الله أحب إلي أم المعصية؟ هل استهنت إلى هذا الحد بنظر الله إليك؟! كيف سأقابل الله لو مت وأنا على هذه المعصية؟ {قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} هكذا يظهر عند الشدة أنك لا تثق في أحد إلا الله، فأين الله في قلبك عند الرخاء؟وإذا تكاسلت عن طاعة فقل: أين الله في قلبي؟ وهل حبي للراحة والكسل أكثر من حبي لله؟ وتذكر قول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن: "فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب"، فبعد الفراغ من متاعب السعي على الحياة لا يرتاح، بل يتعب ويتقرب إلى ربه ويرغب؛ لأن راحة المؤمن في رضا اللهوهكذا أيها الأحباب تعالوا ندرب أنفسنا على أن يكون الله ملء قلوبنا ولا شيء معه، ويكون لنا في كل صغيرة وكبيرة وقفة لنتساءل: أين الله في قلوبنا؟ واخيرا وليس باخير اخواني الاحباب فهذه وصيتي بعد قراءه هذا الموضوع انتبهوا من نومكم فكل منكم يسأل نفسه الان ( فعلا اين الله في قلوبنا ؟) وليفكر كثيرا في الطريق الذي يسير فيه هل هو صح ام خطا ويعد علي نفسه خطواته ويزن اعماله قبل ان توزن عليه ويحاسب نفسه قبل ان يحاسب وننظر من نصاحب ونخالل فالمرء علي دين خليله فلينظر كل منكم من يخالل اي يصاحب

الثبات على الحق

إن أهل الحق في كل زمان ومكان هم أعظم الناس صبراًَ على أقوالهم ومعتقداتهم،وإن أصابهم في سبيل ذلك ما أصابهم، وهذا هو الثبات على الحق، ولقد كان الثبات على الحق سيما أهل الحق منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية المباركة حين جهر النبي بدعوته فاستجاب له نفر قليل، فابتلوا وعذبوا وساومهم الأعداء ليرتدوا عن دينهم فما زادهم ذلك إلا ثباتاً واستمساكاً بالحق الذي هداهم الله إليه.
وهذا الذي ذكرنا من ثباتهم على الحق وشدة تمسكهم به شهد به الأعداء قبل الأصدقاء،ألم تر إلى أبي سفيان رضي الله عنه حين سأله هرقل ـ ملك الروم ـ عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟! فقال ـ وكان وقتها مشركاً ـ : لا، قال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: أما أهل السنة والحديث فما يعلم أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن.
وهذا حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء. يقول: وإن الله لا بد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته كما قال تعالى:( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت [1-3].
وقال تعالى:( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة [24].
وقال تعالى:( والعصر*إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) (سورة العصر).
ولا شك أن الفتن التي يتعرض لها المؤمنون في هذه الأزمنة المتأخرة كثيرة متنوعة، فهناك فتن الشبهات والشهوات، وفتنة المال والجاه، وفتنة الشهرة، وهناك فتنة غلبة الظلمة والطواغيت وما يمارسونه مع المؤمنين من سجن واعتقال وتعذيب وتكذيب وغير ذلك من الفتن الكثيرة، نسأل الله العافية.
ولأن القلوب تتقلب، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الثبات على الحق:
"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"
وقد ذكر العلماء عوامل وأسباباً للثبات على الحق، نذكر منها على سبيل الإشارة ما يلي:
ـ اللجوء إلى الله وإعلان الافتقار إليه ودعاؤه:
فليس بالعبد غناء عن ربه طرفة عين، فإن لم يثبته ربه ضل وهلك وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً)
ولأجل هذا كان رسول الله صلى الله وسلم يدعو ربه أن يثبت قلبه على دينه، وكثيراً ما كان يقسم فيقول: "لا ومقلوب القلوب"
إن استشعار العبد فقره وحاجته إلى ربه ومولاه يجعله دائم الارتباط به، دائم الإقبال عليه، فيتولاه ربه ويصرف عنه السوء والفحشاء والفتن.
ومن أسباب الثبات:
ـ تدبر القرآن ومدارسته والعمل به:
قال الله تعالى:(وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً)، وقال: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) النحل.
وإن القرآن يشتمل على الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد كما قال تعالى:(نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم) وغيرها من الآيات،
كما أن مدارسته وسماعه تزيد الإيمان، كما قال تعالى: ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (التوبة:124)
وقال تعالى عن المؤمنين: (وإذا تليت عليهم آيته زادتهم إيماناً) والقرآن شفاء لأمراض الشبهات والشهوات كما قال تعالى:(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) وقال:(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) فإذا سلم القلب من أمراض الشبهات والشهوات كان أقوى على مواجهة الفتن، وأكثر ثباتاً على الحق.
كما أنه يشتمل على قصص السابقين التي تبشر المؤمنين بالنصر والتمكين وتبين عاقبة الظالمين والمجرمين: (وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) فلهذه الأسباب وغيرها كانت مدارسة القرآن من أعظم أسباب الثبات.
ومن أسباب الثبات على الدين:
ـ العمل بطاعة الله والكف عن معاصيه:
فالطاعات أغذية للقلوب، كما أن المعاصي سموم تصيب القلب في مقتل، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون). وقال تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً) فمهما أطاع العبد ربه والتزم أوامره، وانتهى عما نهى عنه كان قويا في مواجهة الفتن، ومهما كان مفرطاً في اتباع الشرع، مقبلاً على المعاصي كان ضعيفاً أمام الفتن، قال بعضهم:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
4ـ كثرة ذكر الله عز وجل:
فالله جل وعلا يقول:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب: 41ـ 43)
وقال الله عز وجل: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
ألم تر أيها الحبيب أن الله عز وجل لما أرسل موسى وهارون إلى فرعون أوصاهما بالإكثار من ذكره سبحانه، فقال: (ولا تنيا في ذكري)
وأمر الله المؤمنين عند ملاقاة الكفار بأن يكثروا من ذكره فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)
فكثرة الذكر تقوي القلب والبدن، فيستعان بالذكر في مواجهة الفتن والابتلاءات وعند ملاقاة الأعداء.
5ـ القرب من العلماء العاملين
فإن العلماء هم ورثة الأنبياء الذين يأخذون بأيدي أتباعهم إلى الله، قال أنس رضي الله عنه: وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا.
كيف لا وقد قال الله عز وجل في حق رسوله مع أمته: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)
قال الشيخ سعيد حوى رحمه الله معلقا على مقولة أنس رضي الله عنه:
في الحديث ما يدل على أن الرقي القلبي منوط بالاجتماع مع أهل الحق، والارتباط الروحي بهم، ومن هنا نؤكد على الانتساب للعلماء العاملين، والربانيين المخلصين.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله واصفاً شيخه ابن تيمية رحمه الله: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقينا وطمأنينة.
وهناك أسباب أخرى للثبات على الحق نعرض لها في مقال قادم بإذن الله، نسأل الله الكريم أن يثبت قلوبنا على دينه.وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين.
الثبات.. حياة المنتصرين
يقلبون الحقائق والحق واحد
كثيرٌ من الناس يحسب أن الانتصار في الحياة يتوقف على مَن يملك القوة والمال، أو السيطرة والهيمنة، وفق ما يراه اليوم من بلطجةٍ عالميةٍ يمارسها المشروع الأمريكي الصهيوني، حتى انقلب ذلك منهجًا للدول والحكومات والمجتمعات والأفراد؛ مما يُنذر بكارثة كونية.
ومما زاد الأمر غموضًا على الكثيرين أنهم يرون في واقع أوطانهم كيف انقلبت الحقائق؛ فالأنظمة تتترَّس بالأمن لبقائها ضد شعوبها، لصالح أفراد باعوا كل ذرةٍ في البلاد، والأمن يتترَّس بأذرع عسكرية مدفوعة الأجر من ميليشيات يقوم بتسليحها بالسيوف والخناجر من الناس لإرهاب الناس، ويستخدمهم لإسكات صوت الأحرار.
والممتلئون بالمال والمنصب والوجاهة من الناس يتترَّسون بالتملُّق والنفاق، لضمان مصالحهم ومنافعهم الشخصية، فليعيشوا وتموت الشعوب من الجوع، وليتنعَّموا ويذهب الأحرار إلى الجحيم، وليلهوا ويقبع الأشراف في غياهب السجون، يستوي في ذلك محاكمتهم مدنيًّا أو عسكريًّا أو قضائيًّا أو إعلاميًّا أو أمنيًّا، فقد اختلفت المحاكمات والسجن واحد.
ومع انقلاب هذه الحقائق تبقى الحقيقة التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل ولا تتحوَّل، هذه الحقيقة التي باتت اليوم تهددهم جميعًا: الرؤساء والأذناب، وآياتها تتجلى في كل لحظة، وهم يرونها أكثر مما يراها الناس، ألا وهي الحق المنتصر، وأهله المنتصرون: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ (طه: من الآية 114)، فهل يهربون من هذه الحقيقة التي يقول عنها رب العزة: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ النحل: من الآية 102)؟!
فوعده حق، والنبيون حق، والدعوة إلى الله حق، والساعة حق، والجنة حق، ونصر الله حق، وانتصار المؤمنين حق، والفئة الثابتة على الحق موجودة حتى يأتي الله بأمره، لقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"، (وهم كذلك): وهم ظاهرون على الحق، فهم المنصورون، فعلام يتأثرون بالباطل وإن انتفش، أو يستجيبون لغباره وهو منهار من أساسه.. ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدفعه فإذا هو زاهق﴾؟ (الأنبياء: من الآية 18
وعلام يدهشون من أفعال المهزومين وإن تربعوا على منصة القضاء؟ فالنبي قد أبلغنا الحق بقوله: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهلٍ فهو في النار" (رواه أبو داوود
ما السر في انتصار أصحاب الحق وانهزام أصحاب المصالح؟!
إنه الثبات؛ فالمنتصر في الحياة هو الثابت على الإيمان، والمنتصر في دعوته هو الثابت على فكرته، والمنتصر في تحمُّل التضحيات هو الثابت على منهجه، والمنتصر في مواجهة التحديات والمؤامرات هو الثابت على الفهم، فالمنتصر الحقيقي هو الثابت على الإسلام؛ إيمانًا ودعوةً ومنهجًا وفكرةً وفهمًا؛ ولذلك فالثبات هو حياة المنتصرين، والمنتصرون هم الثابتون، وهذا هو سر انتصار أصحاب الحق!.
وعلى العكس فإنَّ المنهزمين تخلَّوا عن كل شيء في سبيل أنفسهم، تعلن عنهم أقوالهم في الإعلام دون أن يدروا، وتفصح عنهم أفعالهم وما يشعرون، حتى ولو وقفوا مرةً منحازين للحق فالحق يفضحهم ويكشف زيفهم، في أنهم يكيلون بمكيالين؛ لأن الحق عندهم قنطرة لمصالحهم فقط، يتمسَّكون به، ليس لأنه الحق فهم لا يعرفونه، أما إذا كان الحق للمؤمنين فلا يعترفون به، فهم ثابتون على مصالحهم وهذا هو السر؛ ولذلك يظلمون ويستبدون ويحيفون ويحيدون ويدلِّسون ويزيِّفون ويخافون، ويخشون المؤمنين، يقول تعالى ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50 (النور
ومن رحمة الله في دعوته أن فتح للجميع أبواب الالتفاف حول الحق، فهو ليس محظورًا على أحد، وليس محصورًا على أناسٍ معينين؛ فالغلبة للحق وليست لأشخاص ولو حملوا الحق، وتأمَّلوا هذا المشهد للمصريِّين حينما آمنوا بالله وليس لموسى، وسجدوا للحق وإن تعارض مع مصالحهم التي جاءوا يطلبونها من الحاكم، في قوله تعالى: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121 (الأعراف
هم ثابتون.. فلماذا لا نثبت؟
هم ثابتون في تحالفهم مع الشيطان، والله يحذرنا: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ فاطر: من الآية 6)، فهل اتخذناه عدوًّا؟!
هم ثابتون على نفاقهم وتملُّقهم، والله ينبِّهنا: ﴿هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ المنافقون: من الآية 4)، فهل أخذنا حذرنا من دسائسهم؟!
هم ثابتون على الغزو والاحتلال وإثارة الشبهات ونشر الإساءات، فهل نواجههم بالذوبان والذلة والهوان، والله يطالبنا بالعزة: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المنافقون: من الآية 8)!
هم ثابتون فلماذا لا نثبت؟ والله يطلعنا على حقيقتهم: ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا﴾ البقرة: من الآية 217)، بل يدفعون كل غالٍ ورخيص؛ ثمنًا لهذا الثبات وتضحيةً لهذه الغاية، فهل يجدي أن نواجههم بدون أن ندفع الثمن والله يقول لأبناء دعوته: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214 (البقرة)
فهذا هو قانون المنتصرين وحياة الثابتين وطريق الدعاة: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146 (آل عمران:
ورضي الله عن خبيب سيد المنتصرين، يوم ساوموه للرجوع عن دينه، فقال: "لا، والله ما أحبُّ أنني رجعتُ عن الإسلام، وأنَّ لي ما في الأرض جميعًا"، قالوا: لئن لم تفعل لنقتلنَّك، قال: "إن قتلي في الله لقليل".
كيف نحيا بالثبات؟!
الثبات هدية الله لأهل دعوته، وهبة المولى للمؤمنين الربانيِّين.. ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (إبراهيم: من الآية 27
ولا ركونَ لظالم، أو انهزام أمام رخيص مادي، إلا إذا تخلينا عن الله، فتُرفع عنَّا هذه المنَّة الربانية.. ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74 (الإسراء
ولا تأييد من الله ولا نصرة في الحياة إلا بهذه العطية الإلهية.. ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (هود: من الآية 120
فما أحوج الدعوة الربانية إلى القيادة القدوة!! فهذا رسولنا الأسوة، يدعو إلى الثبات.. "إليَّ عباد الله، إليَّ أنا رسول الله، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" فالتف حوله الثابتون المائة في يوم حنين.
وما أحوج الدعوة الربانية إلى الجنود الثابتين!! فالنصر ليس بالكثرة، وإنما بالثبات.. ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23 (الأحزاب.

وما أحوج الدعوة الربانية إلى الثقة والأمل في نصر الله؛ لأنها منتصرة بالثبات، فلا يهمّها موت، بل هي التي تصنع موتتها، فتحيا الأمة كلها بها، ورضي الله عن الإمام البنا، وهو يقول: "إن الأمةَ التي تُحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة والنعيم الخالد".

الحياء

لقد دعا الإسلام إلى أخلاق فاضلة ، وآداب سامية ، تسمو بالإنسان وتُزكِّي روحه .. ومن جملة هذه الأخلاق : خلق الحياء. والحياء : خلق حميد يبعث على ترك القبيح ، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق . وللحياء فضائل عديدة ، دلت سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عليها، فمن ذلك: أنه خيرٌ كلُّه ، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الحياء لا يأتي إلا بخير ) (أخرجاه في الصحيحين), وقال : (الحياء كله خير ) (صحيح مسلم). وهو من الأخلاق التي يحبها الله ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( إنَّ الله حيي سِتِّير يحب الستر والحياء ) (سنن أبي داود والنسائي), والحياء من الإيمان، وكلما ازداد منه صاحبه ازداد إيمانه ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) (أخرجاه في الصحيحين). وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(دعه فإن الحياء من الإيمان) (أخرجاه في الصحيحين), وهو خلق الإسلام ؛ لقول سيِّد الأنام عليه الصلاة والسلام : ( إنَّ لكل دين خلقاً ، وخلق الإسلام الحياء ) (موطأ مالك ، وسنن ابن ماجه), والحياء يحمل على الاستقامة وعلى الطاعة ، وعلى ترك المعصية ونبذ طريقها ، وهل أدل على ذلك من قول نبينا صلى الله عليه وسلم : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فافعل ما شئت)(صحيح البخاري)وإنَّ من أعظم فضائله أنه يفضي بأصحابه إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار) (الترمذي) , والبذاء ضد الحياء، فهو جرأة في فُحشٍ، والجفاء ضد البر .أيها المؤمنون : إن أحق من يُستحى منه الله تعالى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (فالله أحق أن يُستحيا منه ) (الترمذي) . وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الحياء من الله ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(استحيوا من الله حق الحياء). قلنا : يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله . قال :(ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) (الترمذي) وهذا الحديث دليل على ما سبق ذكره ؛ من أن الحياء يصد عن قبيح الفعال وذميم الصفات.أيها الموحدون: ليس من الحياء أن يسكت الإنسان على الباطل ، ليس منه أن تُعَطل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهذا جبن وخور وضعف ، وليس من الحياء في شيء ، قال النووي رحمه الله :" وأما كون الحياء خيراً كله ولا يأتي إلا بخير فقد يُشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يجلُّه ، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك مما هو معروف في العادة. ولذا مما تنزه الله عنه الاستحياء من الحق مع أنه موصوف بالحياء كما سيأتي ، قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَ } (سورة البقرة ، الآية :26) ، وسببها أن المنافقين لما ضرب الله مثلهم {كمثل الذي استوقد نار }، وقوله :{أو كصيب من السماء } قالوا : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ! فأنزل الله الآية. ومما جاء في الصحيحين، عن أنس رضي الله عنه، في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها، فبعد أن تناول الصحابة رضي الله عنهم طعامهم تفرق أكثرهم، وبقي ثلاثة منهم في البيت يتحدثون، والنبي صلى الله عليه وسلم يرغب في خروجهم، ولكن، ولشدة حيائه صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم شيئًا، وتركهم وشأنهم، حتى تولى الله سبحانه بيان ذلك، فأنزل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ (الأحزاب:53. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الله لا يستحيي من الحق) (سنن الترمذي), وليس من الحياء أن يمتنع الإنسان من السؤال عن أمور دينه ، فالحياء يبعث على الخير ولا يصد عنه. ولذا مدحت عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار بقولها :" رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين "(صحيح مسلم) وجاء إليها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال : يَا أُمَّاهْ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ؟ فَقَالَتْ : لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ. قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:( إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ) (صحيح مسلم). وجاءت أم سُليم رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلةً: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :(إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ) (أخرجه الشيخان) . فإذا لم يقدر الإنسان على السؤال لعذر يقتضي الحياء فعليه أن يُرسل من يسأل له، فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ:(يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ) (أخرجه الشيخان). فاحذر من أن يصدك الشيطان عن سبيل العلم وسؤال أهله بإيهامك أن هذا من الحياء، واجعل قول إمامنا مجاهد رحمه الله منك على بال " اثنان لا يتعلمان : حيي ومستكبر ". إنَّ الحياء صفة من صفات الله رب العالمين، والملائكة والمرسلين، وصالح المؤمنين، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه بذلك فقال: (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم ، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين ) (سنن أبي داود ، والترمذي ، وابن ماجه)، وهو خلق الأنبياء ، فقد جاء عن خاتمهم صلى الله عليه وسلم:( أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح ) (سنن الترمذي) وقال أبو سعيد رضي الله عنه ينعت نبينا صلى الله عليه وسلم: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها".( أخرجه الشيخان) . والحياء من الأخلاق التي كانت تُعرف في الجاهلية: فإن أبا سفيان لما كان على الإشراك سأله هرقل أسئلة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى الكلام بينهما قال أبو سفيان: "والله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت " (أخرجه الشيخان) وأولى الناس بخلق الحياء النساء ، وقد خلَّد القرآن الكريم ذكر امرأة من أهل هذا الخلق ، قال الله عنها :{ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (سورة القصص ، الآية : 25). فهذه الآية تدل على حياء تلك المرأة من وجهين :الأول : جاءت إليه تمشي على استحياء بلا تبذل، ولا تبجح ، ولا إغواء. الثاني : كلماتها التي خاطبت بها موسى عليه السلام ، إذ أبانت مرادها بعبارة قصيرة واضحة في مدلولها ، من غير أن تسترسل في الحديث والحوار معه وهذا من إيحاء الفطر النظيفة السليمة والنفوس المستقيمة. ولا يدري من وقف على أحداث هذه القصة التي جرت لنبي الله وكليمه موسى عليه السلام أيعجب من حياء المرأة أم من حيائه عليه السلام ؛ فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" جاءتْ واضعةً يدَها على وجهها ، فقام معها موسى وقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق وأنا أمشي أمامك فإنا لا ننظر في أدبار النساء "إن لغياب الحياء عن ساحاتنا لمظاهرَ وخيمةً، وإن من أقبحها سيادة الفحش والعري وقد علمت أثر الحياء في التستر والاحتشام ، قال الله تعالى في ذكر قصة آدم عليه السلام :{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (الأعراف: 22) , إن الحياء خلق رفيع لا يكون إلا عند من عَزَّ عنصره ، ونَبُل خلقه ، وكَرُم أصله. إذا قلَّ ماءُ الوجْهِ قلَّ حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قلَّ ماؤه حياءَك فاحفظه عليـك فإنما *** يدل على وجه الكريم حياؤه

الصدق

ويشمل الصدق كل أنواعه: مع النفس، ومع الناس، ومع الله تعالى؛ فالصادق لا يكذب على نفسه، فيقول ما لا يفعل، فيصدق عليه قول الله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44 البقرة)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ 3)(الصف(

وهو صادق مع الناس؛ فلا يكون منافقًا مخادعًا، فيصدق عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10 البقرة)، وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206البقرة(

ولا يكذب على الله تعالى؛ حتى لا يصدق عليه قول الله عز وجل: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ 32) (الزمر(

فالعابد لا يخادع نفسه ولا يخادع الناس ولا يخادع الله تعالى، ومن هنا كان الصدق طريقًا له إلى الجنة؛ وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتَب عند الله صِدِّيقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتَب عند الله كَذَّابًا" (متفق عليه)، وفي رواية مسلم قال: "إن الصدق بِرٌّ، وإن البِرَّ يهدي إلى الجنة، وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار".

فالصدق يُكسِب صاحبه العزة؛ حيث إن الصادق لا يخشى أحدًا من الخلق، ولا يعمل عملاً من أجل الخلق، ولا ينتظر ثناءً أو مدحًا من الخلق، وتلك منازل لا يرقى إليها إلا العابدون؛ وذلك كما قال بعض العارفين: لا يشم رائحة الصدق عبدٌ داهن نفسَه أو غيره، وقال إبراهيم الخوَّاص: الصادق لا تراه إلا في فرضٍ يؤديه، أو فضلٍ يعمل فيه، وقال الجنيد: حقيقة الصدق: أن تصدق في موطنٍ لا ينجيك منه إلا الكذب، وقيل: ثلاث لا تخطئ الصادق: الحلاوة، والملاحة، والهيبة.

والصدق كما يصفه ابن القيم: "هو منزل القوم الأعظم، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يَسِرْ عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم تُردَّ صولته، ومن نطق به علت الخصومَ كلمتُه؛ فهو روح الأعمال، ومحكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنات تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين".

فالصادق إذن لا يتمنَّى الحياة إلا للحق، ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان؛ فهو لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضا محبوبه ويقوم بعبوديته، ويستكثر من الأسباب التي تقرِّبه إليه وتدنيه منه؛ لا لعلةٍ من علل الدنيا، ولا لشهوةٍ من شهواتها، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لولا ثلاث ما أحببت البقاء: لولا أن أُحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب التمر"، يريد رضي الله عنه: الجهاد، والصلاة، والعلم النافع، وهذه درجات الفضائل، وأهلها هم أهل الزلفى والدرجات العلى.

وقال معاذ رضي الله عنه عند موته: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولا لنكح الأزواج، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر".

والصادق في ذلك لا يرى نفسه إلا مقصِّرًا، والذي يجعله يرى ذلك هو استعظام مطلوبه، واستصغار نفسه، ومعرفته بعيوبها، وقلة زاده في عينه؛ فمن عرف الله وعرف نفسه لم يرَ نفسه إلا بعين النقصان.

والصادق مضطرٌّ أشدَّ ضرورة إلى متابعة الأمر والتسليم للرسول صلى الله عليه وسلم في ظاهره وباطنه، والاقتداء به والتعبُّد بطاعته في كل حركة وسكون، مع إخلاص القصد لله تعالى؛ فإن الله عز وجل لا يرضيه من عبده إلا ذلك، وما عدا هذا ففوت النفس ومجرد حظها واتباع أهوائها، وإن كان فيه من المجاهدات والرياضات والخلوات ما كان؛ فإن الله سبحانه وتعالى أبى أن يقبل من عبده عملاً أو يرضى به حتى يكون على متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم خالصًا لوجهه سبحانه وتعالى.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وكونوا مع الصادقين. اصدقوا مع الله واصدقوا مع عباد الله، ((فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)).
أيها المسلمون: إن الصدق بجميع أنواعه محمود. إن الصادق محبوب إلى الله وإلى الخلق. إن الله يرفع ذكره، ويزيد أجره.
وإن أبين دليل على ذلك ما يحصل من ثناء الناس على الصادقين في حياتهم وبعد مماتهم، أخبارهم مقبولة وأمانتهم موثوقة، قد أفلح الصادقون وخاب الكاذبون.
هذا كعب بن مالك صدق الله ورسوله فرفع الله ذكره، وأنزل في شأنه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، تخلف عن غزوة تبوك فلم يخرج مع النبي بلا عذر فلما رجع النبي جاء المتخلفون من أهل النفاق يعتذرون كذباً فيعذرهم ويكل سرائرهم إلى الله، ثم جاء كعب فتبسم النبي في وجهه تبسم المغضب وقال له: ((ما خلّفك؟)) فقال: والله لقد علمت لو حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل، والله ما كان لي من عذر قال النبي : ((أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك))، وكان معه رجلان من المؤمنين تخلفا بدون عذر فنهى النبي الناس عن كلامهم قال كعب فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، ولقد كنت أطوف في الأسواق فما يكلمني أحد وآتي رسول الله وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه أقول في نفسي: أَحرّك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ حتى إذا طال ذلك علي من هجر المسلمين تسلقت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فوالله ما رد علي السلام فقلت: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت فأعدت عليه فسكت ثم أعدت فسكت فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت.
فبينما أنا أمشي في أسواق المدينة إذا بنبطي معه كتاب من ملك غسان فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك فالحق بنا نواسك، أي نجعلك مثلنا، فقلت: وهذا من البلاء، فقصدت به التنور فسجرته به.
وصدق كعب إن هذا من البلاء والامتحان، ولكن الإيمان الراسخ في قلب كعب والصدق الثابت في عقيدته منعاه أن يستجيب لهذه الدعوة المغرية التي جاءت في وقت مناسب لولا تثبيت الله لكعب بن مالك على أنه كان في ذلك الوقت في أعز شبابه ابن ثلاث وثلاثين سنة قال كعب: فلما مضت أربعون ليلة إذا برسول رسول الله يأتيني يقول إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: اعتزلها ولا تقربها، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمرما يشاء، فلبثنا عشر ليال حتى كمل لنا خمسون ليلة.
فبينما أنا جالس على ظهر بيت من بيوتنا على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخاً على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك. فخررت ساجداً لله وعرفت أن الله قد جاء بالفرج بالتوبة علينا. وانطلقت أقصد رسول الله وتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بتوبة الله حتى دخلت المسجد فسلمت على النبي والناس حوله فقال وهو يبرق وجهه من السرور: ((أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك)) قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: ((من عند الله)) قلت: يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، فوالله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي.
أيها المسلمون: هذه والله هي الغبطة والنعمة والفائدة الكبيرة انظروا إلى هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا فأدبهم الله بهذا الهجر من رسوله وأصحابه، وانظروا إلى هذا الإيمان التام من الصحابة، هجروا أقاربهم وبني عمهم امتثالاً لأمر رسول الله حتى إذا ضاقت الحال وتراكمت الكربات جاء الفرج من الله فتاب عليهم وأعلنت توبتهم في كتاب الله تتلوها الأمة إلى يوم القيامة أما الذين نافقوا وكذبوا فأنزل الله فيهم: سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين [التوبة:95-96].
أيها المسلمون: اعتبروا بهذه الآيات وانظروا ما تختارون لأنفسكم فلن يرضى المؤمن إلا أن يكون من الصادقين المتقين
لقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( الصدق منجاة(
أتى شابّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان في المجلس وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفوه أمامه ‏قال عمر : ما هذا ‏قالوا : يا أمير المؤمنين .. هذا قتل أبانا ‏قال : أقتلت أباهم ؟ ‏قال : نعم قتلته ‏قال : كيف قتلتَه ؟ ‏قال : دخل بجمله في أرضي فزجرته فلم ينزجر .. فأرسلت عليه ‏حجراً وقع على رأسه فمات قال عمر : القصاص الإعدام .. قرار لم يكتب وحكم سديد لا يحتاج مناقشة لم يسأل عمر عن أسرة هذا الرجل .. هل هو من قبيلة شريفة ؟ .. هل هو من أسرة قوية ؟ .. ما مركزه في المجتمع ؟ كل هذا لا يهم عمر رضي الله عنه لأنه لا ‏يحابي ‏أحداً في دين الله .. ولا يجامل أحدا ًعلى حساب شرع الله ولو كان ‏ابنه القاتل لاقتص منه ‏قال الرجل : يا أمير المؤمنين : أسألك بالذي قامت به السماوات والأرض ‏أن تتركني ليلة لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ثم أعود إليك .والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا قال عمر : من يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ ؟ ‏فسكت الناس جميعاً .. إنهم لا يعرفون اسمه ولا خيمته ولا داره ‏ولا قبيلته ولا منزله فكيف يكفلونه وهي كفالة ليست على عشرة دنانير ولا على ‏أرض ولا على ناقة .إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف ومن يعترض على عمر في تطبيق شرع الله ؟ .. ومن يشفع عنده ؟ ومن ‏يمكن أن يُفكر في وساطة لديه ؟ فسكت الصحابة وعمر مُتأثر لأنه ‏وقع في حيرة هل يُقدم فيقتل هذا الرجل وأطفاله يموتون جوعاً هناك .. أو يتركه فيذهب بلا كفالة فيضيع دم المقتول وسكت الناس ونكّس عمر ‏رأسه والتفت إلى الشابين : أتعفوان عنه ؟ ‏قالا : لا .. من قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين قال عمر : من يكفل هذا أيها الناس ‏فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته وزهده وصدقه وقال يا أمير المؤمنين .. أنا أكفله ‏قال عمر : هو قَتْل قال : ولو كان قاتلا !‏قال : أتعرفه ؟ ‏قال : ما أعرفه قال : كيف تكفله ؟ ‏قال : رأيت فيه سِمات المؤمنين فعلمت أنه لا يكذب وسيأتي ان شاء‏الله ‏قال عمر : يا أبا ذرّ .. أتظن أنه لو تأخر بعد ثلاث أني تاركك !‏قال : الله المستعان يا أمير المؤمنين فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليالٍ يُهيئ فيها نفسه ويُودع ‏أطفاله وأهله وينظر في أمرهم بعده ثم يأتي ليقتص منه لأنه قتل وبعد ثلاث ليالٍ لم ينس عمر الموعد يَعُدّ الأيام عداً .. وفي العصر ‏نادى ‏في المدينة : الصلاة جامعة فجاء الشابان واجتمع الناس وأتى أبو ‏ذر ‏وجلس أمام عمر قال عمر : أين الرجل ؟ .. قال : ما أدري يا أمير المؤمنين !‏وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس وكأنها تمر سريعة على غير عادتها وسكت ‏الصحابة واجمين .. عليهم من التأثر مالا يعلمه إلا الله ‏صحيح أن أبا ذرّ يسكن في قلب عمر وأنه يقطع له من جسمه إذا أراد ‏لكن هذه شريعة لكن هذا منهج لكن هذه أحكام ربانية لا يلعب بها ‏اللاعبون ‏ولا تدخل في الأدراج لتُناقش صلاحيتها ولا تنفذ في ظروف دون ظروف ‏وعلى أناس دون أناس وفي مكان دون مكان وقبل الغروب بلحظات وإذا بالرجل يأتي .. فكبّر عمر وكبّر المسلمون‏ معه ‏فقال عمر : أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك .. ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك !! ‏قال : يا أمير المؤمنين .. والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى !! .. ها أنا يا أمير المؤمنين تركت أطفالي كفراخ‏ الطير لا ماء ولا شجر في البادية وجئتُ لأُقتل فوقف عمر وقال للشابين : ماذا تريان ؟ ‏قالا وهما يبكيان : عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه قال عمر : الله أكبر .. ودموعه تسيل على لحيته جزاكما الله خيراً أيها الشابان على عفوكما .. وجزاك الله خيراً يا أبا ‏ذرّ يوم فرّجت عن هذا الرجل كربته .. وجزاك الله خيراً أيها الرجل ‏لصدقك ووفائك وجزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين لعدلك ورحمتك قال أحد المحدثين : والذي نفسي بيده .. لقد دُفِنت سعادة الإيمان ‏والإسلام ‏في أكفان عمر!! اللهم إنا نسألك العلم النافع و العمل الصالحفانظروا ايها الاحباب كم فى هذة القصة من معانى جميلة
اعتراف بالخطأ عداله مطلقة من حاكم أمانة وصدق فى القول والفعل عفو عند المقدرة مساعدة للغير فى وقت الشدة