يقول جل وعلا " أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد" .. هذا السؤال الذي هو في أول الآية الكريمة من سورة الزمر والذي هو من أربع كلمات قوله تعالى (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ .. ) يتحدى الله به الإنسان بكل أنواع العتب والغضب والكرم والكفاية والتمنين أو الإهلاك والإسعاد أو الإشقاء هذه الحقيقة تجهلها الأكثرية الساحقة من البشر وهي أنه إذا أراد أحد من عباد الله أن يكتفي بالله يعني أن يكون الله وحده ربه ، وأن يكون الله وحده إلـٰهه ، وأن يكون الله وحده رازقه ، وأن يكون الله وحده حصنه ، وأن يكون الله وحده طبيبه ، وأن يكون الله وحده مدبره ومدبر من له بهم عناية ، وبإختصار شديد أن يكون الله سبحانه وتعالى وليَّه في جميع شؤون حياته ومماته وآخرته ، فإن الله تعالى يكفيه كل ذلك بما يشاء وكيف يشاء ، بالأسباب وهو سبحانه مسبب الأسباب ، أو بكلمة كن فيكون ، بشرط حسن التوكل ، وعدم التواكل وبشرط الجهادين الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس تقرباً إلى الله وجهاد أعداء الله إذا اقتضت الضرورات ذلك.
ولقد جاء في الحديث القدسي : إذا اعتصم عبدي بي دون جميع خلقي فتحت له أبواب السماوات والأرض وإذا دعاني استجبت له وإذا استغفرني غفرت له، وإذا إعتصم عبدي بأحد دوني من جميع خلقي أقفلت دونه أبواب السماوات والأرض وإذا دعاني ما استجبت له وإذا استغفرني ما غفرت له
فإن من أهمِّ حقائق الإيمان التي يهتم المنهج الإسلامي بغرسها في نفوس المؤمنين: الخوف من الله تعالى دون ما سواه. إن رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحدَه الذي يعصِم من فتنة هذه الدنيا، وهو الذي يضبط تصرفات الخلق، وهو الذي يضبط المعيار والميزان في النفوس، فهو أصلُ كلِّ خير في الدنيا والآخرة، وصدق إبراهيم بن أدهم إذ يقول: "الهوى يُرْدِي، وخوفُ الله يشفي، واعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك: إذا خفت مَنْ تعلم أنه يراك".
وقد تنبه لهذا وول ديورانت صاحب (قصة الحضارة) فقال: "الأمم لا تتحضَّر أبدًا إلاَّ بالدين؛ لأن الخوف من الله الذي يرى كل شيء والقادر على كل شيء، هو وحده- أي هذا الخوف- الذي يضبط النزعات الفردية المتمثِّلة في الرغبات البشرية، والدين مصاحب لمولد كل الحضارات، وغياب الدين نذير بموتها". وهذا صحيح، فبدون الخوف من الله لا يصلح قلب، ولا تصلح حياة، ولا تستقيم نفس، ولا يُهذَّب سلوك، فلا يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات، من زنى وبغي وظلم واعتداء وعنصرية.. غير الخوف من الله، ولا يهدِّئ فيها سعارَ الشهوات وجنونَ المطامع غيرُ الخوف من الله، ولا يردع الإنسان عن التقصير والخيانة إلا الخوفُ من الله سبحانه، والعلمُ بأنه مطَّلع على كل ما نعمله بل وعلى ما تخفيه الأنفس. إن مما ينبغي ألا يتجاهله المنصفون: أن المسئول الذي لا يعرف الخوفُ من الله طريقًا إلى قلبه سوف يسرق ويظلم ويفسد ويحتكر وينهب ويدمر البلاد والعباد، وهل منع يوسفَ عليه السلام من الوقوع في الفاحشة إلا خوفُه من الله، فقال لامرأة العزيز: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(يوسف: من الآية23. وكلنا نذكر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الفتاة التي رفضت أن تطيع أمَّها التي أمرتها بغش اللبن؛ باعتبار أن عمر لا يراهما، فقالت البنت: أي أماه.. فأين الله؟! واللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملأ، وأعصيه في الخلاء.
فإذا انعدم الخوف من الله انقلب الإنسان وحشًا كاسرًا، لا يحجزه عن الشر رادع، وصارت القوة والحيلة وبالاً على صاحبها وعلى الدنيا كلها؛ إذ يستخدمها في الظلم والاستيلاء على بلاد وأموال الآخرين، والاعتداء على أعراضهم، وإنكار حقوقهم، والتعالي عليهم.
والخوف من الله يقوِّي القلب ويحرِّر النفس من الخوف من الخلق قال المحاسِبِيِّ: "كلما عَظُمَتْ هيبةُ اللَّه عزَّ وجلَّ في صدورِ الأولياء، لم يهابوا معه غيره؛ حياءً منه عزَّ وجلَّ أن يخافوا معَهُ سواه"، وذكر الحكماء أن علامة خوف الإنسان من الله أن يؤمِّنه خوفُه من كلِّ خوف غير خوف ربه تبارك وتعالى. وهذا صحيح تمامًا، فالذي يخاف الله يتحرر قلبه من الخوف من كل ما سوى الله، وإلا فما الذي يثبِّت المؤمن في المعركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر سوى يقينه بأن الأمر كله بيد الله؟ وما الذي يثبت الإيمان عند الإنسان رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضمِّ الهائج إلا الرغبة في جزاء الله، والخشية والخوف مما أعدَّه الله من العذاب المقيم لمن خالف أمره وعصاه؟!
إن الخوف من الله هو الذي يجعل صاحبه يفعل الطاعة والخير حتى ولو كان فيه حتفه. فذلك المجاهد الذي يخوض المعارك؛ ما جاء للمعركة وهو يعتقد أنه خرج في نزهة أو سياحة، بل كان يعلم أنه ذاهبٌ إلى ميدان حرب، ولكنه يعلم يقينًا أن استشهاده وتضحياته إن كان صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر هي التي يدخل بها الجنة برحمة الله وفضله. ولن يخاف الإنسان غيرَ الله إلا لمرض في قلبه، وقد شكا رجل إلى أحمد بن حنبل خوفَه من بعض الولاة فقال: "لو صححت لم تخف أحدًا"؛ أي خوفك سببه زوال الصحة من قلبك.
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين لهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه لم تُرهِبْهم تهديداتُ قريش بعد انتهاء غزوة أحد، فقد كتب علماء السيرة أن أبا سفيان وجموع قريش أرادوا أن يُدخلوا الرعب والخوف في قلوب المسلمين، فقالوا لركب من عبد القيس مروا بهم في طريقهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَافَيْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنّا قَدْ أَجْمَعْنَا السّيْرَ إلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ؛ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيّتَهُمْ، فَمَرّ الرّكْبُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِاَلّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ:"حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وفي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
وبقي هذا الدرس للأمة كلها درسًا حيًّا متجددًا، من خلال آيات القرآن التي خلَّدته؛ إذ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 173- 175 قـال سبحـانـه( وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ .. ) والمعنى يخوفك شياطين الجن والإنس ويخوفك المشركون والكافرون والمنافقون يخوفك كل هؤلاء لأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته فلذلك هم ينظرون إلى جميع مراكز القوى الدنيوية ويتعبدون لها. وهذه القوى منها قوة السلطان، قوة النافذين في المجتمع مالية كانت أو عسكرية أوسياسية أو حتى نسوية أو حتى لا أخلاقية أو حتى قوى الجن المزعومة إلى غير ذلك من قوى الشر التي تملأ الأرض، ولا سيما في هذا العصر، نعم يخوفونك بكل ذلك وينسون أن الله هو الحي القيوم الحاكم المطلق ، القائم على كل نفس بما كسبت، والذي هو بالمرصاد للأفراد، وبالمرصاد للأمم بحكامها وعساكرها وشعوبها، هذا كله والقرآن الكريم كتاب الله يصدع ويردد قول الله تعالى(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ) فالشيطان يضخِّم من شأن أوليائه، ويُظهرهم بمظهر القوة والقدرة، ويوقِع في النفوس أنهم ذوو قوة باطشة جبارة، وأنهم يملكون النفع والضر، وذلك ليحقِّق بهم الشر والفساد في الأرض، وليُخضِع لهم الرقاب، ويُطَوِّع لهم القلوب، ويوهمهم أنه لا تستطيع قوة معارضة أن تقف في وجههم، حتى لا يرتفع في وجوههم صوتٌ بالإنكار، ولا يفكر أحد في مواجهتهم أو دفعهم عن الشر والفساد. وإن من أكبر أعوان الشيطان في تحقيق هذه الأغراض الدنيئة ذلك الطابور الخامس؛ الذي يقوم بعملية التخذيل والتثبيط والتخويف، وضرب مناعة الأمة، وإضعاف قوتها النفسية، وإشاعة الانهزام في صفوفها فتحت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب والبطش يفعل أولياء الشيطان في الأرض ما يقرُّ عينه!.. يبدِّلون القيم، ويروِّعون الآمنين، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويخنقون صوت الحق والرشد والعدل، ويقيمون أنفسهم آلهةً في الأرض، تحمي الشر وتحارب الخير، دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم، بل دون أن يجرؤ أحد على كشف الباطل الذي يروِّجون له، وجلاء الحق الذي يطمسونه. ومن هنا يعرِّف الله المؤمنين الحقيقة، حتى لا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم؛ فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته، قال تعالى: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي إذا خوَّفكم الشيطان بهم أو منهم فتوكَّلوا عليَّ والجؤوا إليَّ، فإني كافيكم وناصركم عليهم، يعني أن الإيمان يقتضي أن تؤثِروا خوف الله على خوف الناس.
إن القوة الوحيدة التي تُخشَى وتُخاف هي القوة التي تملك النفع والضر.. هي قوة الله، وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله، وهم حين يخشونها وحدها لا تقف امامهم قوة في الأرض، لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان.
فكم وكم من الناس الذين يلجأون لغير الله ويعتمدون على غير الله ويستجيرون بغير الله ويدعون غير الله من البشر، يدعون الأنبياء والأولياء أمواتاً وأحياءً وهم يقرأون القرآن ويجودونه ويقرؤون في جملته قوله جل وعلا (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) ولكن يخِرُّون عليها صماً وعمياناً، هؤلاء يضلهم الله تعالى بضلالهم، هم الذين اختاروا الضلالة والغواية والتكذيب ، ولذلك يقول سبحانة تعـالى ) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . ( ومن يستطيع من خلق الله من الملائكة أو الأنبياء أو الأئمة أن يهدي من يضله الله جلت عظمته أو أن يضل من هـداه الله كما في قوله تعالى) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ( بلى إن الله عزيز ذو إنتقام ينتقم بعدله غير ظالم، ينتقم بعد أناته وصبره ووعده ووعيده
ولقد جاء في الحديث القدسي : إذا اعتصم عبدي بي دون جميع خلقي فتحت له أبواب السماوات والأرض وإذا دعاني استجبت له وإذا استغفرني غفرت له، وإذا إعتصم عبدي بأحد دوني من جميع خلقي أقفلت دونه أبواب السماوات والأرض وإذا دعاني ما استجبت له وإذا استغفرني ما غفرت له
فإن من أهمِّ حقائق الإيمان التي يهتم المنهج الإسلامي بغرسها في نفوس المؤمنين: الخوف من الله تعالى دون ما سواه. إن رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحدَه الذي يعصِم من فتنة هذه الدنيا، وهو الذي يضبط تصرفات الخلق، وهو الذي يضبط المعيار والميزان في النفوس، فهو أصلُ كلِّ خير في الدنيا والآخرة، وصدق إبراهيم بن أدهم إذ يقول: "الهوى يُرْدِي، وخوفُ الله يشفي، واعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك: إذا خفت مَنْ تعلم أنه يراك".
وقد تنبه لهذا وول ديورانت صاحب (قصة الحضارة) فقال: "الأمم لا تتحضَّر أبدًا إلاَّ بالدين؛ لأن الخوف من الله الذي يرى كل شيء والقادر على كل شيء، هو وحده- أي هذا الخوف- الذي يضبط النزعات الفردية المتمثِّلة في الرغبات البشرية، والدين مصاحب لمولد كل الحضارات، وغياب الدين نذير بموتها". وهذا صحيح، فبدون الخوف من الله لا يصلح قلب، ولا تصلح حياة، ولا تستقيم نفس، ولا يُهذَّب سلوك، فلا يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات، من زنى وبغي وظلم واعتداء وعنصرية.. غير الخوف من الله، ولا يهدِّئ فيها سعارَ الشهوات وجنونَ المطامع غيرُ الخوف من الله، ولا يردع الإنسان عن التقصير والخيانة إلا الخوفُ من الله سبحانه، والعلمُ بأنه مطَّلع على كل ما نعمله بل وعلى ما تخفيه الأنفس. إن مما ينبغي ألا يتجاهله المنصفون: أن المسئول الذي لا يعرف الخوفُ من الله طريقًا إلى قلبه سوف يسرق ويظلم ويفسد ويحتكر وينهب ويدمر البلاد والعباد، وهل منع يوسفَ عليه السلام من الوقوع في الفاحشة إلا خوفُه من الله، فقال لامرأة العزيز: ﴿مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(يوسف: من الآية23. وكلنا نذكر قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الفتاة التي رفضت أن تطيع أمَّها التي أمرتها بغش اللبن؛ باعتبار أن عمر لا يراهما، فقالت البنت: أي أماه.. فأين الله؟! واللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملأ، وأعصيه في الخلاء.
فإذا انعدم الخوف من الله انقلب الإنسان وحشًا كاسرًا، لا يحجزه عن الشر رادع، وصارت القوة والحيلة وبالاً على صاحبها وعلى الدنيا كلها؛ إذ يستخدمها في الظلم والاستيلاء على بلاد وأموال الآخرين، والاعتداء على أعراضهم، وإنكار حقوقهم، والتعالي عليهم.
والخوف من الله يقوِّي القلب ويحرِّر النفس من الخوف من الخلق قال المحاسِبِيِّ: "كلما عَظُمَتْ هيبةُ اللَّه عزَّ وجلَّ في صدورِ الأولياء، لم يهابوا معه غيره؛ حياءً منه عزَّ وجلَّ أن يخافوا معَهُ سواه"، وذكر الحكماء أن علامة خوف الإنسان من الله أن يؤمِّنه خوفُه من كلِّ خوف غير خوف ربه تبارك وتعالى. وهذا صحيح تمامًا، فالذي يخاف الله يتحرر قلبه من الخوف من كل ما سوى الله، وإلا فما الذي يثبِّت المؤمن في المعركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر سوى يقينه بأن الأمر كله بيد الله؟ وما الذي يثبت الإيمان عند الإنسان رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضمِّ الهائج إلا الرغبة في جزاء الله، والخشية والخوف مما أعدَّه الله من العذاب المقيم لمن خالف أمره وعصاه؟!
إن الخوف من الله هو الذي يجعل صاحبه يفعل الطاعة والخير حتى ولو كان فيه حتفه. فذلك المجاهد الذي يخوض المعارك؛ ما جاء للمعركة وهو يعتقد أنه خرج في نزهة أو سياحة، بل كان يعلم أنه ذاهبٌ إلى ميدان حرب، ولكنه يعلم يقينًا أن استشهاده وتضحياته إن كان صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر هي التي يدخل بها الجنة برحمة الله وفضله. ولن يخاف الإنسان غيرَ الله إلا لمرض في قلبه، وقد شكا رجل إلى أحمد بن حنبل خوفَه من بعض الولاة فقال: "لو صححت لم تخف أحدًا"؛ أي خوفك سببه زوال الصحة من قلبك.
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين لهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه لم تُرهِبْهم تهديداتُ قريش بعد انتهاء غزوة أحد، فقد كتب علماء السيرة أن أبا سفيان وجموع قريش أرادوا أن يُدخلوا الرعب والخوف في قلوب المسلمين، فقالوا لركب من عبد القيس مروا بهم في طريقهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَافَيْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنّا قَدْ أَجْمَعْنَا السّيْرَ إلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ؛ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيّتَهُمْ، فَمَرّ الرّكْبُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِاَلّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ:"حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وفي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
وبقي هذا الدرس للأمة كلها درسًا حيًّا متجددًا، من خلال آيات القرآن التي خلَّدته؛ إذ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 173- 175 قـال سبحـانـه( وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ .. ) والمعنى يخوفك شياطين الجن والإنس ويخوفك المشركون والكافرون والمنافقون يخوفك كل هؤلاء لأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته فلذلك هم ينظرون إلى جميع مراكز القوى الدنيوية ويتعبدون لها. وهذه القوى منها قوة السلطان، قوة النافذين في المجتمع مالية كانت أو عسكرية أوسياسية أو حتى نسوية أو حتى لا أخلاقية أو حتى قوى الجن المزعومة إلى غير ذلك من قوى الشر التي تملأ الأرض، ولا سيما في هذا العصر، نعم يخوفونك بكل ذلك وينسون أن الله هو الحي القيوم الحاكم المطلق ، القائم على كل نفس بما كسبت، والذي هو بالمرصاد للأفراد، وبالمرصاد للأمم بحكامها وعساكرها وشعوبها، هذا كله والقرآن الكريم كتاب الله يصدع ويردد قول الله تعالى(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ) فالشيطان يضخِّم من شأن أوليائه، ويُظهرهم بمظهر القوة والقدرة، ويوقِع في النفوس أنهم ذوو قوة باطشة جبارة، وأنهم يملكون النفع والضر، وذلك ليحقِّق بهم الشر والفساد في الأرض، وليُخضِع لهم الرقاب، ويُطَوِّع لهم القلوب، ويوهمهم أنه لا تستطيع قوة معارضة أن تقف في وجههم، حتى لا يرتفع في وجوههم صوتٌ بالإنكار، ولا يفكر أحد في مواجهتهم أو دفعهم عن الشر والفساد. وإن من أكبر أعوان الشيطان في تحقيق هذه الأغراض الدنيئة ذلك الطابور الخامس؛ الذي يقوم بعملية التخذيل والتثبيط والتخويف، وضرب مناعة الأمة، وإضعاف قوتها النفسية، وإشاعة الانهزام في صفوفها فتحت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب والبطش يفعل أولياء الشيطان في الأرض ما يقرُّ عينه!.. يبدِّلون القيم، ويروِّعون الآمنين، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويخنقون صوت الحق والرشد والعدل، ويقيمون أنفسهم آلهةً في الأرض، تحمي الشر وتحارب الخير، دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم، بل دون أن يجرؤ أحد على كشف الباطل الذي يروِّجون له، وجلاء الحق الذي يطمسونه. ومن هنا يعرِّف الله المؤمنين الحقيقة، حتى لا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم؛ فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته، قال تعالى: ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي إذا خوَّفكم الشيطان بهم أو منهم فتوكَّلوا عليَّ والجؤوا إليَّ، فإني كافيكم وناصركم عليهم، يعني أن الإيمان يقتضي أن تؤثِروا خوف الله على خوف الناس.
إن القوة الوحيدة التي تُخشَى وتُخاف هي القوة التي تملك النفع والضر.. هي قوة الله، وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله، وهم حين يخشونها وحدها لا تقف امامهم قوة في الأرض، لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان.
فكم وكم من الناس الذين يلجأون لغير الله ويعتمدون على غير الله ويستجيرون بغير الله ويدعون غير الله من البشر، يدعون الأنبياء والأولياء أمواتاً وأحياءً وهم يقرأون القرآن ويجودونه ويقرؤون في جملته قوله جل وعلا (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) ولكن يخِرُّون عليها صماً وعمياناً، هؤلاء يضلهم الله تعالى بضلالهم، هم الذين اختاروا الضلالة والغواية والتكذيب ، ولذلك يقول سبحانة تعـالى ) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . ( ومن يستطيع من خلق الله من الملائكة أو الأنبياء أو الأئمة أن يهدي من يضله الله جلت عظمته أو أن يضل من هـداه الله كما في قوله تعالى) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ( بلى إن الله عزيز ذو إنتقام ينتقم بعدله غير ظالم، ينتقم بعد أناته وصبره ووعده ووعيده