بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 23 فبراير 2010

الحياء

لقد دعا الإسلام إلى أخلاق فاضلة ، وآداب سامية ، تسمو بالإنسان وتُزكِّي روحه .. ومن جملة هذه الأخلاق : خلق الحياء. والحياء : خلق حميد يبعث على ترك القبيح ، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق . وللحياء فضائل عديدة ، دلت سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عليها، فمن ذلك: أنه خيرٌ كلُّه ، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الحياء لا يأتي إلا بخير ) (أخرجاه في الصحيحين), وقال : (الحياء كله خير ) (صحيح مسلم). وهو من الأخلاق التي يحبها الله ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( إنَّ الله حيي سِتِّير يحب الستر والحياء ) (سنن أبي داود والنسائي), والحياء من الإيمان، وكلما ازداد منه صاحبه ازداد إيمانه ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) (أخرجاه في الصحيحين). وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(دعه فإن الحياء من الإيمان) (أخرجاه في الصحيحين), وهو خلق الإسلام ؛ لقول سيِّد الأنام عليه الصلاة والسلام : ( إنَّ لكل دين خلقاً ، وخلق الإسلام الحياء ) (موطأ مالك ، وسنن ابن ماجه), والحياء يحمل على الاستقامة وعلى الطاعة ، وعلى ترك المعصية ونبذ طريقها ، وهل أدل على ذلك من قول نبينا صلى الله عليه وسلم : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فافعل ما شئت)(صحيح البخاري)وإنَّ من أعظم فضائله أنه يفضي بأصحابه إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة ، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار) (الترمذي) , والبذاء ضد الحياء، فهو جرأة في فُحشٍ، والجفاء ضد البر .أيها المؤمنون : إن أحق من يُستحى منه الله تعالى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (فالله أحق أن يُستحيا منه ) (الترمذي) . وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الحياء من الله ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(استحيوا من الله حق الحياء). قلنا : يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله . قال :(ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى ولتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) (الترمذي) وهذا الحديث دليل على ما سبق ذكره ؛ من أن الحياء يصد عن قبيح الفعال وذميم الصفات.أيها الموحدون: ليس من الحياء أن يسكت الإنسان على الباطل ، ليس منه أن تُعَطل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهذا جبن وخور وضعف ، وليس من الحياء في شيء ، قال النووي رحمه الله :" وأما كون الحياء خيراً كله ولا يأتي إلا بخير فقد يُشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يجلُّه ، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك مما هو معروف في العادة. ولذا مما تنزه الله عنه الاستحياء من الحق مع أنه موصوف بالحياء كما سيأتي ، قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَ } (سورة البقرة ، الآية :26) ، وسببها أن المنافقين لما ضرب الله مثلهم {كمثل الذي استوقد نار }، وقوله :{أو كصيب من السماء } قالوا : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ! فأنزل الله الآية. ومما جاء في الصحيحين، عن أنس رضي الله عنه، في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها، فبعد أن تناول الصحابة رضي الله عنهم طعامهم تفرق أكثرهم، وبقي ثلاثة منهم في البيت يتحدثون، والنبي صلى الله عليه وسلم يرغب في خروجهم، ولكن، ولشدة حيائه صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم شيئًا، وتركهم وشأنهم، حتى تولى الله سبحانه بيان ذلك، فأنزل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ (الأحزاب:53. وقال النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الله لا يستحيي من الحق) (سنن الترمذي), وليس من الحياء أن يمتنع الإنسان من السؤال عن أمور دينه ، فالحياء يبعث على الخير ولا يصد عنه. ولذا مدحت عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار بقولها :" رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين "(صحيح مسلم) وجاء إليها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال : يَا أُمَّاهْ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ؟ فَقَالَتْ : لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ. قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:( إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ) (صحيح مسلم). وجاءت أم سُليم رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلةً: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :(إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ) (أخرجه الشيخان) . فإذا لم يقدر الإنسان على السؤال لعذر يقتضي الحياء فعليه أن يُرسل من يسأل له، فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ:(يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ) (أخرجه الشيخان). فاحذر من أن يصدك الشيطان عن سبيل العلم وسؤال أهله بإيهامك أن هذا من الحياء، واجعل قول إمامنا مجاهد رحمه الله منك على بال " اثنان لا يتعلمان : حيي ومستكبر ". إنَّ الحياء صفة من صفات الله رب العالمين، والملائكة والمرسلين، وصالح المؤمنين، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه بذلك فقال: (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم ، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين ) (سنن أبي داود ، والترمذي ، وابن ماجه)، وهو خلق الأنبياء ، فقد جاء عن خاتمهم صلى الله عليه وسلم:( أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح ) (سنن الترمذي) وقال أبو سعيد رضي الله عنه ينعت نبينا صلى الله عليه وسلم: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها".( أخرجه الشيخان) . والحياء من الأخلاق التي كانت تُعرف في الجاهلية: فإن أبا سفيان لما كان على الإشراك سأله هرقل أسئلة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى الكلام بينهما قال أبو سفيان: "والله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت " (أخرجه الشيخان) وأولى الناس بخلق الحياء النساء ، وقد خلَّد القرآن الكريم ذكر امرأة من أهل هذا الخلق ، قال الله عنها :{ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (سورة القصص ، الآية : 25). فهذه الآية تدل على حياء تلك المرأة من وجهين :الأول : جاءت إليه تمشي على استحياء بلا تبذل، ولا تبجح ، ولا إغواء. الثاني : كلماتها التي خاطبت بها موسى عليه السلام ، إذ أبانت مرادها بعبارة قصيرة واضحة في مدلولها ، من غير أن تسترسل في الحديث والحوار معه وهذا من إيحاء الفطر النظيفة السليمة والنفوس المستقيمة. ولا يدري من وقف على أحداث هذه القصة التي جرت لنبي الله وكليمه موسى عليه السلام أيعجب من حياء المرأة أم من حيائه عليه السلام ؛ فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" جاءتْ واضعةً يدَها على وجهها ، فقام معها موسى وقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق وأنا أمشي أمامك فإنا لا ننظر في أدبار النساء "إن لغياب الحياء عن ساحاتنا لمظاهرَ وخيمةً، وإن من أقبحها سيادة الفحش والعري وقد علمت أثر الحياء في التستر والاحتشام ، قال الله تعالى في ذكر قصة آدم عليه السلام :{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (الأعراف: 22) , إن الحياء خلق رفيع لا يكون إلا عند من عَزَّ عنصره ، ونَبُل خلقه ، وكَرُم أصله. إذا قلَّ ماءُ الوجْهِ قلَّ حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قلَّ ماؤه حياءَك فاحفظه عليـك فإنما *** يدل على وجه الكريم حياؤه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق