بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 27 فبراير 2010

اتق الله حيثما كنت

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد ايها المسلمون، فنعيش هذه الدقائق القليلة في رحابِ سنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، ومع حديثٍ شريفٍ عظيم، مروي عن سيدنا أبي ذر(جندب بن جنادة) وابى عبد الرحمن معاذ بن جبل- رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم- قال: "اتَّقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأَتْبِع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِق الناسَ بخُلُقٍ حسن".
وتقوى الله اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه وحق التقوى كما ذكر ابن مسعود رضي الله عنه أن يطاع الله فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى أو أن يتقي العبد مالا يتقي كما قال بعض السلف إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا مالا يتقي أي جعلوا بينهم وبين الحرام سترة من الحلال فاجتنبوا بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام وقوله صلى الله عليه وسلم: (حيثما كنت) إرشاد إلى عبادة الله على وجه المشاهدة فإن لم يكن فعلى الأقل على وجه المراقبة كما قال صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه), أي على وجه الحضور والمشاهدة كأنما تشاهده جل وعلا .
هذا الحديث قد جمع للمسلم أصول علاقاته في الدنيا، وهي علاقات ثلاث:
علاقته أولاً بربه ومولاه سبحانه وتعالى، وهذه تناولها قوله- صلى الله عليه وسلم- "اتق الله حيثما كنت".. كذلك علاقته بنفسه، وهذه تناولها قوله- صلى الله عليه وسلم- "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"، ثم بعد ذلك علاقته بسائرِ الناس تناولها قوله- صلى الله عليه وسلم- "وخالق الناس بخلق حسن".
أولاً: علاقة الإنسان بربه ومولاه: لا شك أنَّ كلَّ علاقة من هذه العلاقاتِ مرتبطة بالأخرى، وأعظمها وأولاها علاقة الإنسان بالله عز وجل، لا بد من وجودها ولا بد من حسنها لكي يترتب عليها حسن علاقة الإنسان بنفسه ثم بعد ذلك علاقته بالناس (علاقته بالمجتمع(، ولا شك كذلك أنَّ لهذا الحديثِ صلةً قويةً وعلاقةً متينةً بما يسعى الناس إليه في هذه الأيام ويكثر الحديث حوله عن قضية الإصلاح والتغيير.

"اتق الله حيثما كنت" تعني: أنه لا بد من استشعارِ معية الله في كل وقت.. فبعض الناس يظنون أنَّ التدينَ مقصورٌ معناه على نطاقٍ ضيقٍ محصور بين جدران المساجد، فتسأل الواحد من هؤلاء: هل أنت متدين؟ فيقبل يده ظاهرًا وباطنًا ويقول: الحمد لله أُصلي ولا أدعُ فرضًا، وأصوم رمضان، ولو كان عندي مال أزكي أو أحج، والبعض يقول: لقد حججتُ أكثر من مرة.
ثم ماذا بعد، ماذا عن أثرِ الإسلام في حياته؟ ماذا عن آثار أداء هذه العبادات في واقعه مع نفسه وواقعه مع الناس؟ لم يقل النبي- صلى الله عليه وسلم-: اتق الله في المسجد، أو اتق الله أثناء أدائك العبادة أو أدائك الشعائر التعبدية، وإنما قال: "اتق الله حيثما كنت".. اتق الله في متجرك وكن تاجرًا صدوقًا أمينًا حتى تُحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إذا كنت بائعًا أو مشتريًا فليكن عنوان بيعك وشرائك تقوى الله تبارك وتعالى على حد قوله- صلى الله عليه وسلم-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يحققا ربحًا ما ويمحق الله بركة بيعهما".

اتق الله في مدرستك، إن كنت طالبًا أو مدرسًا أو موظفًا إداريًّا أو مسئولاً عن المدرسة.. اتق الله في كليتك، إن كنت أستاذًا أوعميدًا لها أو كذا أو كذا.

اتق الله في مصنعك، اتق الله في ورشتك، اتق الله في مؤسستك، اتق الله في وظيفتك، في كل مجالٍ وفي كل مكان.. "اتق الله حيثما كنت"، في أي مكان تواجدت، في أي موقع وُجدت، لا بد أن تكون مراقبًا تمامًا لمولاك سبحانه وتعالى.

ومن الأمثلة الفذة في الإحساسِ بمعية الله: أذكر في هذا المقام ما حدث من راعٍ شاب صغير مرَّ عليه سيدنا عمر- رضي الله عنه- في رواية، أو مجموعة الصحابة في رواية أخرى.

أراد سيدنا عمر أن يجري للشاب اختبارًا ليعرف مدى قربه من الله ومدى صلته بمولاه، فقال له: أيها الشاب إننا نسير في الصحراء منذ عدة أيام، بلغ بنا الجوع مبلغه، أعطنا شاةً نأكلها خذ ثمنها لنفسك وقل لصاحبها: إن الذئب أكلها.. معصية تأتي له بمصلحة، انحراف يعود عليه بنفع، ولكن انظر إلى المراقبة "اتق الله حيثما كنت".. ماذا قال الشاب التقي النقي؟ قال له: يا هذا- وهو لا يعرفه، ولا يعرف أنه عمر أمير المؤمنين- قال له: إن استطعت أن أكذب على صاحبِ الغنمِ، فكيف أكذبُ على ربي ورب صاحب الغنم؟!!

علم سيدنا عمر أنَّ هذا الشاب تقي نقي مراقب لمولاه، يطبق حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "اتق الله حيثما كنت" فأراد أن يُكافئه فذهب إلى سيد هذا الغلام واشترى منه الغلام والقطيع كله وأعتق الغلام حرًّا لوجه الله رب العالمين وأعطاه القطيع كله هديةً له، بعد أن كان سيأخذ ثمن شاة واحدة من حرام أصبح القطيع كله ملكًا له وفوق ذلك أصبح حرًّا بعد أن كان عبدًا. وقال له سيدنا عمر: "أعتقتك كلمتك في الدنيا وأدعو الله أن تعتقك من عذاب جهنم يوم القيامة".
ثانيًا: علاقة الإنسان بنفسه: ولكن قد يقول قائل- وهذا شيء منطقي وواقعي-: لسنا ملائكة ولسنا معصومين، نحن بشر نُخطئ ونُصيب، جاهزون وصالحون للطاعةِ أو المعصية، فيدي هذه أستطيع أن أمسح بها على رأس يتيم، وأستطيع أن أقدم بها صدقة، ويمكن أيضًا أن أبطش بها أو أن أضرب بها أو أمدها إلى حرام، ستطيعني لأن الله أمرها أن تكون طوع أمري، لا شك أن الإنسان قد يقع في معصية، قد يقع في انحراف! فما العمل؟
المسلم ليس معصومًا من الخطأ: هنا تأتي الفقرة الثانية المتعلقة بعلاقةِ الإنسان بنفسه، يا هذا أنت لست معصومًا، أنت بشر، فإن وقعت في معصية، أو انزلقت في انحرافٍ، فبادر بالعودة وأسرع بالإنابة إلى الله عز وجل "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" أما إذا بقيت السيئة ولم تتبع بحسنة ثم جاءتها سيئة أخرى ومعصية ثالثة وانحراف رابع، فإنه يتراكم الانحراف على قلب الإنسان ويصبح رانًا على قلبه (نسأل الله العفو والعافية) على حدِّ قول الله عزَّ وجل ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ المطففين:14)

فالكيس والذكي والفطن، إذا انزلقت قدمه إلى معصية، وإذا وقع في انحراف سرعان ما يبادر بالتوبة، وباب الله لا يُغلق في وجه طالب أبدًا، ويكفي أن الله عز وجل قد خاطب، ليس العصاة فحسب، وإنما مَن أسرفوا على أنفسهم بالعصيان، مَن تجاوزوا الحدَّ في المعصية، ولم يحرمهم من شرفِ الانتساب إليه، قال سبحانه ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر: 53).. يا للعظمة، مع أنهم قد تجاوزوا الحدَّ في العصيانِ إلا أنَّ ربهم لم يحرمهم من شرفِ الانتساب إليه.
- ومما زادني شــرفًا وتيـهًا وكدتُ بأخمصي أطأ الثريا
- دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبـيا
خير الخطائين التوابون: إذًا، فأتبع السيئة الحسنة تمحها، ومن كرمه عز وجل أن جعل لنا باب التوبة مفتوحًا في كل وقت ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ هود: 114)
وفي الصحيح، صحيح البخاري -رحمه الله- وغيره أن رجلا من الصحابة نال من امرأة قُبلة فأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بالخبر مستعظما لما فعل، فيسأله عن كفارة ذلك، فنزل قول الله -جل وعلا-: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ فقال له -عليه الصلاة والسلام- هل صليت معنا في هذا المسجد؟ قال: نعم. قال: فهي كفارة ما أتيت .
وهذا يدل على أن المؤمن يجب عليه أن يستغفر من السيئات، وأن يسعى في زوالها، وذلك بأن يأتي بالحسنات، فالإتيان بالحسنات يمحو الله -جل وعلا- به أنواع السيئات.
وكل سيئة لها ما يقابلها، فليس كل سيئة تمحوها أي حسنة فإذا عظمت السيئة وكبرت فلا يمحوها إلا الحسنات العظام؛ لأن كل سيئة لها ما يقابلها من الحسنات.
ثالثًا: علاقة الفرد بالناس من حوله: إذا أصلح الإنسان علاقته بمولاه، وبالتالي أصلح علاقته بنفسه، فلا شك أنَّ علاقته بالناس ستكون علاقةً قائمةً على منهجِ الله عزَّ وجل فتأتي الفقرة الثالثة "وخالق الناس بخلق حسن". وأول الخلق الحسن: أن تكف عنهم أذاك من كل وجه، وتعفو عن مساوئهم وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي وأخص ما يكون بالخلق الحسن: سعة الحلم على الناس، والصبر عليهم، وعدم الضجر منهم، وبشاشة الوجه، ولطف الكلام والقول الجميل المؤنس للجليس، المدخل عليه السرور، المزيل لوحشته. وقد يحسن المزح أحياناً إذا كان فيه مصلحة، لكن لا ينبغي الإكثار منه وإنما المزح في الكلام كالملح في الطعام، إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم.ومن الخلق الحسن: أن تعامل كل أحد بما يليق به، ويناسب حاله من صغير وكبير، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل.
وخالق الناس: المرأة، زوجتي من ضمن الناس، مطلوب أن أُعاشرها وأعاملها بالمعروف، أبنائي من ضمن الناس، جيراني، المحيطون بي في عملي، أقاربي، كل الناس، مطلوب مني أن أعاملهم بالصورة التي تُرضي الله سبحانه وتعالى. وخالق الناس بخلق حسن والناس هنا يراد بهم المؤمنون في جماع الخُلق الحسن بأن يحسن إليهم، ويراد بهم -أيضا- غير المؤمنين في معاملتهم بالعدل، والخُلق الحسن يشمل: ما يجب على المرء من أنواع التعامل بالعدل لأهل العدل، والإحسان لمن له حق الإحسان، قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: خالق الناس بخلق حسن . والخلق الحسن فسر بتفسيرات منها أنه: بذل الندى وكف الأذى، يعني: أن تبذل الخير للناس، وأن تكف أذاك عنهم
وقال آخرون: إن الخلق الحسن: أن يحسن للناس بأنواع الإحسان، ولو أساءوا إليه، كما جاء الأمر بمخالقة الناس بالخلق الحسن، والحث على ذلك، وبيان فضيلته في أحاديث كثيرة.
ومما جاء في بيان فضيلته قوله -عليه الصلاة والسلام-: إن أدناكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون . وثبت عنه -أيضا عليه الصلاة والسلام- أنه قال: إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم يعني:: المتنفل بالصيام، والمتنفل بالقيام فحسن الخلق الذي يبذله دائما طاعة من طاعات الله -جل وعلا-، فإذا كان دائم إحسان الأخلاق على النحو الذي وصفت، فإنه يكون في عبادة دائمة، إذا فعل ذلك طاعة لله -جل وعلا-.
وحسن الخلق تارة يكون "طبعا"، وتارة يكون "حملا" يعني: طاعة لله -جل وعلا- لا طبعا في المرء، وما كان من حسن الخلق على امتثال الطاعة، وإلزام النفس بذلك فهو أعظم أجرا ممن يفعله على وفق الطبيعة، يعني: لا يتكلف فيه؛ لأن القاعدة المقررة عند العلماء أن: الأمر إذا أمر به في الشرع، يعني: أن المسألة إذا أمر بها في الشرع، فإذا امتثلها اثنان فإن من كان أكلف في امتثال ما أمر به كان أعظم أجرا في الإتيان بالواجبات.

"اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن": سمعت أن بعض الناس يستحلون أموال غير المسلمين، ويعتدون على حرماتهم بدعوى أنهم غير مسلمين.. والحديث يقول "اتق الله حيثما كنت" في بلد إسلامي، أو غير إسلامي، تتعامل بمنطق (وخالق الناس) لم يقل (وخالق المؤمنين أو المسلمين) وإنما قال )وخالق الناس) كل الناس (بخلق حسن). وفقنا الله تعالى وإياكم إلى ما يحب ويرضى وثبتنا على طريق الحق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق