إن أهل الحق في كل زمان ومكان هم أعظم الناس صبراًَ على أقوالهم ومعتقداتهم،وإن أصابهم في سبيل ذلك ما أصابهم، وهذا هو الثبات على الحق، ولقد كان الثبات على الحق سيما أهل الحق منذ بزوغ فجر الدعوة الإسلامية المباركة حين جهر النبي بدعوته فاستجاب له نفر قليل، فابتلوا وعذبوا وساومهم الأعداء ليرتدوا عن دينهم فما زادهم ذلك إلا ثباتاً واستمساكاً بالحق الذي هداهم الله إليه.
وهذا الذي ذكرنا من ثباتهم على الحق وشدة تمسكهم به شهد به الأعداء قبل الأصدقاء،ألم تر إلى أبي سفيان رضي الله عنه حين سأله هرقل ـ ملك الروم ـ عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟! فقال ـ وكان وقتها مشركاً ـ : لا، قال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: أما أهل السنة والحديث فما يعلم أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن.
وهذا حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء. يقول: وإن الله لا بد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته كما قال تعالى:( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت [1-3].
وقال تعالى:( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة [24].
وقال تعالى:( والعصر*إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) (سورة العصر).
ولا شك أن الفتن التي يتعرض لها المؤمنون في هذه الأزمنة المتأخرة كثيرة متنوعة، فهناك فتن الشبهات والشهوات، وفتنة المال والجاه، وفتنة الشهرة، وهناك فتنة غلبة الظلمة والطواغيت وما يمارسونه مع المؤمنين من سجن واعتقال وتعذيب وتكذيب وغير ذلك من الفتن الكثيرة، نسأل الله العافية.
ولأن القلوب تتقلب، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الثبات على الحق:
"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"
وقد ذكر العلماء عوامل وأسباباً للثبات على الحق، نذكر منها على سبيل الإشارة ما يلي:
ـ اللجوء إلى الله وإعلان الافتقار إليه ودعاؤه:
فليس بالعبد غناء عن ربه طرفة عين، فإن لم يثبته ربه ضل وهلك وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً)
ولأجل هذا كان رسول الله صلى الله وسلم يدعو ربه أن يثبت قلبه على دينه، وكثيراً ما كان يقسم فيقول: "لا ومقلوب القلوب"
إن استشعار العبد فقره وحاجته إلى ربه ومولاه يجعله دائم الارتباط به، دائم الإقبال عليه، فيتولاه ربه ويصرف عنه السوء والفحشاء والفتن.
ومن أسباب الثبات:
ـ تدبر القرآن ومدارسته والعمل به:
قال الله تعالى:(وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً)، وقال: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) النحل.
وإن القرآن يشتمل على الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد كما قال تعالى:(نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم) وغيرها من الآيات،
كما أن مدارسته وسماعه تزيد الإيمان، كما قال تعالى: ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (التوبة:124)
وقال تعالى عن المؤمنين: (وإذا تليت عليهم آيته زادتهم إيماناً) والقرآن شفاء لأمراض الشبهات والشهوات كما قال تعالى:(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) وقال:(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) فإذا سلم القلب من أمراض الشبهات والشهوات كان أقوى على مواجهة الفتن، وأكثر ثباتاً على الحق.
كما أنه يشتمل على قصص السابقين التي تبشر المؤمنين بالنصر والتمكين وتبين عاقبة الظالمين والمجرمين: (وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) فلهذه الأسباب وغيرها كانت مدارسة القرآن من أعظم أسباب الثبات.
ومن أسباب الثبات على الدين:
ـ العمل بطاعة الله والكف عن معاصيه:
فالطاعات أغذية للقلوب، كما أن المعاصي سموم تصيب القلب في مقتل، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون). وقال تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً) فمهما أطاع العبد ربه والتزم أوامره، وانتهى عما نهى عنه كان قويا في مواجهة الفتن، ومهما كان مفرطاً في اتباع الشرع، مقبلاً على المعاصي كان ضعيفاً أمام الفتن، قال بعضهم:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
4ـ كثرة ذكر الله عز وجل:
فالله جل وعلا يقول:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب: 41ـ 43)
وقال الله عز وجل: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
ألم تر أيها الحبيب أن الله عز وجل لما أرسل موسى وهارون إلى فرعون أوصاهما بالإكثار من ذكره سبحانه، فقال: (ولا تنيا في ذكري)
وأمر الله المؤمنين عند ملاقاة الكفار بأن يكثروا من ذكره فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)
فكثرة الذكر تقوي القلب والبدن، فيستعان بالذكر في مواجهة الفتن والابتلاءات وعند ملاقاة الأعداء.
5ـ القرب من العلماء العاملين
فإن العلماء هم ورثة الأنبياء الذين يأخذون بأيدي أتباعهم إلى الله، قال أنس رضي الله عنه: وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا.
كيف لا وقد قال الله عز وجل في حق رسوله مع أمته: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)
قال الشيخ سعيد حوى رحمه الله معلقا على مقولة أنس رضي الله عنه:
في الحديث ما يدل على أن الرقي القلبي منوط بالاجتماع مع أهل الحق، والارتباط الروحي بهم، ومن هنا نؤكد على الانتساب للعلماء العاملين، والربانيين المخلصين.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله واصفاً شيخه ابن تيمية رحمه الله: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقينا وطمأنينة.
وهناك أسباب أخرى للثبات على الحق نعرض لها في مقال قادم بإذن الله، نسأل الله الكريم أن يثبت قلوبنا على دينه.وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين.
الثبات.. حياة المنتصرين
يقلبون الحقائق والحق واحد
كثيرٌ من الناس يحسب أن الانتصار في الحياة يتوقف على مَن يملك القوة والمال، أو السيطرة والهيمنة، وفق ما يراه اليوم من بلطجةٍ عالميةٍ يمارسها المشروع الأمريكي الصهيوني، حتى انقلب ذلك منهجًا للدول والحكومات والمجتمعات والأفراد؛ مما يُنذر بكارثة كونية.
ومما زاد الأمر غموضًا على الكثيرين أنهم يرون في واقع أوطانهم كيف انقلبت الحقائق؛ فالأنظمة تتترَّس بالأمن لبقائها ضد شعوبها، لصالح أفراد باعوا كل ذرةٍ في البلاد، والأمن يتترَّس بأذرع عسكرية مدفوعة الأجر من ميليشيات يقوم بتسليحها بالسيوف والخناجر من الناس لإرهاب الناس، ويستخدمهم لإسكات صوت الأحرار.
والممتلئون بالمال والمنصب والوجاهة من الناس يتترَّسون بالتملُّق والنفاق، لضمان مصالحهم ومنافعهم الشخصية، فليعيشوا وتموت الشعوب من الجوع، وليتنعَّموا ويذهب الأحرار إلى الجحيم، وليلهوا ويقبع الأشراف في غياهب السجون، يستوي في ذلك محاكمتهم مدنيًّا أو عسكريًّا أو قضائيًّا أو إعلاميًّا أو أمنيًّا، فقد اختلفت المحاكمات والسجن واحد.
ومع انقلاب هذه الحقائق تبقى الحقيقة التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل ولا تتحوَّل، هذه الحقيقة التي باتت اليوم تهددهم جميعًا: الرؤساء والأذناب، وآياتها تتجلى في كل لحظة، وهم يرونها أكثر مما يراها الناس، ألا وهي الحق المنتصر، وأهله المنتصرون: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ (طه: من الآية 114)، فهل يهربون من هذه الحقيقة التي يقول عنها رب العزة: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ النحل: من الآية 102)؟!
فوعده حق، والنبيون حق، والدعوة إلى الله حق، والساعة حق، والجنة حق، ونصر الله حق، وانتصار المؤمنين حق، والفئة الثابتة على الحق موجودة حتى يأتي الله بأمره، لقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"، (وهم كذلك): وهم ظاهرون على الحق، فهم المنصورون، فعلام يتأثرون بالباطل وإن انتفش، أو يستجيبون لغباره وهو منهار من أساسه.. ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدفعه فإذا هو زاهق﴾؟ (الأنبياء: من الآية 18
وعلام يدهشون من أفعال المهزومين وإن تربعوا على منصة القضاء؟ فالنبي قد أبلغنا الحق بقوله: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهلٍ فهو في النار" (رواه أبو داوود
ما السر في انتصار أصحاب الحق وانهزام أصحاب المصالح؟!
إنه الثبات؛ فالمنتصر في الحياة هو الثابت على الإيمان، والمنتصر في دعوته هو الثابت على فكرته، والمنتصر في تحمُّل التضحيات هو الثابت على منهجه، والمنتصر في مواجهة التحديات والمؤامرات هو الثابت على الفهم، فالمنتصر الحقيقي هو الثابت على الإسلام؛ إيمانًا ودعوةً ومنهجًا وفكرةً وفهمًا؛ ولذلك فالثبات هو حياة المنتصرين، والمنتصرون هم الثابتون، وهذا هو سر انتصار أصحاب الحق!.
وعلى العكس فإنَّ المنهزمين تخلَّوا عن كل شيء في سبيل أنفسهم، تعلن عنهم أقوالهم في الإعلام دون أن يدروا، وتفصح عنهم أفعالهم وما يشعرون، حتى ولو وقفوا مرةً منحازين للحق فالحق يفضحهم ويكشف زيفهم، في أنهم يكيلون بمكيالين؛ لأن الحق عندهم قنطرة لمصالحهم فقط، يتمسَّكون به، ليس لأنه الحق فهم لا يعرفونه، أما إذا كان الحق للمؤمنين فلا يعترفون به، فهم ثابتون على مصالحهم وهذا هو السر؛ ولذلك يظلمون ويستبدون ويحيفون ويحيدون ويدلِّسون ويزيِّفون ويخافون، ويخشون المؤمنين، يقول تعالى ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50 (النور
ومن رحمة الله في دعوته أن فتح للجميع أبواب الالتفاف حول الحق، فهو ليس محظورًا على أحد، وليس محصورًا على أناسٍ معينين؛ فالغلبة للحق وليست لأشخاص ولو حملوا الحق، وتأمَّلوا هذا المشهد للمصريِّين حينما آمنوا بالله وليس لموسى، وسجدوا للحق وإن تعارض مع مصالحهم التي جاءوا يطلبونها من الحاكم، في قوله تعالى: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121 (الأعراف
هم ثابتون.. فلماذا لا نثبت؟
هم ثابتون في تحالفهم مع الشيطان، والله يحذرنا: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ فاطر: من الآية 6)، فهل اتخذناه عدوًّا؟!
هم ثابتون على نفاقهم وتملُّقهم، والله ينبِّهنا: ﴿هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ المنافقون: من الآية 4)، فهل أخذنا حذرنا من دسائسهم؟!
هم ثابتون على الغزو والاحتلال وإثارة الشبهات ونشر الإساءات، فهل نواجههم بالذوبان والذلة والهوان، والله يطالبنا بالعزة: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المنافقون: من الآية 8)!
هم ثابتون فلماذا لا نثبت؟ والله يطلعنا على حقيقتهم: ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا﴾ البقرة: من الآية 217)، بل يدفعون كل غالٍ ورخيص؛ ثمنًا لهذا الثبات وتضحيةً لهذه الغاية، فهل يجدي أن نواجههم بدون أن ندفع الثمن والله يقول لأبناء دعوته: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214 (البقرة)
فهذا هو قانون المنتصرين وحياة الثابتين وطريق الدعاة: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146 (آل عمران:
ورضي الله عن خبيب سيد المنتصرين، يوم ساوموه للرجوع عن دينه، فقال: "لا، والله ما أحبُّ أنني رجعتُ عن الإسلام، وأنَّ لي ما في الأرض جميعًا"، قالوا: لئن لم تفعل لنقتلنَّك، قال: "إن قتلي في الله لقليل".
كيف نحيا بالثبات؟!
الثبات هدية الله لأهل دعوته، وهبة المولى للمؤمنين الربانيِّين.. ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (إبراهيم: من الآية 27
ولا ركونَ لظالم، أو انهزام أمام رخيص مادي، إلا إذا تخلينا عن الله، فتُرفع عنَّا هذه المنَّة الربانية.. ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74 (الإسراء
ولا تأييد من الله ولا نصرة في الحياة إلا بهذه العطية الإلهية.. ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (هود: من الآية 120
فما أحوج الدعوة الربانية إلى القيادة القدوة!! فهذا رسولنا الأسوة، يدعو إلى الثبات.. "إليَّ عباد الله، إليَّ أنا رسول الله، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" فالتف حوله الثابتون المائة في يوم حنين.
وما أحوج الدعوة الربانية إلى الجنود الثابتين!! فالنصر ليس بالكثرة، وإنما بالثبات.. ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23 (الأحزاب.
وما أحوج الدعوة الربانية إلى الثقة والأمل في نصر الله؛ لأنها منتصرة بالثبات، فلا يهمّها موت، بل هي التي تصنع موتتها، فتحيا الأمة كلها بها، ورضي الله عن الإمام البنا، وهو يقول: "إن الأمةَ التي تُحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة والنعيم الخالد".
وهذا الذي ذكرنا من ثباتهم على الحق وشدة تمسكهم به شهد به الأعداء قبل الأصدقاء،ألم تر إلى أبي سفيان رضي الله عنه حين سأله هرقل ـ ملك الروم ـ عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟! فقال ـ وكان وقتها مشركاً ـ : لا، قال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: أما أهل السنة والحديث فما يعلم أحدٌ من علمائهم ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن.
وهذا حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة والصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء. يقول: وإن الله لا بد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته كما قال تعالى:( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت [1-3].
وقال تعالى:( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة [24].
وقال تعالى:( والعصر*إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) (سورة العصر).
ولا شك أن الفتن التي يتعرض لها المؤمنون في هذه الأزمنة المتأخرة كثيرة متنوعة، فهناك فتن الشبهات والشهوات، وفتنة المال والجاه، وفتنة الشهرة، وهناك فتنة غلبة الظلمة والطواغيت وما يمارسونه مع المؤمنين من سجن واعتقال وتعذيب وتكذيب وغير ذلك من الفتن الكثيرة، نسأل الله العافية.
ولأن القلوب تتقلب، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الثبات على الحق:
"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"
وقد ذكر العلماء عوامل وأسباباً للثبات على الحق، نذكر منها على سبيل الإشارة ما يلي:
ـ اللجوء إلى الله وإعلان الافتقار إليه ودعاؤه:
فليس بالعبد غناء عن ربه طرفة عين، فإن لم يثبته ربه ضل وهلك وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً)
ولأجل هذا كان رسول الله صلى الله وسلم يدعو ربه أن يثبت قلبه على دينه، وكثيراً ما كان يقسم فيقول: "لا ومقلوب القلوب"
إن استشعار العبد فقره وحاجته إلى ربه ومولاه يجعله دائم الارتباط به، دائم الإقبال عليه، فيتولاه ربه ويصرف عنه السوء والفحشاء والفتن.
ومن أسباب الثبات:
ـ تدبر القرآن ومدارسته والعمل به:
قال الله تعالى:(وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً)، وقال: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) النحل.
وإن القرآن يشتمل على الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد كما قال تعالى:(نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم) وغيرها من الآيات،
كما أن مدارسته وسماعه تزيد الإيمان، كما قال تعالى: ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (التوبة:124)
وقال تعالى عن المؤمنين: (وإذا تليت عليهم آيته زادتهم إيماناً) والقرآن شفاء لأمراض الشبهات والشهوات كما قال تعالى:(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) وقال:(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) فإذا سلم القلب من أمراض الشبهات والشهوات كان أقوى على مواجهة الفتن، وأكثر ثباتاً على الحق.
كما أنه يشتمل على قصص السابقين التي تبشر المؤمنين بالنصر والتمكين وتبين عاقبة الظالمين والمجرمين: (وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) فلهذه الأسباب وغيرها كانت مدارسة القرآن من أعظم أسباب الثبات.
ومن أسباب الثبات على الدين:
ـ العمل بطاعة الله والكف عن معاصيه:
فالطاعات أغذية للقلوب، كما أن المعاصي سموم تصيب القلب في مقتل، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون). وقال تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً) فمهما أطاع العبد ربه والتزم أوامره، وانتهى عما نهى عنه كان قويا في مواجهة الفتن، ومهما كان مفرطاً في اتباع الشرع، مقبلاً على المعاصي كان ضعيفاً أمام الفتن، قال بعضهم:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
4ـ كثرة ذكر الله عز وجل:
فالله جل وعلا يقول:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب: 41ـ 43)
وقال الله عز وجل: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
ألم تر أيها الحبيب أن الله عز وجل لما أرسل موسى وهارون إلى فرعون أوصاهما بالإكثار من ذكره سبحانه، فقال: (ولا تنيا في ذكري)
وأمر الله المؤمنين عند ملاقاة الكفار بأن يكثروا من ذكره فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)
فكثرة الذكر تقوي القلب والبدن، فيستعان بالذكر في مواجهة الفتن والابتلاءات وعند ملاقاة الأعداء.
5ـ القرب من العلماء العاملين
فإن العلماء هم ورثة الأنبياء الذين يأخذون بأيدي أتباعهم إلى الله، قال أنس رضي الله عنه: وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا.
كيف لا وقد قال الله عز وجل في حق رسوله مع أمته: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)
قال الشيخ سعيد حوى رحمه الله معلقا على مقولة أنس رضي الله عنه:
في الحديث ما يدل على أن الرقي القلبي منوط بالاجتماع مع أهل الحق، والارتباط الروحي بهم، ومن هنا نؤكد على الانتساب للعلماء العاملين، والربانيين المخلصين.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله واصفاً شيخه ابن تيمية رحمه الله: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقينا وطمأنينة.
وهناك أسباب أخرى للثبات على الحق نعرض لها في مقال قادم بإذن الله، نسأل الله الكريم أن يثبت قلوبنا على دينه.وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين.
الثبات.. حياة المنتصرين
يقلبون الحقائق والحق واحد
كثيرٌ من الناس يحسب أن الانتصار في الحياة يتوقف على مَن يملك القوة والمال، أو السيطرة والهيمنة، وفق ما يراه اليوم من بلطجةٍ عالميةٍ يمارسها المشروع الأمريكي الصهيوني، حتى انقلب ذلك منهجًا للدول والحكومات والمجتمعات والأفراد؛ مما يُنذر بكارثة كونية.
ومما زاد الأمر غموضًا على الكثيرين أنهم يرون في واقع أوطانهم كيف انقلبت الحقائق؛ فالأنظمة تتترَّس بالأمن لبقائها ضد شعوبها، لصالح أفراد باعوا كل ذرةٍ في البلاد، والأمن يتترَّس بأذرع عسكرية مدفوعة الأجر من ميليشيات يقوم بتسليحها بالسيوف والخناجر من الناس لإرهاب الناس، ويستخدمهم لإسكات صوت الأحرار.
والممتلئون بالمال والمنصب والوجاهة من الناس يتترَّسون بالتملُّق والنفاق، لضمان مصالحهم ومنافعهم الشخصية، فليعيشوا وتموت الشعوب من الجوع، وليتنعَّموا ويذهب الأحرار إلى الجحيم، وليلهوا ويقبع الأشراف في غياهب السجون، يستوي في ذلك محاكمتهم مدنيًّا أو عسكريًّا أو قضائيًّا أو إعلاميًّا أو أمنيًّا، فقد اختلفت المحاكمات والسجن واحد.
ومع انقلاب هذه الحقائق تبقى الحقيقة التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل ولا تتحوَّل، هذه الحقيقة التي باتت اليوم تهددهم جميعًا: الرؤساء والأذناب، وآياتها تتجلى في كل لحظة، وهم يرونها أكثر مما يراها الناس، ألا وهي الحق المنتصر، وأهله المنتصرون: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ (طه: من الآية 114)، فهل يهربون من هذه الحقيقة التي يقول عنها رب العزة: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ النحل: من الآية 102)؟!
فوعده حق، والنبيون حق، والدعوة إلى الله حق، والساعة حق، والجنة حق، ونصر الله حق، وانتصار المؤمنين حق، والفئة الثابتة على الحق موجودة حتى يأتي الله بأمره، لقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"، (وهم كذلك): وهم ظاهرون على الحق، فهم المنصورون، فعلام يتأثرون بالباطل وإن انتفش، أو يستجيبون لغباره وهو منهار من أساسه.. ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدفعه فإذا هو زاهق﴾؟ (الأنبياء: من الآية 18
وعلام يدهشون من أفعال المهزومين وإن تربعوا على منصة القضاء؟ فالنبي قد أبلغنا الحق بقوله: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهلٍ فهو في النار" (رواه أبو داوود
ما السر في انتصار أصحاب الحق وانهزام أصحاب المصالح؟!
إنه الثبات؛ فالمنتصر في الحياة هو الثابت على الإيمان، والمنتصر في دعوته هو الثابت على فكرته، والمنتصر في تحمُّل التضحيات هو الثابت على منهجه، والمنتصر في مواجهة التحديات والمؤامرات هو الثابت على الفهم، فالمنتصر الحقيقي هو الثابت على الإسلام؛ إيمانًا ودعوةً ومنهجًا وفكرةً وفهمًا؛ ولذلك فالثبات هو حياة المنتصرين، والمنتصرون هم الثابتون، وهذا هو سر انتصار أصحاب الحق!.
وعلى العكس فإنَّ المنهزمين تخلَّوا عن كل شيء في سبيل أنفسهم، تعلن عنهم أقوالهم في الإعلام دون أن يدروا، وتفصح عنهم أفعالهم وما يشعرون، حتى ولو وقفوا مرةً منحازين للحق فالحق يفضحهم ويكشف زيفهم، في أنهم يكيلون بمكيالين؛ لأن الحق عندهم قنطرة لمصالحهم فقط، يتمسَّكون به، ليس لأنه الحق فهم لا يعرفونه، أما إذا كان الحق للمؤمنين فلا يعترفون به، فهم ثابتون على مصالحهم وهذا هو السر؛ ولذلك يظلمون ويستبدون ويحيفون ويحيدون ويدلِّسون ويزيِّفون ويخافون، ويخشون المؤمنين، يقول تعالى ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50 (النور
ومن رحمة الله في دعوته أن فتح للجميع أبواب الالتفاف حول الحق، فهو ليس محظورًا على أحد، وليس محصورًا على أناسٍ معينين؛ فالغلبة للحق وليست لأشخاص ولو حملوا الحق، وتأمَّلوا هذا المشهد للمصريِّين حينما آمنوا بالله وليس لموسى، وسجدوا للحق وإن تعارض مع مصالحهم التي جاءوا يطلبونها من الحاكم، في قوله تعالى: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121 (الأعراف
هم ثابتون.. فلماذا لا نثبت؟
هم ثابتون في تحالفهم مع الشيطان، والله يحذرنا: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ فاطر: من الآية 6)، فهل اتخذناه عدوًّا؟!
هم ثابتون على نفاقهم وتملُّقهم، والله ينبِّهنا: ﴿هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ المنافقون: من الآية 4)، فهل أخذنا حذرنا من دسائسهم؟!
هم ثابتون على الغزو والاحتلال وإثارة الشبهات ونشر الإساءات، فهل نواجههم بالذوبان والذلة والهوان، والله يطالبنا بالعزة: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المنافقون: من الآية 8)!
هم ثابتون فلماذا لا نثبت؟ والله يطلعنا على حقيقتهم: ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا﴾ البقرة: من الآية 217)، بل يدفعون كل غالٍ ورخيص؛ ثمنًا لهذا الثبات وتضحيةً لهذه الغاية، فهل يجدي أن نواجههم بدون أن ندفع الثمن والله يقول لأبناء دعوته: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214 (البقرة)
فهذا هو قانون المنتصرين وحياة الثابتين وطريق الدعاة: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146 (آل عمران:
ورضي الله عن خبيب سيد المنتصرين، يوم ساوموه للرجوع عن دينه، فقال: "لا، والله ما أحبُّ أنني رجعتُ عن الإسلام، وأنَّ لي ما في الأرض جميعًا"، قالوا: لئن لم تفعل لنقتلنَّك، قال: "إن قتلي في الله لقليل".
كيف نحيا بالثبات؟!
الثبات هدية الله لأهل دعوته، وهبة المولى للمؤمنين الربانيِّين.. ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (إبراهيم: من الآية 27
ولا ركونَ لظالم، أو انهزام أمام رخيص مادي، إلا إذا تخلينا عن الله، فتُرفع عنَّا هذه المنَّة الربانية.. ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74 (الإسراء
ولا تأييد من الله ولا نصرة في الحياة إلا بهذه العطية الإلهية.. ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (هود: من الآية 120
فما أحوج الدعوة الربانية إلى القيادة القدوة!! فهذا رسولنا الأسوة، يدعو إلى الثبات.. "إليَّ عباد الله، إليَّ أنا رسول الله، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" فالتف حوله الثابتون المائة في يوم حنين.
وما أحوج الدعوة الربانية إلى الجنود الثابتين!! فالنصر ليس بالكثرة، وإنما بالثبات.. ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23 (الأحزاب.
وما أحوج الدعوة الربانية إلى الثقة والأمل في نصر الله؛ لأنها منتصرة بالثبات، فلا يهمّها موت، بل هي التي تصنع موتتها، فتحيا الأمة كلها بها، ورضي الله عن الإمام البنا، وهو يقول: "إن الأمةَ التي تُحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة، يهب لها الله الحياة العزيزة والنعيم الخالد".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق