بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 31 يوليو 2010

أيها الإخوة.. تصحيح لبعض المفاهيم الخاطئة[31/07/2010][12:33 مكة المكرمة]


بقلم: الشيخ محمد عبد الله الخطيب
نشرت جريدة (الدستور) اليومية في صفحتها السابعة يوم الثلاثاء 20/7/2010م موضوعًا، يتصل بقضية الردة والمرتد، وكنا لا نريد لهذه الجريدة، التي ألفنا أنها تعالج قضايا تهمُّ الوطن والمواطن؛ ألا تنقل كلامًا عن البعض لا يصح لها أن تخوض فيه، فقد أكل الزمان عليه وشرب، حتى أصبح في عالم النسيان لبغضه وتفاهته، والخروج عن الثوابت التي أقرَّها الإسلام.
لقد دخل في هذه المعركة مَن يحسن ومَن لا يحسن، حتى قالوا بجرأة: إن القرآن لم يتعرض لهذه الجريمة في آياته، وقال آخرون: لم ترد عقوبة المرتد إلا في حديث واحد، ويقصدون حديثًا "من بدَّل دينه فاقتلوه"، وحاولوا أن يهونوا من هذا الحديث الصريح، وحاول فريق ثالث أن يقلِّلوا من شأن هذه الجريمة ومن خطرها على المجتمع، ولعلنا بإذن الله نستطيع في هذا المقال أن نبيِّن وجه الحق في هذا الأمر.
إن الحديث في هذا الموضوع وللرد على الذين وقعوا فيه نقول لهم، أولاً: نحن الإخوان المسلمين بالذات نؤمن بضرورة الدقة والاحتياط الكامل والعمق والتحرز الشديد في النظر إلى هذا الأمر؛ فإن إصدار حكم بردة مسلم عن دينه أمرٌ خطيرٌ في الإسلام، وليست كلمة تُقال على اللسان، فنحن دعاة ولسنا قضاة، ونتمنى للناس جميعًا- من قلوبنا- وندعو لهم ولأنفسنا؛ ندعو للقريب وللبعيد، وللصديق وغير الصديق، وللمسلم وغير المسلم؛ أن يستظل الجميع برسالة الإسلام وبنور القرآن، وأن يكون الجميع مع الله لا يأخذهم شيطان ولا يغرهم بالله الغرور.
فالإمام البنا لحبه لهذا الحق، وحبه للناس جميعًا، ولحاجتهم لهذه الرسالة كان يقول: "أتمنى أن أُبلغ هذه الدعوة- دعوة الإسلام- للطفل في بطن أمه".
نبدأ بتعريف الردة؛ فالردة هي: الرجوع عن الإسلام أو قطع الإسلام، وهي لعبة مارسها اليهود في أيام النبي صلى الله عليه وسلم للصدِّ عن الإسلام، قال تعالى: ﴿وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)﴾ (آل عمران).
وهذه طريقة ماكرة خبيثة؛ لأن إظهار الإسلام ثم الرجوع فيه يوقع الضعاف في شكٍّ وبلبلة واضطراب، وما تزال خدعة الرجوع عن الدين وأنه لا شيء فيها، وفاعله لا عقوبة عليه، تتخذ حتى اليوم بطرق مختلفة، ولقد لجئوا حديثًا إلى إحياء هذه الخدعة القديمة بشتى الطرق، فهناك ما يُسمى بالمفكرين أو المثقفين من يركب هذه الموجة الباطلة.
وهذا الغرض واضح وهو: خلخلة بعض النفوس عن هذه العقيدة وإباحة الخروج منها، وإهدار قيمة الإسلام وتاريخ الإسلام، كأنه لعبة تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال.
والإسلام لا يُكره أحدًا على الدخول فيه؛ قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: من الآية 256)، وتاريخ الإسلام كله لم تثبت فيه حالة واحدة أن المسلمين إلى اليوم أمسكوا بإنسان وأكرهوه على الدخول في الدين؛ لماذا؟ لأن عقيدة الإسلام أكرم وأعظم من أن يُكره أحد عليها، فلا بد لمن يريد أن يدخل في الإسلام من قناعة كاملة به، وحرية تامة في الدخول إليه أو عدم الدخول؛ لكن من دخل الإسلام واعتنقه وآمن به، لا يُباح له أبدًا أن يتركه وإلا كان هذا العمل هو نوع من الهزل، والإسلام يبرأ من الهزل والهازلين، ومن التلاعب والمتلاعبين، ومن تحويله إلى مسرح، إنه يقبل الداخلين إليه بحريتهم من أوسع الأبواب ويربيهم ويعلمهم، ويصنع عقيدتهم؛ لكن أن يجيز لهم التلاعب فهو خيانة، وهي هنا تعتبر الردة خيانة عظمى لله ولرسوله وللمؤمنين وللمجتمع الإسلامي كله.
إن عقيدة الإسلام ليست ثوبًا يلبسه الإنسان أو يخلعه، ويلقي به حين يريد، حسب هواه؛ إن عقيدة الإسلام هي الحياة بكل معانيها، فمن انسلخ منها وخرج عليها فلا بد أن يُعاقب ولا بد أن يُحاسب.
لقد أجمع المسلمون على عقوبة المرتد، وفيها وردت جملة من الأحاديث الصحيحة عن عددٍ من الصحابة، روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بدَّل دينه فاقتلوه" (رواه الجماعة إلا مسلمًا)، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه عند الطبراني بإسناد حسن، وعن معاوية بن حيدة بإسناد رجاله ثقات، وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (رواه الجماعة).
وعدد الصحابة الذين جاءوا في كتب السنة، وقد قاموا بمعاقبة المرتد لا حصر لهم، وفي القرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢١٧)﴾ (البقرة).
وماذا يقول المثقفون الذين يتهاونون في مثل هذه المواقف مع المرتد، ماذا يفعل المسلمون في صدر الإسلام الأول حيثما كانوا- على رأيكم- يتركونهم يتلاعبون بالأمة كلها ويتلاعبون بالإسلام؟ أم الواجب والفرض أن يردوهم عن هذا الغي، وأن يعود السلام والحريات إلى الجزيرة العربية التي يجب ألا ترتفع فيها راية سوى راية الإسلام، وراية التوحيد.
لا يجتمع دينان بجزيرة العرب
لقد قال أبو بكر في عزم وإصرار وهو يدفع في وجه عمر: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أجبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام.. والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة.. والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، وجلس في المدينة يخط على الرمال خطوطًا حدّد فيها كل أماكن المرتدين، وعيّن القواد، وأمرهم بقيادة الجيوش، وأمر كل واحدٍ منهم إذا انتهى من القبيلة الفلانية أن ينضمَّ إلى قائد آخر في القبيلة التي تقترب منه وحدَّدها تحديدًا دقيقًَا.. وانطلقت الجيوش باسم الله، ترفع راية التوحيد، وتُعلن في قوة وصبر وفي عزمٍ "لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(لا يجتمع في الجزيرة العربية دينان).. بل هو دين واحد.. دين الإسلام.. وملة واحدة هي ملة التوحيد.. ودستور واحد هو دستور القرآن.. وشاء الله عزَّ وجلَّ أن يكلِّل هؤلاء القادة بالنصر، وعادت المياه إلى مجاريها كما يقولون، واستقرَّ الأمر لله ولرسوله ولصالح هذا الدين بفضل الله أولاً، وغيرتهم وفهمهم الصحيح لدينهم، وللردِّ على كلِّ مَن يتجرَّأ على الله ورسوله.
لا بدَّ للعلماء والفقهاء والغيورين على دينهم وإسلامهم من وقفة صادقة تردُّ هذه الموجات المتتابعة التي لا تكفّ عن نشر مثل هذه الأهواء.. فهي تشكِّك بعض المسلمين في دينهم وإسلامهم، وتقودهم على مجاوزة حدود الله عزَّ وجلَّ، ولا بد لمواقع القنوات التليفزيونية أن تهتم بهذا الأمر وبأمثاله لبيان الوجه الصبوح للإسلام، وكشف الذين يحاولون إلقاء الغبار عليه.. وعندهم من العلماء والفقهاء والإمكانات التي تعينهم على تحقيق هذا الأمر، ولهم جمهور كبير يستمع إليهم ويتأثر بهم، ويستجيب لهم؛ فصار في حقهم هذا الأمر بمثابة الفرض الذي يجب أن يؤدَّى، والأمانة التي يجب أن تُحترم، والواجب الذي لا يصح التخلّي عنه.
كيف يُعامل المرتد؟
أولاً: وضع الإسلام نظامًا محكمًا لمعاقبة المرتد:
1) أن يعرض على محكمة تناقشه في هذه الأمور.
2) يُعرض على العلماء، يبيِّنون له خطر ما وقع فيه، ويرغِّبونه في العودة إلى ما كان عليه، ويذكِّرونه بمصيره إذا استمرَّ على ذلك، ومن عظمة الإسلام أنه لا يؤاخذ الناس على ما في نفوسهم وما يدور في عقولهم؛ لأنه لا سلطان على العقول والقلوب إلا لله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست، أو حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم" (البخاري).
3) إذا اعتقد المسلم اعتقادًا منافيًا للإسلام أيًّا كان هذا الاعتقاد فهو لا يخرجه عن الإسلام إلا إذا أخرجه من سريرته في قول أو عمل، فإذا لم يخرجه من سريرته فهو مسلم ظاهرًا في أحكام الدنيا، أما في الآخرة فأمره إلى الله.
يقول الشيخ القرضاوي- حفظه الله- حول هذا الموضوع: إنما يُعاقب المرتد المجاهر، وبخاصة الداعية للردة، حمايةً لهُوية المجتمع وحفاظًا على أسسه ووحدته، ولا يوجد مجتمع في الدنيا إلا وعنده أساسيات لا يسمح بالنيل منها؛ مثل: الهُوية والانتماء والولاء، فلا يقبل أي عمل لتغيير هوية المجتمع، أو تحويل ولائه لأعدائه وما شابه ذلك.
4) يرى بعض الفقهاء: بعد البيان له والتصحيح وإظهار الرحمة والشفقة عليه إن مات على غير الإسلام، فأصر على موقفه أن يحبس لعل الله ينير بصيرته ويرده إلى الطريق.
ليست المسألة إذًا هينة أو سهلة أو كلمة يقولها الإنسان على آخر كما يظن البعض؛ بل لا بد من التبين الكامل والدقة الكاملة، وهذه جوانب لا تعهد لرأي فرد أو لنظرته بحال من الأحوال.
وأخيرًا.. نقول ردًّا على الذين- من جانب آخر- يهونون من هذا الأمور وكأنه لعبة- كما قلنا- فيقولون إن عقوبة الردة لم ترد في القرآن الكريم، وأن ما ورد في السنة هو "خبر آحاد"، وقد بيَّنا في هذا المقال أن عقوبة الردة وردت في القرآن وفي السنة وفي عمل النبي صلى الله عليه وسلم الذي أقام حد الردة على كثير ممن أصروا على مواقفهم، فلا حجة أبدًا لهؤلاء في طمس معالم هذا الحق.
يجب أن تظل هذه الحدود قائمة ومحترمة، ولا نشجِّع أحدًا على أن يتجرَّأ على الله ورسوله، وأن يتنكر لدينه ولإسلامه، نحن نريد لكل مسلم أن يكون إنسانًا مؤمنًا بالله إيمانًا عميقًا، متخلقًا بأخلاق الإسلام، محبًّا لربه، من أهل الجنة، بعيدًا عن كل ما يشينه، وهذه الحقائق بعيدة كل البعد عن الذين يشجِّعون البعض؛ خاصةً الشباب، على التهاون في دينهم أو التفريط في إسلامهم.. والله يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل.

الأربعاء، 28 يوليو 2010

المستشار الخضيري: التغيير في مصر لن يحدث بسهولة[14/11/2009][17:21 مكة المكرمة]


طالب المستشار محمود الخضيري رئيس حركة "مصريون من أجل انتخابات حرة" الشعب المصري، وعلى رأسه النخب، بالتحرك للدفاع عن حرية الوطن والمواطن، وتوسيع دائرة الإحساس بالمسئولية، حتى لو وصل الأمر إلى حدِّ التظاهر المنظَّم، بشرط عدم التعرض للممتلكات الخاصة أو العامة التي هي في الأصل ملكٌ للشعب المصري، مشيرًا إلى أنه ليس معهودًا على الشعب المصري تخريب الممتلكات.

وقال الخضيري خلال ندوةٍ عُقدت مساء أمس بحزب الجبهة في الإسكندرية تحت عنوان "لن نورَّث بعد اليوم": سفينة الوطن تغرق والموج يتلاعب بها فلا تتوقعوا التغيير بسهولة، موضحًا أن النظام الحالي يتعامل مع الشعب المصري، وكأنه يمنُّ عليه بحركته ومأكله ومشربه، ولسان حاله يقول: الشعب المصري ما يستاهلش أكتر من كده، في إشارةٍ منه إلى أن عصور عبد الناصر والسادات كانت أكثر عصور سُجن فيها أصحاب الرأي (من وجهة نظر النظام)، مشيرًا إلى أنه في حال الغرق سيكون النظام أول مَن يهرب وينجو من الغرق، كما فعل وزير النقل والمواصلات حين تمَّ إقالته ركب طائرته الخاصة وسافر إلى باريس.

وأضاف الخضيري أن القاضي يشعر بالإهانة كلما أصدر حكمًا ولم يتم تنفيذه، كما أنه يشعر بالقهر حينما تضرب الداخلية عرض الحائط بأحكام إخلاء السبيل وتقوم بإصدار قرارات اعتقال، محذرًا الأحزاب والقوى المعارضة من السكوت عن اعتقالات الإخوان؛ حيث إن الاعتقالات تطول الإخوان؛ لأنهم أكبر فصيل معارض ومنظم في الشارع المصري، وبالقضاء على الإخوان سيتحول النظام إلى اعتقال الأحزاب المعارضة بدلاً من الإخوان، وقال: على الأحزاب أن تعي هذه المكيدة جيدًا حتى لا تقول "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض".

وأشار إلى أن القاعدة التي يجب أن تعمل بها الأحزاب مع الإخوان هي "أنني قد أختلف معك في الرأي لكنني على استعدادٍ لدفع رقبتي ثمنًا لكي تقول رأيك بحرية"، كما طالب الأحزاب بأن تتعلم من نموذج الدكتور محمد السيد السعيد الذي حزن حزنًا شديدًا قبل موته على اعتقال الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وإخوانه، على الرغم من اختلاف توجهاتهما، فالأول يساري، والآخر من الإخوان المسلمين.

وحمَّل الخضيري الشعب المصري مسئوليةَ حماية صناديق الانتخابات في الأحياء ودوائر الانتخابات بالمحافظات المختلفة، وقال: "لو الانتخابات اللي جاية اتزورت زي اللي قبلها يبقى مصر مافيهاش رجالة"، موضحًا أن من نتائج ذلك أن يظل الشعب المصري على حاله الذي يعيش عليه لمدة خمس سنوات أخرى على الأقل، كما وجَّه النصيحةَ إلى الحضور، وطالب بنشرها بين الشعب المصري وترسيخها في الأذهان على أنها قاعدة، وهي عدم الشعور بالكراهية تجاه عساكر الأمن المركزي؛ لأنهم جزءٌ من الشعب، لكن في نفس الوقت عدم الشعور بالخوف منهم لأنهم في النهاية بشر.

من جانبه حمَّل عمار علي حسن الخبير بمركز دراسات الشرق الأوسط النخبَ المصريةَ سبب الحالة التي وصلَ إليها الشعب المصري، مشيرًا إلى أن النخبَ باعت الشعب، ومنها مَن ارتمى في أحضان النظام، وكذلك عمل النظام على استقطابهم لصالحه، كما أشار إلى أن التوريث أعاد الحضارة الديمقراطية إلى الوراء، كما أنه ضد التطور الطبيعي للإنسان وللحياة الإنسانية، مؤكدًا أن العالم يتحول من الملكية إلى الديمقراطية حتى في أعتى الدول الملكية أو على الأقل يحول نظامها إلى نظامٍ دستوري، ويصبح المنصب الملكي شرفيًّا في الوقت الذي تقوم فيه النظم العربية بالردة إلى الوراء وإعادة النظام الملكي المتمثل في التوريث، كما حدث في ليبيا وسوريا.

وأشار "عمار" إلى أن التوريثَ في مصر يعني استمرار التحالف الذي استقوى في ظلِّ النظام الحالي من العسكر ورجال الأمن واستمرار البيروقراطية وأصحاب الحظوة من رجال الأعمال، بالإضافةِ إلى وجود عددٍ من المنتفعين والإعلاميين، مشيرًا إلى أن هذا التحالف هو الذي يحمي الرئيس مبارك، وأن الحديثَ عن فكرٍ جديدٍ لمحاولةِ التسويق لجمال مبارك خداع وضحك على الشعب المصري؛ حيث إن جمال مبارك لم يعمل منفردًا أو يشق طريقًا آخر بخلاف الذي يتبعه النظام الحالي، وإنما يعمل من خلال نفس المنظومة والتحالف ويركن عليه.

وشدد عمار على رفض التوريث حرصًا على الأمن القومي المصري؛ حيث يتعمد النظام الحالي إلى تقديم التنازلات للكيان الصهيوني وللاحتلال الأمريكي وتنازلات أخرى خارجية، مؤكدًا أن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية لهما دور مهم في تمرير التوريث، بالإضافةِ إلى فقدان مصر كيانها ووجودها بدول إفريقيا وحوض النيل، وهو ما أدَّى إلى بداية ظهور مشكلات النيل، خاصةً بعد تزايد نفوذ الكيان الصهيوني في دول إفريقيا وابتعاد مصر عنهم.

الطريق إلى انتخابات حرة[28/07/2010][15:04 مكة المكرمة]


بقلم: د. عصام العريان
سؤال هذا الصيف الساخن- مناخًا وسياسةً- هو كيف نصل في مصر وبلادنا العربية إلى إنجاز انتخابات حرة سليمة ونزيهة؟

هذا السؤال الحائر منذ عقود يحتاج إلى تأمل وتفكير.
وبداية: ما أهمية الانتخابات الحرّة؟
إنها لبيان وتأكيد شرعية الحكم: رئيسًا وحكومةً.
فقد استقر الفقه الإسلامي على أن تولى الحكم إمامةً أو خلافةً أو رئاسةً، هو عقد من العقود، يكون الحاكم فيه وكيلاً وأجيرًا عن الأمة في تدبير شئونها.

فبيعة الحاكم قديمًا، وتوليته الرئاسة حديثًا، لا بد فيه من الرضا والاختيار من طرفي العقد، ككل العقود، إذ لا يصح عقد مع وجود إكراه أو إجبار، ومن باب أولى مع تزوير إرادة أحد الطرفين (وهو تزوير الانتخابات حاليًّا).

ولا يكفي شرعًا أن تتفق جماعة ضيقة من الأمة على تولية شخص ما، حتى ولو كانوا أهل الحل والعقد، بل يجب أن تحدث البيعة العامة للأمة، ويتحقق رضاها، وهذا ما دفع الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه للقول في أول خطاب له: (أيها الناس.. إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).

وعندما أراد استخلاف عمر رضي الله عنه، قال للصحابة: (أترضون بمن أستخلف عليكم؟) فلولا أهمية رضا الصحابة ما سألهم ذلك.

ولهذا أفتى مالك رضي الله عنه فتواه الشهيرة بأنه لا بيعة لمكره عندما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن ذو النفس الزكية عام 145هـ، على أبي جعفر المنصور.

والعلة في ذلك ليس فقط من أجل الاستقرار ومنع الفوضى، بل لتحقيق الحماية للأمة والمنعة لها؛ بحيث تقوم الأمة بالدفاع عن نفسها ضد أي تدخل خارجي يريد الاستيلاء على البلاد، أو لمنع أي فتنة داخلية تستهدف إحداث الفوضى، ومن باب أولى كي تلتف الأمة حول النظام الحاكم، فتقدم على العمل والإنتاج والبذل والتضحية فتتقدم وتزدهر الحياة ويشعر الجميع بالولاء والانتماء.

وعندما تفقد أنظمة الحكم شرعيتها أو تتآكل مع الزمن لغياب الرضا والقبول وانتشار الإكراه والتزوير فإننا نصل إلى ما وصلنا إليه من تدهور بالغ في تماسكنا الداخلي وتدني عمل الخدمات والمرافق، وشعور عام بالاغتراب وعدم الانتماء، وانتشار روح اللامبالاة والهروب من الالتزامات.

ونحن الآن على أبواب انتخابات تشريعية لمجلس الشعب ثم رئاسية لمنصب الرئيس بعد فاجعة تزوير انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى فإن السؤال الملح هو كيف ستعيد الأمة المصرية دورها لإثبات رضاها وقبولها أو لحجب ثقتها عن حزب يسيطر على الحكم بالتزوير أو لرئيس قادم يحتاج إلى التأييد لمواجهة تحديات ضخمة؟

والإجابة هي ضرورة إجراء الانتخابات القادمة (برلمانيةً ورئاسيةً) بنزاهة وحرية وشفافية تامة؟

وما الطريق إلى ذلك؟
أسهل الطرق وأقصرها هو: أن تتوافر إرادة سياسية جادة لدى النظام الحاكم، رئيسًا ونخبةً وقوًى مسيطرةً متغلبةً.

وهذا يستلزم منهم أن يدركوا خطورة الأوضاع الحالية، وأن يتم ذلك ليس فقط بنظام انتخابي سليم؛ بل يصحبه بالضرورة حياة سياسية حقيقية.

فيها تعددية حزبية تعبر عن التيارات المختلفة في الحياة المصرية والمصالح الجادة للشعب المصري تتنافس في مناخ حر على أصوات الناخبين مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تداول سلمي على السلطة في نظام دستوري محكم يمنع الانزلاق إلى الفوضى، ويسد الطريق على التدخل الأجنبي، ويحقق الاستقرار الآمن الذي يتيح للمواطنين العمل والإنتاج، ويحافظ على المقومات الأساسية للمجتمع المصري المتدين.

الطريق الثاني الأصعب هو أن تزداد الضغوط الشعبية وتتصاعد لإجبار النظام الحاكم على الرضوخ للمطالب الشعبية وإحداث التغيير والإصلاح؛ بحيث يتراجع عن عناده وإصراره أمام إرادة شعبية متماسكة وقوية وصلبة.

هذا الطريق يحتاج إلى عوامل لإنجاحه أهمها: الوعي الشعبي بأهمية التغيير وضرورته، وتماسك القوى الوطنية والمعارضة والنخب الفكرية الموجهة للجماهير، والتفافها حول قائمة مطالب محددة أساسية، وعزل النظام الفاسد وفضحه باستمرار لإجباره على التراجع أمام إرادة الشعب.

وهنا لا بد من الانتباه إلى منع المخاطر المترتبة على هذا الخيار وفي مقدمتها، حصول فوضى شعبية يستغلها المغامرون أو الفوضويون لقطع الطريق على الإرادة الشعبية، وكذلك منع التدخل الأجنبي الذي يتربص بالبلاد، وله فيها مصالح كبيرة يريد حمايتها.

وهنا أيضًا لا بد من العمل على منع كل عوامل التفرقة والتشرذم التي تفرّق الجماعة الوطنية، والحذر من التفاف النظام لتشتيت الأحزاب ودفعها إلى بيت الطاعة.

وتأتي أهمية "حملة التوقيعات" للمطالب السبعة التي وصلت إلى ما يزيد عن ربع مليون حتى الآن. لأنها تعبير عن طلب شعبي حقيقي حول الحد الأدنى من التوافق بين القوى السياسية.

الطريق الثالث الذي يستسيغه البعض ويستسهله هو استدعاء الأجانب لإزاحة نظام فاسد مستبد، وإحداث تغيير يبدأ بانتخابات جديدة، وينسى هؤلاء حقيقتين ماثلتين للعيان:
أولهما: أن الأجانب لهم مصالح يريدون حمايتها، ولا يهمهم من قريب أو بعيد تحقيق التغيير لصالح شعب من الشعوب، وبالتالي فإنهم سيرهنون مصالح الأمة لهؤلاء الأجانب.

ثانيهما: إن التجارب الماثلة للعيان في العراق وأفغانستان والسودان وغيرها، سواء بتدخل مباشر أو بضغوط خارجية؛ كانت ثمارها مرّةً وعلقمًا، وأدت في النهاية إلى تدمير تلك البلاد أو تفتيتها أو دخولها في نفق حروب أهلية.

يريد أنصار ذلك الطريق الثالث أن يستخدموا عدّة وسائل لتحقيق ذلك التدخل، أهمها نزع الشرعية عن نظام مستبد فاسد يستند في بقائه إلى دعم الأجانب وليس إلى إرادة الشعب؛ وذلك بمقاطعة هذا النظام وعزله.

هذه هي الطرق الثلاث المتاحة حاليًّا من أجل استهداف انتخابات حرة ونزيهة، يمكن تلخيصها في التالي:
- قبول النظام الحاكم بإعطاء ضمانات جادة لقدر معقول من نزاهة الانتخابات كبداية لإصلاح وتغيير.

- تصاعد الضغط الشعبي بقيادة معارضة متماسكة في تواصل لجهد موجود؛ لإجبار النظام على التراجع عن العناد والإصرار.

- إرسال رسالة للخارج؛ مفادها أن هذا النظام فقد الشرعية، وبالتالي لن يكون قادرًا على حماية المصالح الأجنبية.

وهنا تأتي أهمية الحوار السياسي والمجتمعي حول جدوى المشاركة أو المقاطعة في الانتخابات القادمة.

فإذا كان الأمل في قبول النظام لإصلاح وتغيير محدود جدًّا أو تلاشى مع الزمن، وإذا كان الاستناد إلى الخارج مرفوضًا قطعيًّا وبصورة حازمة؛ فإن البديل المتاح لنا جميعًا هو دفع الشعب إلى تصعيد ضغوطه على النظام بصورة سلمية.

وإذا كان البعض يتصور أن المقاطعة ستؤدي إلى عصيان مدني شامل، فهذا أمل ما زال بعيد المنال، ويحتاج من الجميع إلى جهد حقيقي في القرى والمدن والنجوع، وليس مجرد الحديث في الصحافة والفضائيات.

وإذا كان البعض يتصور أن المقاطعة يمكن أن تؤدي إلى تدخل أجنبي بعد عزل النظام سياسيًّا فهو لم يدرك حقيقة التحالفات القائمة بين النظم العربية وبين أمريكا وأوروبا من جهة، ولم يدرك بعد صورة الصفقات السرّية التي تمت مع أحزاب معارضة، وقد يستكملها النظام مع بقية الأحزاب بهدف عزل القوى الشعبية الرئيسية التي تعمل وسط الناس.

التحدي الحقيقي أمامنا الآن إذا شاركنا في الانتخابات هو كيف نحولها إلى أداة ضغط قوية من أجل الإصلاح الدستوري والسياسي لتغيير الأوضاع المأساوية التي وصلت إليها البلاد وضجّ منه العباد، وكيف نقاوم بكل السبل التزوير الذي يحدث لإرادة الأمة.

الأحد، 25 يوليو 2010

وقفات تربوية مع شهر شعبان



أيام مضت، وشهور انقضت، ودار التاريخ دورته، فأقبلت الأيام المباركة تبشِّر بقدوم شهر القرآن، وبين يدي هذا القدوم يهلُّ علينا شهر شعبان، مذكرًا جميع المسلمين بما يحمله لهم من خير، والمسلم يعلم أن شهر شعبان ما هو إلا واحد من شهور السنة ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ (التوبة: من الآية 36)؛ ولكن المسلم يشعر أن لشهر شعبان مذاقاً خاصاً فيفرح بقدومه ويستبشر به خيراً، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾ (يونس)، ومن هنا كانت تلك الوقفات التربوية مع هذا الشهر الكريم:

(1) مكانة الشهر:
هو الشهر الذي يتشعب فيه خير كثير؛ من أجل ذلك اختصَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة تفضِّله على غيره من الشهور، ولذلك يتميز شهر شعبان بأنه شهر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو الشهر الذي أحبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضَّله على غيره من الشهور، فقد روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله يصوم ولا يفطر حتى نقول: ما في نفس رسول الله أن يفطر العام، ثم يفطر فلا يصوم حتى نقول: ما في نفسه أن يصوم العام، وكان أحب الصوم إليه في شعبان).

ووقفتنا التربوية هنا: هل تحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، وهل تجد في نفسك الشوق لهذا الشهر كما وجده الحبيب؟، وهل تجعل حبك للأشياء مرتبطًا بما يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟؛ هو اختبار عملي في أن تحب ما يحب الله ورسوله "لا يؤمن أحدكم؛ حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به".

(2) عرض الأعمال:
وهو الشهر الذي فيه تُرفع الأعمال إليه سبحانه وتعالى؛ فقد روى الترمذي والنسائي عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ من حديث النبي صلي الله عليه وسلم: ".. وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إِلى رَبِّ العَالمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عملي وَأَنَا صَائِمٌ"؛ ففي هذا الشهر يتكرَّم الله على عباده بتلك المنحة العظيمة؛ منحة عرض الأعمال عليه سبحانه وتعالى، وبالتالي قبوله ما شاء منها، وهنا يجب أن تكون لنا وقفة تربوية؛ فإن شهر شعبان هو الموسم الختامي لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام، فبم سيُختم عامك؟ ثم ما الحال الذي تحب أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟ وبماذا تحب أن يرفع عملك إلى الله؟ هي لحظة حاسمة في تاريخ المرء، يتحدد على أساسها رفع أعمال العام كله إلى المولى تبارك وتعالى القائل: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر: من الآية 10)، فهل تحب أن يُرفع عملك وأنت في طاعة للمولى وثبات على دينه وفي إخلاص وعمل وجهاد وتضحية؟، أم تقبل أن يُرفع عملك وأنت في سكون وراحة وقعود وضعف همة وقلة بذل وتشكيك في دعوة وطعن في قيادة؟، راجع نفسك أخي الحبيب، وبادر بالأعمال الصالحة قبل رفعها إلى مولاها في شهر رفع الأعمال.

(3) الحياء من الله:
ففي الحديث السابق بُعْدٌ آخر يجب أن نقف معه وقفةً تربويةً، فالناظر إلى حال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في شعبان، يظهر له أكمل الهدي في العمل القلبي والبدني في شهر شعبان، ويتجسد الحياء من الله ونظره إليه بقوله: ".. وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"، ففي الحديث قمة الحياء من الله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يراه الله إلا صائمًا، وهذا هو أهم ما يجب أن يشغلك أخي المسلم، أن تستحي من نظر الله إليك، تستحي من نظره لطاعات قدمتها امتلأت بالتقصير، ولذلك قال بعض السلف: (إما أن تصلي صلاة تليق بالله جل جلاله، أو أن تتخذ إلهًا تليق به صلاتك)، وتستحي من أوقات قضيتها في غير ذكر لله، وتستحي من أعمال لم تخدم بها دينه ودعوته، وتستحي من همم وطاقات وإمكانيات وقدرات لم تستنفذها في نصرة دينه وإعزاز شريعته، وتستحي من قلم وفكر لم تسخره لنشر رسالة الإسلام والرد عنه، وتستحي من أموال ونعم بخلت بها عن دعوة الله، وتستحي من كل ما كتبته الملائكة في صحيفتك من تقاعس وتقصير، وتستحي من كل ما يراه الله في صحيفتك من سوءات وعورات، كل ذلك وغيره يستوجب منك أخي الحبيب الحياء من الله والخشية منه.

(4) مغفرة الذنوب:
فإن شهر شعبان هو شهر المنحة الربانية التي يهبها الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن لله في أيام دهركم أيامًا وأشهرًا يتفضَّل بها الله على عباده بالطاعات والقربات، ويتكرَّم بها على عباده بما يعدُّه لهم من أثر تلك العبادات، وهو هديةٌ من رب العالمين إلى عباده الصالحين؛ ففيه ليلة عظيمة هي ليلة النصف من شعبان، عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم شأنها في قوله: "يطِّلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلاَّ لمشرك أو مشاحن"، هي فرصة تاريخية لكل مخطئ ومقصر في حق الله ودينه ودعوته وجماعته، وهي فرصة لمحو الأحقاد من القلوب تجاه إخواننا، فلا مكان هنا لمشاحن وحاقد وحسود؛ وليكن شعارنا جميعًا قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر: من الآية 10)، قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة، وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو، وهي فرصة لكل من وقع في معصية أو ذنب مهما كان حجمه، هي فرصة لكل من سولت له نفسه التجرؤ على الله بارتكاب معاصيه، هل فرصة لكل مسلم قد وقع في خطأ "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" هي فرصة إذًا لإدراك ما فات، وبدء صفحة جديدة مع الله تكون ممحوة من الذنوب وناصعة البياض بالطاعة.

(5) سنة نبوية:
شعبان هو شهر الهَدْي النبوي والسنة النبوية في حب الطاعة والعبادة والصيام والقيام؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان)، وفي رواية عن النسائي والترمذي، قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان، كان يصومه إلا قليلاً، بل كان يصومه كله)، وفي رواية لأبي داود، قالت: (كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان)، وهذه أم سلمة رضي الله عنها تقول: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان)، ومن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (وكان أحب الصوم إليه في شعبان)، ولشدة معاهدته صلى الله عليه وسلم للصيام في شعبان قال ابن رجب: (إن صيام شعبان أفضل من سائر الشهور)، قال ابن حجر: (في الحديث دليل على فضل الصوم في شعبان)، وقال الإمام الصنعاني: (وفيه دليل على أنه يخص شهر شعبان بالصوم أكثر من غيره)، وذكر العلماء في تفضيل التطوع بالصيام في شهر شعبان على غيره من الشهور "أن أفضل التطوع ما كان قريبًا من رمضان قبله وبعده؛ وذلك يلتحق بصيام رمضان؛ لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض، والوقفة التربوية هنا كم يومًا تنوي صيامه من هذا الشهر اقتداءً بالحبيب".

(6) نوافل الطاعات:
إذا كان شعبان شهرًا للصوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو شهر لنوافل الطاعات كلها، ينطلق فيه المسلم من حديث: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"، ولما كان شعبان كالمقدّمة لرمضان؛ فإنه يكون فيه شيء مما يكون في رمضان من الصيام وقراءة القرآن والصدقة، فهو ميدان للمسابقة في الخيرات والمبادرة للطاعات قبل مجيء شهر الفرقان، فأروا الله فيه من أنفسكم خيرًا.

(7) السقي السقي:
نعم هو شهر السقي والتعهد والتفقد لما قام به المسلم في سابق أيامه؛ حتى يجني الحصاد بعده، قال أبو بكر البلخي: (شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع)، وقال أيضًا: (مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر)، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان، ولذلك كان تسابق السلف الصالح على هذا الأمر واضحًا، قال سلمة بن كهيل كان يُقال: شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرَّغ لقراءة القرآن، فأدرك زرعك أخي الحبيب في شهر شعبان، وتعهده بالسقي وتفقده ألا يصاب بالجفاف.

(8) غفلة بشرية:
شهر شعبان هو الشهر الذي يغفل الناس عن العبادة فيه؛ نظرًا لوقوعه بين شهرين عظيمين؛ هما: رجب الحرام ورمضان المعظم، وفيه قال الحبيب: "ذلك شهر يغفل عنه الناس"، وقد انقسم الناس بسبب ذلك إلى صنفين:

صنف انصرف إلى شهر رجب بالعبادة والطاعة والصيام والصدقات، وغالى البعض وبالغ في تعبده في رجب؛ حتى أحدثوا فيه من البدع والخرافات ما جعلهم يعظمونه أكثر من شعبان.

والصنف الآخر لا يعرفون العبادة إلا في رمضان، ولا يقبلون على الطاعة إلا في رمضان، فأصبح شعبان مغفولاً عنه من الناس، واشتغل الناس بشهري رجب ورمضان عن شهر شعبان، فصار مغفولاً عنه؛ ولذلك قال أهل العلم: هذا الحديث فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عزَّ وجلَّ، وقد كان بعض السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة، فهي دعوة لوقفة مع النفس، هل صرنا من الغافلين عن شهر شعبان وفضله؟ وهل أدركتنا الغفلة بمعناها المطلق؟ هي وقفة تربوية نقيم فيها أنفسنا ومدى تملك الغفلة منا، ونعرض فيها أنفسنا على قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ (الكهف: من الآية 28)، وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 205) ،وقوله تعالى﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 179) سلَّمنا الله وإياكم من الغفلة ومضارها، وجعلنا وإياكم من أهل طاعته على الدوام.

(9) اطرقوا أبواب الجنان:
فإن شهر شعبان بمثابة البوابة التي تدخلنا إلى شهر رمضان؛ ولأن رمضان هو شهر تفتح فيه أبواب الجنة، كما أخبرنا الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين" (البخاري)، فأين المشمرون عن السواعد؟!

أين المشتاقون إلى لقاء الله؟! أين المشتاقون إلى الجنة؟! ها هي الجنة تنادي أنا أصبحت عند أبوابكم، ففي شهر شعبان مجال طرق الأبواب، بكل وسائل الطرق المتاحة، فاطرقوا أبواب الجنان بالتوبة والاستغفار والإنابة إلى الله واللجوء إليه، واطرقوا أبواب الجنان بالتضرع والوقوف على أعتاب بابه مرددين: (لن نترك بابك حتى تغفر لنا)، واطرقوا أبواب الجنان بالصيام والقيام والصلاة بالليل والناس نيام، واطرقوا أبواب الجنان بالطاعات والقربات وبالإلحاح في الدعاء؛ فإن أبا الدرداء كان يقول: (جِدوا بالدعاء، فإنه من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له)، هي دعوة للتحفز والاستعداد والتهيؤ بالوقوف على العتبات والأعتاب؛ لعله يفتح عن قريب فترى نور الله القادم من شهر القرآن.

(10) دورة تأهيلية لرمضان:
شهر شعبان هو شهر التدريب والتأهيل التربوي والرباني؛ يقبل عليه المسلم ليكون مؤهلاً للطاعة في رمضان، فيقرأ في شهر شعبان كل ما يخص شهر رمضان ووسائل اغتنامه، ويجهِّز برنامجه في رمضان، ويجدول مهامه الخيرية، فيجعل من شهر شعبان دورة تأهيلية لرمضان، فيحرص فيها على الإكثار من قراءة القرآن والصوم وسائر العبادات، ويجعل هذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس بمثابة دفعة قوية وحركة تأهيلية لمزيد من الطاعة والخير في رمضان؛ فهو دورة تأهيلية لصيام رمضان؛ حتى لا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرَّن على الصيام واعتاده، ووجد في صيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذَّته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط، وحتى يتحقَّق هذا الأمر؛ فهذا برنامج تأهيلي تربوي يقوم به المسلم في شهر شعبان استعدادًا لشهر رمضان المبارك:

أ- التهيئة الإيمانية التعبدية:
- التوبة الصادقة أولاً، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي وترك المنكرات، والإقبال على الله، وفتح صفحة جديدة بيضاء نقية.

- الإكثار من الدعاء "اللهم بلغنا رمضان"؛ فهو من أقوى صور الإعانة على التهيئة الإيمانية والروحية.

- الإكثار من الصوم في شعبان؛ تربيةً للنفس واستعدادًا للقدوم المبارك، ويفضَّل أن يكون الصوم على إحدى صورتين: إما صوم النصف الأول من شعبان كاملاً، وإما صوم الإثنين والخميس من كل أسبوع مع صوم الأيام البيض.

- العيش في رحاب القرآن الكريم، والتهيئة لتحقيق المعايشة الكاملة في رمضان؛ وذلك من خلال تجاوز حد التلاوة في شعبان لأكثر من جزء في اليوم والليلة، مع وجود جلسات تدبُّر ومعايشة القرآن.

- تذوَّق حلاوة قيام الليل من الآن بقيام ركعتين كل ليلة بعد صلاة العشاء، وتذوَّق حلاوة التهجد والمناجاة في وقت السحَر بصلاة ركعتين قبل الفجر مرةً واحدةً في الأسبوع على الأقل.

- تذوَّق حلاوة الذكر، وارتع في "رياض الجنة" على الأرض، ولا تنسَ المأثورات صباحًا ومساءً، وأذكار اليوم والليلة، وذكر الله على كل حال.

ب- التهيئة العلمية:
- قراءة أحكام وفقه الصيام كاملاً (الحد الأدنى من كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق)، ومعرفة تفاصيل كل ما يتعلق بالصوم، ومعرفة وظائف شهر رمضان، وأسرار الصيام (من كتاب إحياء علوم الدين)، وقراءة تفسير آيات الصيام (من الظلال وابن كثير).

- قراءة بعض كتب الرقائق التي تعين على تهيئة النفس (زاد على الطريق، المطويات الجديدة التي تَصدر قُبيل رمضان من كل عام).

- الاستماع إلى أشرطة محاضرات العلماء حول استقبال رمضان، والاستعداد له، ومنها شرائط أ. عمرو خالد، وشريط روحانية صائم للشيخ الدويش، وغيره من العلماء.

- مراجعة ما تم حِفْظُه من القرآن الكريم؛ استعدادًا للصلاة في رمضان، سواءٌ إمامًا أو منفردًا، والاستماع إلى شرائط قراءات صلاة التراويح، مع دعاء ختم القرآن.

ج- التهيئة الدعوية:
- إعداد وتجهيز بعض الخواطر والدروس والمحاضرات والخطب الرمضانية والمواعظ والرقائق الإيمانية والتربوية للقيام بواجب الدعوة إلى الله خلال الشهر الكريم.

- حضور مجالس العلم والدروس المسجدية المقامة حاليًّا؛ استعدادًا لرمضان والمشاركة فيها، حضورًا وإلقاءً.

- العمل على تهيئة الآخرين من خلال مكان الوجود- سواءٌ في العمل أو في الدراسة- بكلمات قصيرة ترغِّبهم بها في طاعة الله.

- إعداد هدية رمضان من الآن لتقديمها للناس دعوةً وتأليفًا للقلوب، وتحبيبًا في طاعة الله والإقبال عليه؛ بحيث تشمل بعضًا مما يلي (شريط كاسيت- مطوية- كتيب- ملصق.. إلخ).

- إعداد مجلة رمضان بالعمارة السكنية التي تسكن بها؛ بحيث تتناول كيفية استقبال رمضان.

- الإعداد والتجهيز لعمل مسابقة حفظ القرآن في مكان الوجود.

د- التهيئة الأسرية:
- تهيئة مَن في البيت من زوجة وأولاد لهذا الشهر الكريم، وكيفية الاستعداد لهذا الضيف الكريم، ووضع برنامج لذلك.

- الاستفادة من كتاب (بيوتنا في رمضان)، وكتيب (الأسرة المسلمة في شهر القرآن) - ممارسة بعضٍ من التهيئة الإيمانية السابقة مع الأسرة.

- عقد لقاء إيماني مع الأسرة يكون يوميًّا بقدر المستطاع.

هـ- تهيئة العزيمة بالعزم على:

- فتح صفحة جديدة مع الله.

- جعل أيام رمضان غير أيامنا العادية.

- عمارة بيوت الله، وشهود الصلوات كلها في جماعة، وإحياء ما مات من سنن العبادات، مثل (المكث في المسجد بعد الفجر حتى شروق الشمس، المبادرة إلى الصفوف الأولى وقبل الأذان بنية الاعتكاف.. إلخ).

- نظافة الصوم مما يمكن أن يلحق به من اللغو والرفث.

- سلامة الصدر.

- العمل الصالح في رمضان، واستحضار أكثر من نية من الآن، ومن تلك النيات: (نية التوبة إلى الله، نية فتح صفحة جديدة مع الله، نية تصحيح السلوك وتقويم الأخلاق، نية الصوم الخالص لله، نية ختم القرآن أكثر من مرة، نية قيام الليل والتهجد، نية الإكثار من النوافل، نية طلب العلم، نية نشر الدعوة بين الناس، نية السعي إلى قضاء حوائج الناس، نية العمل لدين الله ونصرته، نية العمرة، نية الجهاد بالمال... إلخ).

ذ- التهيئة الجهادية: وهي تحقيق معنى "مجاهدًا لنفسه"؛ وذلك من خلال:
- منع النفس من بعض ما ترغب فيه من ترف العيش، والزهد في الدنيا وما عند الناس، وعدم التورط في الكماليات من مأكل ومشرب وملبس، كما يفعل العامة عند قدوم رمضان.

- التدريب على جهاد اللسان فلا يرفث، وجهاد البطن فلا يستذل، وجهاد الشهوة فلا تتحكم، وجهاد النفس فلا تطغى، وجهاد الشيطان فلا يمرح، ويُرجع في ذلك إلى كتيب (رمضان جهاد حتى النصر) لـ"خالد أبو شادي".

- حَمْلُ النفس على أن تعيش حياة المجاهدين، وتدريبها على قوة التحمُّل والصبر على المشاقِّ، من خلال التربية الجهادية المعهودة.

- ورد محاسبة يومي على بنود التهيئة الرمضانية.

شهر شعبان نفحة ربانية وانطلاقة إيمانية




ورد في الخبر:"إِنَّ لِرَبِّكُم في أيَّامِ دَهْرِكُم لَنَفَحَاتٍ، أَلاَ فَتَعَرَّضُوا لَهَا".. تمر الشهور والأيام وتتوالى النفحات والرحمات من رب العالمين، وتظلنا في هذه الأيام نفحة ربانية عظيمة؛ بل لو أردنا الدقة لقلنا: إنها ليست نفحة واحدة إنما نفحات ونفحات.

إنه شهر شعبان، مفتاح الخير والفضل، وبداية موسم الطاعات والخيرات، والاستعداد للنفحات الكبرى التي تأتي من بعده في الشهر المبارك شهر رمضان.

فضل شهر شعبان
عن أسامة بن زيد- رضي الله عنهما- قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ:"ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النّاسُ عَنْهُ بَــيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ" (رواه النسائي وصححه ابن خزيمة).

ويُستفاد من هذا الحديث عدة أمور مُهمَّة:
1- حرص الصحابة- رضوان الله عليهم- على معرفة الخير: فالصحابة الكرام كانوا يترقبون أفعال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حرصًا على الاقتداء به في أفعاله وأحواله، والصحابي الجليل هنا قد لاحظ أنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُكثر من صيام شهر شعبان؛ فاستنبط الصحابي أنَّ وراء هذا الحرص من النبي- صلى الله عليه وسلم- شيئًا من الخيرِ يريد الصحابي أن يتعلمه، فيبادر بالحديث دونما خجلٍ أو خوف، وإنما حرص على الخير، فيجيبه النبي- صلى الله عليه وسلم- ويدله على الخيرِ ويخبره عن سببِ كثرةِ صيامه، ويفصل له في الأمر.

2- وقوله صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ"؛ يُشير إلى أنه قد سبقه شهر رجب وهو من الأشهر الحرم ويتبعه شهر رمضان وهو شهر الصيام والقرآن وشهر الخيرات والبركات، فالشهر الذي يسبقه والشهر الذي يتبعه شهران عظيمان يهتم الناس بهما لفضلهما، وقد يشتغل الناس بهما عنه، فيصير شهر شعبان شهرًا مغفولاً عنه، وكثير من الناس يظن أنَّ صيام رجب أفضل من صيامِ شعبان؛ لأنَّ رجب شهر حرام، وليس الأمر كذلك.

3- وفي الحديث دليل على استحبابِ عِمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة، ومثل هذا استحباب ذكر الله تعالى في السُّوق؛ لأنه ذِكْرٌ في موطن الغفلة بين أهل الغفلة، وانظر أخي الكريم لعظم أجر العبادة في وقت الغفلة، فعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه؛ أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:"مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فقالَ: لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي ويُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: كَتبَ اللَّهُ لَهُ ألْفَ ألْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ ألْفَ ألْفِ سَيِّئْةٍ، وَرَفَعَ لَهُ ألْفَ ألْفِ دَرَجَة". (رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين من طرق كثيرة، وزاد فيه في بعض طرقه: "وَبَنَى لَهُ بَيْتاً في الجَنَّةِ"، وفي إحياءِ الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها:

- أن يكون أخفى للعمل وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام فإنه سِرٌّ بين العبد وربه، ولهذا قيل إنه ليس فيه رياء، وكان بعض السلف يصوم سنين عددًا لا يعلم به أحد، فكان يخرج من بيته إلى السوق ومعه رغيفان فيتصدَّق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته، وكان السلفُ يستحبون لمَن صام أن يُظهر ما يُخفي به صيامه، فعن ابن مسعود أنه قال: "إذا أصبحتم صيامًا فأصبِحوا مدَّهنين"، وقال قتادة: يُستحب للصائمِ أن يدَّهِن حتى تذهب عنه غبرة الصيام.

- وكذلك فإنَّ العملَ الصالح في أوقات الغفلة أشقُّ على النفوس، ومن أسباب أفضلية الأعمال مشقتها على النفوس؛ لأنَّ العمل إذا كَثُر المشاركون فيه سهُل، وإذا كثرت الغفلات شَقَّ ذلك على المُتيقظين، وعند مسلم من حديث مَعْقِلِ بن يَسَارٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ، كَهِجْرَةٍ إِلَيّ"، أي العبادة في زمنِ الفتنة؛ لأن الناس يتبعون أهواءهم فيكون المتمسك يقوم بعمل شاق، وقد ذكر الإمام النَّوويّ في شرحه لهذا الحديث قال: "المراد بالهَرْج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أنَّ الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد".

واجبات عملية في شعبان
1- الصوم: فقد كان شهر شعبان من أحبِّ الشهور لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصوم فيه، ففي روايةٍ لأبي داود عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "كَانَ أحَبَّ الشّهُورِ إلَى رَسُولِ الله- صلى الله عليه وسلم- أنْ يَصُومَهُ شَعْبَانُ ثُمّ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ". صحَّحَه الألبانيّ انظر صحيح سنن أبي داود، ‏وإنَّ من الاقتداء برسولنا صلى الله عليه وسلم أن نحب ما أحبه رسول الله.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ رسولُ اللهِ يَصُومُ حتى نقول: لا يُفْطِر، ويُفْطِر حتى نقول: لا يَصُوم، وما رأيتُ رسولَ اللهِ استَكْمَلَ صِيامَ شَهْرٍ إلاَّ رمضانَ، وما رَأيتُه أكثر صيامًا منه في شعبان" (رواه البخاري ومسلم) وفي رواية لمسلم:"كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاّ قَلِيلاً"، وقد رَجَّحَ طائفة من العلماء منهم ابن المبارك وغيره أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره، ويشهد له ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"مَا عَلِمْتُهُ- تعني النبي صلى الله عليه وسلم- صَامَ شَهْرًا كُلَّهُ إِلاّ رَمَضَانَ"، وفي رواية له أيضًا عنها قالت: "مَا رَأيتُهُ صَامَ شَهْرَاً كَامِلاً مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رمضان"، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: "مَا صَامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرَاً كَامِلاً غَيْرَ رَمَضَان"، وكان ابن عباس يكره أن يصوم شهرًا كاملاً غير رمضان، قال ابنُ حَجَر رحمه الله: كان صيامه في شعبان تَطَوَّعًا أكثر من صيامه فيما سواه وكان يصوم معظم شعبان.

‏وللصيام عامة فضلٌ كبيرٌ وجزاء عظيم فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ- رَضِيَ اللّهُ عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ- صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللّهِ إِلاّ بَاعَدَ اللّهُ، بِذَلِكَ الْيَوْمِ، وَجْهَهُ عَنِ النّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا"، متفق عليه، وقد روى الإمام أحمد في مسنده ‏عَنْ ‏عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:"الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ".

وكذلك من فوائد صوم شعبان أنَّ صيامه كالتمرين على صيامِ رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرَّن على الصيام واعتاده فيدخل رمضان بقوة ونشاط.

أفضل الأعمال الصلاة على وقتها

2- المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة: وقد تعددت الأحاديث التي ذكرت لنا فضل المحافظة على صلاة الجماعة والترهيب من تركها مع القدرة عليها، فعن ابن عمر- رَضيَ اللَّهُ عَنهُ- أن رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم- قال: "صَلاةُ الجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِن صَلاَةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَة" (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ) والفَذّ أي المنفرد، يقال: فَذَّ الرجل من أصحابه إذا بَقِيَ منفردًا وحده، ‏وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: مَنْ سَرّهُ أَنْ يَلْقَى الله غَداً مُسْلِماً فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنّ، فَإِنّ الله شَرَعَ لِنَبِيّكُمْ- صلى الله عليه وسلم- سُنَنَ الْهُدَىَ وَإِنّهُنّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَىَ، وَلَوْ أَنّكُمْ صَلّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلّي هَذَا الْمُتَخَلّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنّةَ نَبِيّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنّةَ نَبِيّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهّرُ فَيُحْسِنُ الطّهُورَ ثُمّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلاّ كَتَبَ الله لَهُ بِكلّ خَطْوَةٍ يَخْطوَها حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطّ عَنْهُ بِهَا سَيّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلّفُ عَنْهَا إِلاّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرّجُلُ يُؤْتَىَ بِهِ يُهَادَىَ بَيْنَ الرّجُلَيْنِ حَتّى يُقَامَ فِي الصّفّ"، وفي شرح الحديث يقول الإمام النووي: "ومعنى يُهَادَى أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما"، وفي هذا كله تأكيد أمر الجماعة وتحمل المشقة في حضورها، وأنه إذا أمكن المريض ونحوه التوصل إليها استحب له حضورها. والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

3- قراءة القرآن وختمه وحفظه ومراجعته: وهذا من أعظم أبواب الخير، وله من الفضل والأجر الكبير عند الله عزَّ وجل، فعن عَبْدِ الله بنَ مَسْعُودٍ قال: قالَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ حَرْفَاً مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لاَ أَقُولُ آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْف ولامٌ حَرْفٌ وَميمٌ حَرْفٌ"، رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

القرآن الكريم منهجنا في الحياة

ولمَّا كان شعبان كالمُقَدِّمة لرمضان فإنه يكون فيه شيء مما يكون في رمضان من الصيام وقراءة القرآن والصدقة، قال سلمة بن سهيل كان يقال: شهر شعبان شهر القُرَّاء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القُرَّاء، وكان عمرو بن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرَّغ لقراءة القرآن.

4- الدعاء لقبلة المسلمين الأولى: ففي شهر شعبان كان تحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة: من الآية 144)، ولا أقل ونحن نرى ما يحدث للمسجد الأقصى أولى القبلتين أن نتذكره ولو بالدعاء أن يعيده الله لنا وأن يحرره من أيدي اليهود المغتصبين.

5- التعود على قيام الليل: فكثير من المسلمين لا يحرص على قيام الليل إلا في رمضان، ومَن يحرص عليها في رمضان يجد في الحرص عليها مشقة كبيرة، وأرى أنَّ سبب ذلك هو عدم التعود على القيام في غير شهر رمضان، وحين تُفاجئنا صلاة القيام في رمضان نجد مشقةً كبرى في المحافظة عليها، ولو أنَّ أجسامنا تعودت قبل رمضان وطوال العام على صلاة القيام مَا وجدنا مشقةً في المحافظة عليها في رمضان، فلا أقل من أن تحرص على صلاة القيام في شعبان من باب التعود على القيام قبل رمضان، ولو بركعتين خفيفتين في جوف الليل، وإن لم يكن فبعد صلاة العشاء أو قبل النوم، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن القَاسِم بن مُحَمَّد عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَىَ الله تَعَالَىَ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلّ"، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذَا عَمِلَتِ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ.


6- إصلاح ذات البَيْن: فكما سبق في الحديث أنَّ شهر شعبان هو الشهر الذي تُعرض فيه الأعمال على الله عزَّ وجل، فأَحَبَّ النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- أن يكون على حالة من الطاعة وقت عرض الأعمال على رب العالمين، وهذا فيه لَفْتٌ لأنظار الأمة من بعده في هذا الشهر الكريم أن يحاول المسلم أن يكون على أكمل حال من الطاعة في شهر شعبان وقت عرض الأعمال على الله عزَّ وجل، وهذا مدعاة أن ينظر الله إليه نظرة رحمة ومغفرة إن كان من تقصير في أعماله المعروضة على رب العالمين، ولا شك أن إصلاح ذات البين وإنهاء الخصومات من أكبر الطاعات المطلوبة خصوصًا في هذا الشهر الكريم؛ وذلك لما لها من فضل كبير، فعَنْ ‏أَبِي الدَّرْدَاءِ ‏قَالَ: ‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:"‏أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ"؟. قَالُوا: بَلَى. قَالَ: "صَلاحُ ‏ ‏ذَاتِ الْبَيْنِ؛ ‏فَإِنَّ فَسَادَ ‏ذَاتِ الْبَيْنِ ‏هِيَ الْحَالِقَةُ" (رواه الترمذي)، وقال: ‏هَذَا ‏حَدِيثٌ صَحِيحٌ، ‏‏وَيُرْوَى عَنْ ‏ ‏النَّبِيِّ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏أَنَّهُ قَالَ:"‏هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ"، وفي تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي يقول: ‏"قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْحَالِقَةُ الْخَصْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْلِقَ أَيْ تُهْلِكَ وَتَسْتَأْصِلَ الدِّينَ، كَمَا يَسْتَأْصِلُ الْمُوسَى الشَّعْرَ، وَقِيلَ هِيَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَالتَّظَالُمُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ حَثٌّ وَتَرْغِيبٌ فِي إِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَاجْتِنَابٌ عَنْ الإِفْسَادِ فِيهَا؛ لأَنَّ الإِصْلاحَ سَبَبٌ للاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ ثُلْمَةٌ فِي الدِّينِ، فَمَنْ تَعَاطَى إِصْلاحَهَا وَرَفْعَ فَسَادِهَا نَالَ دَرَجَةً فَوْقَ مَا يَنَالُهُ الصَّائِمُ الْقَائِمُ الْمُشْتَغِلُ بِخُوَيْصِّةِ نَفْسِهِ"، فلا يصح أخي الكريم أن تأخذ في البناء في شهر شعبان من الأعمال الصالحة ثم يأتي ما ينقص من هذه الأعمال أو يأتي عليها من فساد ذات البَيْنِ بينك وبين أحد من المسلمين عامة أو من الأرحام خاصة.

ويكفي أن تعلم أخي الكريم خطر أمر الخصام والشحناء والبغضاء بين المسلمين في حديث رواه الإمام مسلم ‏عَنْ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏قَالَ: "‏تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ ‏الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ ‏فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا ‏‏هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، ‏أَنْظِرُوا ‏هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"، وفي رواية للإمام مسلم أيضًا: "‏تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ"، فالحديث يوضح أنَّ مغفرة الذنوب وقت عرض الأعمال على الله عزَّ وجل قد يؤخرها فساد ذات البَيْنِ والخصام والشحناء والبغضاء، وشهر شعبان هو وقت عرض أعمال السنة كلها على الله عزَّ وجل فينبغي أن نبتعد فيه عن كل ما يؤخر مغفرة الذنوب، وأيُّ خصامٍ وأيُّ شحناء تستحق أن تتأخر مغفرة الله لذنوبنا بسببها؟!.

ونحن مُقبِلُون بعد ذلك على شهر رمضان وما أجمل أن نستقبل هذا الشهر المبارك بصدر رحبٍ خالٍ من الشحناء والبغضاء والخصام، بصدرٍ مملوء بالحب والخير لكل الناس.فليكن شهر شعبان فرصة وبداية لإصلاح ما فسد بيننا وبين الناس.

سباق إلى الخيرات
يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 133)، ويقول تعالى:﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (الحديد: 21) ويقول تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 148) إنه سباق إلى الخيرات في شهر شعبان، الكل يسارع إلى مغفرةٍ الله ورحمته في هذا الشهر الكريم، الكل يفتح صفحة جديدة يكون أولها خير وطاعة مع رب العالمين، فلتبدأ هذه الصفحة في شعبان ثم تعلو في رمضان وتستمر طوال الأيام، فلا تحرم نفسك أخي الكريم من هذا الخير والفضل الكبير وسارع وبادر إلى هذه النفحات الربانية والانطلاقة الإيمانية في هذا الشهر الكريم.

أهلاً مواسم الخيرات


مع نسمات شهري رجب وشعبان، ومن بعدهما رمضان تهب رياح الخير- وهي لا تنقطع أبدًا- على النفوس المؤمنة؛ فتوقظ فيها مشاعر الإيمان والتقوى، وتشد عزائم الطاعة والعبادة، وتنهض إرادات التغير؛ تغير النفس والقلب والضمير, وتغير الحال من التقصير والضعف إلى الحركة والعمل، ومن الكسل والتراخي إلى النهوض والعزيمة، فتتغير النفس، وتتغير الحياة، وتتنزل الرحمات من الله تعالى, ويختار الله من عباده من استعد لاغتنام مواسم الخير وأيام العبادة وليالي القرب من الله؛ فأعد عدته، وشحذ همته، وجدَّد نيته، واغتنم الفرصة، ونادى على نفسه، وقال: إني لأجد ريح الجنة دون شعبان ومن بعده رمضان.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها؛ لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدًا"، (رواه الطبراني في الأوسط والكبير).

فكثير من النفوس تنتظر مثل هذه اللحظات الإيمانية لتركب مع قافلة الخير التي تسير إلى الله تعالى, وهذه الأيام المباركة بما فيها من صيام، وقيام، وتلاوة للقرآن، وتدبر فيه، ونزول الرحمات من السماء؛ هي أيام سير إلى الله تعالى- والسير إلى الله يكون بالقلب- كما قال يحيى بن معاذ: (إنما السير سير القلوب؛ تقطع مفاوز الدنيا بالأقدام، وتقطع مفاوز الآخرة بالقلوب).

وشهر شعبان من الشهور التي اهتمَّ بها الإسلام ورسول الإسلام، وخصَّها بنوع من العبادات؛ مثل الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن؛ وذلك لفضل هذا الشهر الكريم ومكانته عند الله تعالى، وذلك لأنه:

السيد دويدار

1- شهر يقع بين رجب ورمضان؛ ورجب من الأشهر الحرم التي تؤدَّى فيها غالبًا العمرة وزيارة البيت الحرام، فأمَّنَ الله الناس ليوأدوا هذه الشعيرة، ورمضان هو شهر الصيام والقيام والقرآن، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلفت النفوس إلى مكانة هذا الشهر، فقال صلى الله عليه وسلم- وهو يعلِّل كثرة صيامه في هذا الشهر لمن سأله-: ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان, وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عزَّ وجلَّ, فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"، (رواه الإمام أحمد وحسَّنه الألباني في صحيح النسائي).

2- شهر ترفع فيه الأعمال؛ فهو ختام عمل عام قد مضى يرفع فيه هذا العمل إلى الله تعالى, والأعمال ترفع كل يوم مع الفجر ومع العصر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار, فيجتمعون في صلاة الصبح, وصلاة العصر, فيسأل الذين باتوا فيكم- وهو أعلم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون, وتركناهم وهم يصلون" (رواه البخاري).

وكذلك تعرض الأعمال على الله مرتين في الأسبوع في يومي الإثنين والخميس، قال صلى الله عليه وسلم: "تُعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس؛ فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم" (رواه الترمذي وصححه الألباني).

وكذلك تعرض أعمال السنة على الله في شهر شعبان من كل عام، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: "وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عزَّ وجلَّ".

فالمسلم يقف مع نفسه وقفة تأمل وتدبر مع رفع الأعمال إلى الله في هذا الشهر الكريم، فهو نهاية عام من الطاعة والعبادة، وكذلك بداية عام جديد ينبغي فيها- أي الوقفة- إجابة داعي الخير، وتلبية نداء الحق من أجل تزكية النفس وتطهير القلب، وتنقية الفؤاد من سوى الله، ونشر دعوة الخير بين الخلق، وفتح صفحات جديدة في سجل الحق؛ لتسطر فيها الحسنات، وتمحى من غيرها السيئات.

3- مقدمة لشهر رمضان؛ فتستعد فيه النفوس لاستقبال نفحات الله في شهر القرآن والصيام والقيام، وتزحف فيه عوامل التقوى إلى القلب، وتجتمع فيه جنود الحق لمقاومة أعداء الخير, ولذلك تأخذ المقدمة حكم ما بعدها, فيأخذ شعبان حكم فضل رمضان عندما يكون نقطة استعداد له.

ولذلك أقترح هذا البرنامج ليكون نقطة بداية وانطلاق لاغتنام مواسم الخير، ويتناول:
1) عقد النية وإخلاص الوجهة وشحذ الهمة, فهمُّك على قدر ما أهمك.

بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العز في نيل الفرص
فابتدر مسعاك واعلم أن من بادر الصيد مع الفجر قنص
لا بد من اغتنام الفرصة، وعدم تضييع الوقت، فالعمر قصير، والعاقل من أدرك حق الله عليه في مثل هذه الأيام، يقول ابن القيم رحمه الله: (أعظم الربح أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها، وانفع لها في معادها).

2) تقديم التوبة؛ فالتوبة كما يقول ابن القيم رحمه الله: (نهاية كل عارف، وغاية كل سالك, وكما أنها بداية فهي نهاية. والحاجة إليها في النهاية أشد من الحاجة إليها في البداية. بل هي في النهاية محل الضرورة).

والتوبة هي أول طريق الصلاح والإصلاح. قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)﴾ (طه).

وهي توبة عملية تدعو صاحبها إلى العمل من أجل إصلاح نفسه ودعوة الآخرين وإصلاحهم، يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى- وهو يتحدث حول صفات المؤمنين في سورة التوبة ﴿التَّائِبُونَ﴾ (التوبة: من الآية 112)-: والتوبة شعور بالندم على ما مضى، وتوجه إلى الله فيما بقي، وكف عن الذنب، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل، كما يحققها بالترك، فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح... توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح.

3) الإقبال على القرآن تلاوةً وحفظًا ومراجعةً وتدبرًا: قال ابن رجب رحمه الله: (ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن؛ ليحصل التأهب لتلقي رمضان, وتعتاد النفوس بذلك على طاعة الرحمن. وروينا بإسناد ضعيف عن أنس, قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف فقرأوها.

وقال سلمة بن كهيل: كان يقال: (شهر شعبان شهر القراء). وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: "هذا شهر القراء".

فلنقبل على القرآن مراجعةً واستعدادًا للصلاة به في شهر القرآن شهر رمضان.

4) صيام الإثنين والخميس؛ حتى ننال رفع العمل إلى الله ونحن صائمون الإثنين والخميس، وإدراك ذلك في شهر شعبان.

5) قيام الليل فهو شرف المؤمن، وأساس السير إلى الله، وبداية التربية الروحية والإيمانية الصحيحة، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ (1)قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2)﴾ (المزمل).

6) الاعتكاف والمكث في المسجد من الفجر إلى الشروق؛ حتى ننال أجر عمرة وحجة تامة تامة.

7) صلاة الضحى أربع ركعات أو ثماني ركعات، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى قال: يا ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره" (رواه الإمام أحمد).

8) الدورة الروحية الفردية: وتكون في الأيام البيض من شهر شعبان (13, 14, 15).

ونوصي فيها بالآتي:
1- صلوات الفرائض جماعة.

2- إقامة السنن الرواتب كلها.

3- المحافظة على سنة الضحى ثماني ركعات، وقيام الليل والوتر وصلاة التسابيح مرة.

4- تلاوة ثلاثة أجزاء يوميًّا من القرآن.

5- الذكر المطلق والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 1000 مرة كحد أدنى.

6- صيام الثلاثة أيام البيض.

7- المكث في المسجد من الفجر حتى الضحى.

ولا مانع من تطبيق الأسر والعائلات هذا البرنامج مجتمعين... والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

أيها الأحباب.. استعدوا لمواسم الخير والنصر [17/07/2010][18:21 مكة المكرمة]


بقلم: الشيخ/ محمد عبد الله الخطيب
المؤمنون الصادقون الذين يحملون راية الإسلام في كل مكان ويعملون لرفعة شأنه وسيادته على ظهر الأرض يحتاجون دائمًا إلى خلوات يوثقون فيها علاقاتهم بربهم وبإسلامهم، ويحيون قلوبهم بالإيمان بالله، وينهضون ولا ينامون، أيديهم ممدودة إلى ربهم بالدعاء، وقلوبهم متعلقة بمن خلقها وطهرها وزكاها وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وفتح عليهم وبهم.

إن عيونهم شاخصة تنظر إلى أمجاد الإسلام، وترصد كل حركة وسكنة قام بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لصالح الإنسانية لا تغيب عنهم أبدًا ليالي أهل بدر، وتجرد أهل بدر، وصدق أهل بدر، وإيمان أهل بدر، لسان حالهم يقول ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)﴾ (الأنفال)، لا ينسون أبدًا الجزيرة العربية؛ كيف كانت قبل الإسلام، ظلمات في ظلمات، وأحقاد وأضغان، ثم طهرها الإسلام ورفع من شأنها.

ونظرة أولى إلى تكوين هذا المجتمع العجيب؛ لترى أن العصبة المؤمنة التي التّفت حول نبي الإسلام ونصرته وآوته تحولت إلى ملائكة يمشون على الأرض كانت صورة معبرة لجميع الأمة في الجزيرة، فكان منهم الغني والفقير، كان منهم الرجل والمرأة، وكان منهم العبد والسيد، لكنهم كانوا جميعًا كالجسد الواحد، فضربوا الأمثال في الفداء والوقوف حول النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول أحد التابعين لأحد الصحابة: يا عم هل صاحبتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعشتم معه؟ فيقول الصحابي نعم يا ابن أخي. فيقول له: كيف كان حالكم معه؟ فيقول الصحابي: والله يا ابن أخي كنا نجهد في اللحاق به وكان من أكثرنا تحملاً، وكان أقربنا إلى العدو وكنا نتقى به الخطر. فينظر التابعي إلى الصحابي ويقول له: يا عم، لو رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأيتموه، وصاحبناه كما صاحبتموه، لحملناه على رؤوسنا وأكتافنا وما تركناه يمشي على الأرض؛ اعترافًا بفضله وإقرارًا بحقه.

وهكذا تكون النظرة إلى القيادة الصادقة الأمينة نظرة حب تتناقلها الأجيال، وتعشقها القلوب وتقدرها حق قدرها.

فهؤلاء الأبرار الذين استقبلوا الوحي بصفاء ونقاء وصدق، عرفوا حق من حمله إليهم، وبلَّغهم به، والمصاحف بيننا الآن، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تملأ المكتبات والبيوت وسنته صلى الله عليه وسلم تحصى أعماله بدقة، فما بالنا على ظهر الأرض وقد أصبحنا عدد الرمال لا نقوم بأي واجب علينا ولا ننهض بأى حق في رقابنا؛ ولا ننتقل من دائرة العواطف فقط إلى دوائر الانطلاق والتضحية والصبر والتحمل وحسن التربية؟

إن هذا الدين الذي شرفنا الله به، وشرف به البشرية جمعاء ولم تكن قبل شيئًا مذكورًا، يدل على أنه من أول أمره كان دينًا عالميًّا، وفي أيام مكة وأهوالها يعلن القرآن الكريم عن هذا الدين ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (٨٧)﴾ (ص).

رب الكون ومالكه، ونواصي الجميع بيده، يعلن بكل هذه الصراحة: أن هذا الدين لا لمكة ولا للمدينة ولا للجزيرة ولا للفرس ولا للروم بل هو ذكر وحياة وإنقاذ للعالمين.

أيها الأحباب: ربوا الناس على ما رباهم الله عليه، وخذوهم بما أخذهم الله به، ولا تتحرجوا فلقد نهانا الحق تبارك وتعالى عن التحرج لأي سبب من الأسباب ولا لأي مانع من الموانع، فقال لرسوله صلى الله عله وسلم ولنا: ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (٣)﴾ (الأعراف).

أيها الأخوة.. إن دعوة الإخوان المسلمين وإن الرسالة التي يحملونها ويصبرون ويصابرون على ما ينزل بهم من أجلها هي دعوة الإسلام بالكامل في كل جزئية من جزئياتها وفي كل حركة من حركاتها وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم تعرضوا من أول يوم لمحن هائلة، وبلاء شديد، ومقاطعة من الذين لا يفهمون ولا يريدون أن يفهموا، ولم يعرفوا- كما لم يعرف غيرهم من الذين يعاندون- إنهم يعارضون الأقدار، ويقفون- عن جهل- أمام الواحد القهار الذي خلقهم وسوَّاهم وسيتوفاهم يومًا فيقفون بين يديه، ولو عرفوا أو حاولوا أن يعرفوا لسارعوا إلى الطريق، ولنجوا من عذاب الدنيا والآخرة.

أيها الأحباب.. نحن في رحلة إلى الله عز وجل لا تقطع بالسيارة ولا بالطائرة ولا بالصاروخ، لكنها تقطع في لمحة عين بالقلب السليم، ولذا قال أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام داعيًا يقول ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾ (الشعراء).

والقلب لا يحيا إلا بالإيمان، ولا يتحرك إلا بالزاد الرباني ولا يخفق إلا حينما تزول عنه الحجب، وفي الحديث: "إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، قالوا: وما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: ذكر الله والاستغفار".

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان مادٌّ خرطومه إلى قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس الشيطان وهرب.. وإن نسى التقم الشيطان قلبه بخرطومه فصرفه كيف شاء". وقال صلى الله عليه وسلم: "في القلب لمّتان؛ لمّة الشيطان ولمّة الملك؛ فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليحمد الله عز وجل". ثم تلا صلى الله عليه وسلم ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)﴾ (البقرة). وجاء في الأثر "البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر وتردد وإن أفتاك الناس وأفتوك".

أيها المربون.. هذه مقاييس وضعها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم لكي يعرفنا أين نحن؟ وكيف نعيش؟ لا بأخبار أحد، لكن بحركتنا الذاتية بالقلب الذي هو سر الله في كل إنسان، وهذا مقياس نبوي لا يملكه أحد ولا يعرفه إلا من ربَّاه الله عز وجل، فلنأخذ بهذه المقاييس من خلال اليقظة ومن خلال ذكر الله ومن خلال طاعة الله والبعد عن الغفلة والانشغال بهذه الفانية التي قال فيها صلى الله عليه وسلم "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء".

الدنيا كلها من أولها إلى آخرها لا تزن عند الله جناح بعوضة، فماذا في أيدينا من هذا الجناح؟ أي شيء له قيمة في أيدينا سراب وخيال، وهل يليق بمؤمن أن يحجبه عن الله عز وجل السراب والخيال والأماني التي تسمى بالدنيا؟ وليس معنى هذا أننا ندخل الدنيا ونعرض عنها، لكننا نعمل فيها ولا نعبدها وننسى الله، ولا نتقاتل أو نكذب أو نغش من أجلها.

المؤمن يرتفع فوق هذه الصغائر، فوق هذه التفاهات والأمور التي لا قيمة لها، وهو يعيش في الدنيا ويباشر أعماله فيها، لكن قلبه موصول برب الأرض والسماء لا يغفل عنه، ولا يشغل بغيره إن أراد الفوز.

سُئل الإمام على رضي الله عنه عن المسافة بين السماء والأرض فقال: دعوة مستجابة- ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يده في بدر وقال "يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض" وأبو بكر من ورائه.

ثم انتبه صلى الله عليه وسلم فقال: "أبشر يا أبا بكر هذا جبريل يقود الملائكة".

وقد دعا الأنبياء جميعًا فاستُجيب دعاؤهم.. نوح عليه السلام دعا ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣)﴾ (القمر).

وإبراهيم الخليل عليه السلام جمعوا له الحطب، وتصاعدت النيران، وربط بالحبال، في هذه اللحظة جاءه جبريل عليه السلام يقول: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فعلمه بحالي يغني عن سؤالي.

وهكذا القلوب الحية العامرة على جميع الأزمان، المسافة بينها وبين الله خفقة، ولا ينزل يديه حتى يستجاب له في لحظات وينجيه الله عز وجل مما هو فيه.

ألا نستطيع- أيها المسلمون.. على ظهر الأرض.. يا مئات الملايين- أن ندعو جميعًا في رمضان من أوله إلى آخره أن ينقذ الله إخواننا في فلسطين، وأن يرد عنهم كيد الكائدين، وفي باكستان وأفغانستان وفي كل مكان تواصوا في رمضان وفي غير رمضان بالدعاء المتواصل والتضرع والوقوف بباب الله، وإن شاء الله يغير الله من حالنا ويرفع من شأننا ويرد عنا كيد الأعداء ولؤم الذين يمكرون بنا.

أيها المربون.. بينوا في كل مكان ما هو القلب الذي يخفق فيستجاب له، هناك علامات، جاء في سورة الأنفال عن صفات المؤمنين ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)﴾ (الأنفال).

لم يعرف بعض المسلمين من الصحابة ما معنى الوجل، فسألوا أم الدرداء رضي الله عنها عن معنى الوجل؟

فقالت أم الدرداء: "الوجل في القلب كاحتراق السعفة أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى، قالت: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك، فإن الدعاء يذهب ذلك".

إن الوجل هو ارتعاشة الوجدان وخفقان القلب واضطرابه ولا يسكن إلا عند الدعاء، وهذا مقياس أيضًا وضعه القرآن يدل على علامة القلب الوجِل الذي يخشع ويرتعش ويبكي ويحن إلى الله عز وجل.

اللهم ارزقنا مثل هذه القلوب.
إذن فليس القلب هو هذه القطعة التي تخفق في صدرك وتتجمع فيها الشهوات والمطامع، وليس هو القلب الذي لم يذق طعم الطاعة، ولم يعرف معنى اليقين، ولا يملك شيئًا من الشوق إلى عظائم الأمور، ومكارم الأخلاق ولا يحن إلى لقاء ربه، إن القلب بهذه الصورة ضيق مظلم لا يشرق فيه نور ولا ينشرح لحق ولا ينقبض لباطل، أما القلب الذي يريده الإسلام فهو الذي قال الله فيه ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّـهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للْإِسْلَامِ ۖ﴾ (الأنعام: من الآية 25)، وقال الله عز وجل ﴿اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣) (الزمر).

أيها المربون.. افتحوا هذه النوافذ، وأحيوا القلوب بالإيمان، وأخرجوا منها الدنيا، وربوا الأجيال على أن يبصروا الحقائق، وأن يقرأوا القرآن بقلوبهم مع استحضار عظمة الله، وأميطوا عن القلب الغشاوات التي يجلبها الشيطان بذكر الله، وتذكر الآخرة، وكثرة الدعاء والاستغفار.

حفظكم الله ورعاكم وبارك في أعمالكم وجمعكم على الخير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أيها الأحباب.. لا تنسوا الطاعات في شهر شعبان والحدث العظيم "تحويل القبلة"


بقلم: الشيخ محمد عبد الله الخطيب
لقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يدعو ويفرح بقدوم شهر رجب وشهر شعبان وشهر رمضان ويقول: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان".

والمؤمن إنما يفرح بمواسم الطاعات ويترقبها ويستعد لها ويحنُّ شوقًا إليها، "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها"، وفي الحديث عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:
قلت: يا رسول الله!: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين وأحبُّ أن يُرفع عملي وأنا صائم".

اللهم بارك لنا في هذه الأيام، وفي هذه الليالي واجعلها فاتحةَ خيرٍ على الإسلام والمسلمين، اللهم ارفع عنَّا هذه الظلمات، وردَّ علينا حقوق المسلم والمسلمة، اللهم اكشف عنَّا البلاء، وفرِّج عن إخواننا، واربط على قلوب أهلهم وذويهم وبارك في حياتهم وأرزاقهم، وارزقهم الصبر الجميل، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، فضلاً منك ونعمة، اللهم آمين.

إن تحويل القبلة حدث مهم وموقف خطير في حياة المسلمين، يعدهم ويؤهلهم لابتلاءات بعد هذا الحدث، وتخبرنا الروايات أن المسلمين في مكةَ كانوا يتوجهون في الصلاة إلى الكعبة، ثم هاجروا إلى المدينة وأمروا بالتوجه إلى المسجد الأقصى، وبعد ستة عشر شهرًا أمروا بالعودة إلى البيت الحرام.

لقد كان الاتجاه إلى المسجد الأقصى في الصلاة- في الحقيقة لفت أنظار غير المسلمين إلى أن الإسلام دين عالمي لا يفرِّق أبدًا بين مسجد ومسجد، ولا بين أرض وأخرى، لكن اليهود كعادتهم وسفاهتهم استقبلوا الأمر بالعكس، فقالوا إن اتجاه محمد ومن معه إلى قبلتنا في الصلاة دليل على أن ديننا هو الدين وقبلتنا هي القبلة، وأنهم هم الأصل، فأولى بمحمد ومن معه أن يفيئوا إلى دينهم لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام.

وفي الوقت ذاته كان الأمر شاقًّا على المسلمين من العرب الذين ألفوا في الجاهلية أن يعظِّموا حرمة البيت الحرام، وأن يجعلوه كعبتهم وقبلتهم، لكنه الامتحان الربَّاني الذي يكشف عن الساحة كشفًا حقيقيًّا تظهر فهي النوايا وتتضح فيه الأغراض، وهذا هو الهدف الحقيقي من هذه الحادثة.

لقد انكشف من وراء الستار، اليهود الذين قالوا غير المنتظر منهم في العادة والعرف؛ لأنك تظهر لإنسان قربك منه فإذا به ينقلب على عكس المأمول.

وكان للمسلمين درس في الاستسلام لأمر الله مهما شقَّ على النفس، فالانقياد لأمر الله والرضا بما يأمر به هو الخير وهو الرحمة، وهو السعادة وفي مثل هذه الأحداث وغيرها يظهر بوضوح الدرس الأول، وهو أن اتباع أمر الله والاعتزاز بطاعته والرضا بها مهما كان الأمر مخالفًا لمألوف أو لمصلحة عاجلة أو آجلة أو أماني وحظوظ هو أصل هذا الطريق.

وبعد ستة عشر شهرًا يأتي الأمر الإلهي بالعودة إلى البيت الحرام.. فما سر هذا؟ تلك محنة واختبار وابتلاء ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ (البقرة: من الآية 143).

ويقول الإمام الطبري في تفسيره: إن محنة الله لأصحاب رسوله في القبلة إنما كانت فيما تظاهرت به الأخبار عند التحويل حتى قال البعض: ما بال محمد يحوِّلنا مرةً إلى هنا ومرةً إلى هنا؟ وقال المسلمون فيمن مضى من إخوانهم وهم يصلُّون إلى بيت المقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت.

وقال المشركون: تحيَّر محمدٌ في دينه، وقال اليهود: يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا، فكان كل ذلك فتنةً للناس، واختبارًا وتمحيصًا للمؤمنين، خاصةً أنهم على أبواب معركة بدر الكبرى.

أيها الأحباب.. وقفة هنا:
لا تقرءوا السيرة النبوية بأحداثها كأنها من الأمور التي سبقت ومضت، بل اقرءوها واقتربوا منها وعيشوا فيها، وانظروا بهذه المرآة إلى واقعكم، فأنتم على الحق المبين، الذي قامت عليه السماوات والأرض، والأبواق الموجَّهة نحوكم للتضليل والتشكيك من غيركم.. هي.. هي التي وجِّهت إلى أسلافكم فاستطاعوا بصبرهم وصدقهم ونفاذ بصيرتهم أن يتغلَّبوا عليها وأن ينتصروا؛ لأنهم صدقوا مع الله وآمنوا أن الحق لا يتعدد، وأن الباطل مهزوم، فتعمَّقوا في هذه المناسبات وعايشوها وعلّموها أولادكم وبيوتكم.

أيها الأحباب.. حين نعرض للسيرة والذين حملوها من الغرِّ الميامين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وصدقهم مع ربهم وإخلاصهم في دعوتهم وتجردهم لها؛ إنما نريد أن تعيشوا وأن تحيوا في هذه الظلال المباركة الكريمة، وأن تنئوا بأنفسكم عن كل صغيرة، أو عن أي هدف لا يتناسب مع ما أنتم عليه.

إن رجال العقيدة يجب أن يتميَّزوا، وأن تبلغ العقيدة من نفوسهم مبلغ الاستيلاء الكامل، وعقيدة الإسلام ترفض أن يكون لها في القلب شريك، فاتجاه المسلم يجب أن يكون حيث أمره ربه ﴿قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (١٤٢)﴾ (البقرة).

هل عرفتم دورنا؟ وهل عرفنا حقيقة أمرنا؟ فالقرآن عرض في سورة البقرة تحويل القبلة، ثم بعده مباشرة يقول الحق جل وعلا مبينًا دور هذه الأمة العظيم ومكانتها دائمًا في الماضي والحاضر وفي المستقبل إلى يوم القيامة مكان موصِّول وطريق واحد، يقول سبحانه ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية143).

إن الإسلام الحنيف والدين الخالد يريد استخلاص القلوب لله وتجريدها من التعلُّق بغيره، وتخليصها من كل عصبية، فالعصبيات مرفوضة والتعصُّب مرفوض في الإسلام؛ لأنها أمراض وأغلال تشدُّ الإنسان بعيدًا عن الصراط المستقيم.

رأى أحد الصحابة بعض الناس يقول: أبي فلان وأبي فلان، فقال لهم:
أبي الإسلام لا أبًا لي سواه.. إذا افتخروا بقيس أو تميم.
إن الإسلام العظيم ربط قلوب المسلمين لا بهذا ولا بذاك، فروابطهم الإسلامية أعزُّ وأغلى من كل الروابط، لقد ربط القلوب بحقيقة التوحيد، فربطهم بالمثل العليا، ورباط وثيق لا يتغير ولا يتبدل ولا يتلوَّن، بل هو صادق ومخلص للجميع، وربطهم أيضًا بحقيقة أن هذا البيت الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ ليكون خالصًا لله، وليكون ميراثًا لهذه الأمة المسلمة، التي نشأت من بعدهما إلى يوم القيامة، يتوارثونه ويحملونه، كما حمله الأسلاف إلى العالم كله يبشرونهم به، ويدعونهم إليه، وهم أمام الدنيا كلها يتخلَّقون بهذا الدين، ويلتزمون بكل كلمة يقولونها، وهكذا إلى يوم القيامة ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّـهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿١١﴾ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(١٢)﴾ (الزمر)، ويقول عز وجل آمرًا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلن هذا الأمر ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَـذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿٩١﴾ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿٩٢﴾ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)﴾ (النمل).

إن من سمات هذه الأمة التي ننتمي إليها ونعتز بانتمائنا إليها ونفخر بنسبتنا إليها، ونحاول دائمًا أن نكون في الطريق الذي سارت فيه وسار فيه أسلافنا؛ هي الوسطيَّة، والوسطيَّة ليست دعوى يتشدق بها، أو كلمات تقال على اللسان، لكنها تعني الحقائق الكبرى لهذا الدين العظيم.

فهذه الأمة لها رسالة ولها أهداف ولها غايات لا تحيد عنها، إنها تردُّ الناس إلى ربهم، تذكِّرهم بخالقهم، وتعمل على راحتهم يقول الإمام البنا عليه الرضوان مكلفًا الإخوان "هل أنتم على استعداد أن تجوعوا ويشبع الناس، وأن تشقوا ويسعد الناس، وأن تتعبوا ويستريح الناس؟ وأخيرًا لتموتوا وتحيا أمتكم؟".

هذا هو دورنا: خدمة الآخرين أيًّا كانوا، ورعايتهم، لقد كان لأبي بكر رضي الله عنه جارة عجوز، وليست لها أحد يرعاها سوى الله، فكان من عادته أن يمرَّ عليها في كل صباح، وكان عندها شاة لا تملك سواها، فيحلبها لها ويعطيها لتشرب، وبعد أن تولَّى الخلافة دخل عليها فسمعها تقول: أين نحن من أبي بكر لقد شُغِلَ عنا بالخلافة.

فإذا بها تسمع أبا بكر خليفة المسلمين يلقي عليها السلام ويقول لها أحلب الشاة أم أصرها؟ ومعنى أصرها أي أحفظ لك اللبن في ضرعها إن كنت غير محتاجة إليه، لم تشغله رضي الله عنه مشاغل الخلافة على جسامتها عن جارته، وها هو عمر رضي الله عنه وهو خليفة يحمل إناء فيه زيت يداوي إبل الصدقة بنفسه، فيمر عليه أحد المسلمين ويقول له: يا أمير المؤمنين! هلاّ كلفت عبدًا يقوم بهذه المهمة؟ فوضع إناء الزيت على الأرض ثمَّ أقبل عليه- وكان يلبس عباءة– وقال له: "ليس هناك على ظهر الأرض أحد أعبد مني ومنك، وأعطاه إناء آخر، وقال له: اعمل معي، وهذا هو عمر أيضًا يقول لعبد الرحمن بن عوف: هناك بجوار المسجد بعض الغرباء من التجار والذين يبيتون، فهل لك أن تحرسهم من السرقة؟ فقال له:
نعم، والتجار من الأجانب الذين سمح لهم بعرض تجارتهم في الأسواق وبيعها لفترة معينة، ثم يخرجون من الدولة، ووقف عمر يصلي وعبد الرحمن يحرس.. هذا فترةً وهذا فترة، ثم سمع عمر رضي الله عنه طفلاً يبكي في بيت قريب من المسجد، فذهب بنفسه إلى أمه وقال لها:
اسكتي هذا الغلام.. وأرضعيه، ورجع لكن الطفل عاد إلى الصراخ مرةً أخرى، فعاد إليها عمر يطلب منها إسكات الطفل بإرضاعه، وفي المرة الثالثة قال لها: أراك أم سوء، لماذا يبكي هذا الغلام؟ فقالت المرأة وهي لا تعرفه رضي الله عنه عمر يتولَّى أمرنا ويغفل عنَّا، لقد أمر بإعطاء الطفل المعونة بعد فطامه، فنحن نسارع بفطمه عن الرضاعة حتى نقبض له المعونة، وذهب عمر إلى المسجد وهو لا يستطيع أن يقرأ القرآن في الصلاة من شدة البكاء، وبعد الصلاة سُمع يقول: كم قتلت من أطفال المسلمين يا عمر!؟

وأعطى أمرًا بأن المعونة تُعطى للطفل فورًا عند ولادته لا بعد فطمه.
أين نحن من هذا التاريخ؟ ومن هذه العظمة؟ ومن المراقبة لله عزَّ وجل، ومن الخوف منه وحده؟ وهذا ما نحاول نحن كإخوان ومعنا على الطريق كل من فهم هذا الفهم واستقى من هذا النبع الخالد إلى يوم القيامة.. أن نعمل به، وكل واحد ينوي نيةً خالصةً أن يزداد وأن يقترب من هذا الجيل الكريم الذي سبقنا، ومن هذه الأجيال التي ربَّت البشرية بعد أن ردَّتها إلى ربها، وعلَّمتها وأنشأت المساجد العامرة، ودور العلم والمعرفة في كل مكان، ورفعت شأن الإنسان طفلاً وشابًا وشيخًا رجلاً وامرأةً مسلمين أو غير مسلمين.

رفعت شأن البشرية جميعًا، فهي امتداد لعمل رسولها ونبيها صلى الله عليه وسلم ومن جاء من قبله من الأنبياء والرسل عليهم السلام: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)﴾ (يوسف).

والوسطية أيضًا هي الاعتدال الكامل، وهي الالتزام الدقيق بمنهج الله عزَّ وجل، يقول أحد الدعاة: "إنها الأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه الحسي المادي".

هذا جانب من دور هذه الأمة المباركة في العدل والإنصاف والاعتدال، وهي أمة على منهج رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾ (الأنبياء)، فكانت الأمة بقيادة رسولها صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير.

أيها المسلمون.. أيها الناس جميعًا.. يا أمم الأرض!:
ألا تسمعون عن اليهود؟ وماذا يفعلون؟ ألا تقرءون وأجهزة الإعلام تعرض كل شيء وأنتم ترونها.. ماذا ينتظر المسلمون؟ وماذا يريد حكَّامهم من السكوت عن طغيان اليهود؟ وإجرام اليهود؟ وتبجح اليهود، وسفالات اليهود في وضح النهار، وفي مرأى ومسمع منكم؟ ماذا يريد حكام المسلمين؟ وماذا ينتظرون؟ وما المآل لهذا الموقف؟ هل فكروا في هذا؟ ماذا فعلت الجامعة العربية؟ وماذا قدَّمت الهيئات والمنظمات العالمية؟ أليس على الساحة رجل رشيد؟ أو أمة تقف لتقول لعصابات اليهود كفاكم، وتعلن مقاطعتها ومخاصمتها ليهود؟.

حسبنا الله ونعم الوكيل..
أما أنتم أيها الأحباب.. فدوركم أن تحسنوا الصيام والإكثار منه لا في شعبان ولا رمضان فحسب، لكن صوموا كثيرًا ووفروا الجنيهات القليلة لإخوانكم في فلسطين، ولكل الذين يُعتدَى عليهم ظلمًا وعدوانًا في أي جزء من أجزاء العالم.

ربُّوا أبناءكم على هذا، على الصيام والتبرع والعطاء للمغلوبين والمقهورين، وأكثروا في هذه الأيام من الدعاء والتضرع إلى الله.. أن ينقذ الأمة الإسلامية من الذئاب والوحوش والسفلة الذين لا خلاق لهم ولا دين لهم.

واحذروا دائمًا أن يراكم الله حيث نهاكم، وأن يفقدكم حيث أمركم، واعلموا أن قضية الإنفاق والعطاء قضية خطيرة عند الله.. يقول سبحانه وتعالى ﴿هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّـهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (٣٨)﴾ (محمد).

هذا التهديد والوعيد من الله عزَّ وجل على مجرد عدم الإنفاق فكيف بحال المسلمين إذا قعدوا عن أمور كثيرة من نصرة الذين يحتاجون إلى مدِّ الأيدي والمعونة والمساعدة والجهاد لتخليص المظلوم، والضرب على يدِّ الظالم، ونزع أنياب السفَّاحين من اليهود.

إن اليهود خانوا الله ورسوله وقتلوا الأنبياء وسفكوا دماءهم فماذا تنتظرون منهم؟

نسأل الله أن يمنَّ على الأمة كلها بالنصر في رمضان على أعدائها، فابذلوا واصدقوا مع الله وانتظروا النصر القريب من الله عز وجل.

الخميس، 22 يوليو 2010

تحويل القبلة.. ودور الأمة نحو الأقصى[22/07/2010][12:50 مكة المكرمة]


رسالة من: أ. د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين
الرسول القدوة والمسجد الأقصى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد؛
فإن أحداث سيرة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لا تزال أنوارُها على الأيام تزداد تلألؤًا، وتفيض حياةً وبركةً، كلما أعاد الناسُ النظرَ في أحداثها ازدادوا إيمانًا ويقينًا، وكلما أرجع العاقل فيها البصر رجع مستضيئًا مستنيرًا.

ومن ذلك: حَدَثُ تحويل القبلة من المسجد الأقصى المبارك إلى الكعبة المشرفة، الذي يذكِّرنا بالقدس تلك المدينة المباركة التي يدور حولها هذا الحدَث العظيم، والتي تستصرخ ضمائرَ المسلمين وضمائرَ الأحرار في هذا العالم؛ لاستنقاذها من أيدي الصهاينة، الذين يغيّرون معالمها، ويطردون أصحابها، ويحاولون تزويرَ تاريخها، وطمس هويتها العربية الإسلامية، ولن يبلغوا مرادهم- إن شاء الله- ما دام المجاهدون في فلسطين يقبضون على سلاحهم، وما دامت الأمة من ورائهم داعمةً ومؤيدةً للحق الأصيل.

لقد أمر الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالتوجه إلى بيت المقدس في الصلاة، ليجمع لهم القبلتين، واستمر ذلك أكثر من ستة عشر شهرًا قبل أن يأمرهم بالتحول إلى الكعبة المشرفة؛ ليكون ذلك تنبيهًا لهم على ما للمسجد الأقصى من منزلةٍ وقداسة، فلا بُدَّ للرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم وللأمة الوارثة من الحفاظ على هذه المنزلة والقداسة له، وحمايته من عبث العابثين الذين يسعون في خرابه ويمنعون بيت الله أن يُذكر فيه اسمه.

التوجه إلى بيت المقدس وعنه تربية للأمة على الانقياد لأمر الله:
كان لتوجيه المسلمين في البداية إلى بيت المقدس حكمةٌ تربويةٌ بالغةٌ أشارت إليها الآيةُ الكريمة ﴿وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ (البقرة: من الآية 143).

فلم يكن سهلاً على العرب الذين ارتضعوا حب البيت الحرام، وعدُّوه شعار مجدهم؛ أن يتجهوا بسهولة إلى قبلة أخرى غير الكعبة، لكنهم انقادوا لأمر الله، إذ لم يكونوا يعرفون إلا الطاعةَ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وافقتْ أهواءهم أم لم توافقها، واتفقتْ مع عاداتهم أم لم تتفق، وهم الذين هدى اللّه ولم تكن كبيرة عليهم.

فلما امتحن اللهُ قلوبَهم للتقوى واستسلامَهم لأمر الله صرف الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى الكعبة، ليعود بالدعوة إلى أصلها، وهو عالميتُها القائمة على قواعد إبراهيم، دون تمييزٍ بين أبناء إسحاق (اليهود) وأبناء إسماعيل (العرب) ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)﴾ (آل عمران).

ومثلما انقاد المسلمون للتوجيه الرباني إلى بيت المقدس انقادوا كذلك للتوجيه الرباني إلى الكعبة المشرفة، فقالوا: سمعنا وأطعنا، ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ (آل عمران: من الآية 7)، حتى إنهم تحوَّلوا إلى البيتِ الحرامِ في أثناء صلاتهم، بمجرد سماعهم بتحويل القبلة، وبعضهم في صلواتهم لم يُتِمُّوها، فكانت الصلاةُ الواحدةُ إلى قبلتين.

تعريف الأمة بأعدائها وحقيقة عداوتهم وحدودها:
لقد كان تحويلُ القبلة سببًا في تمييز المواقف، وافتضاح أمر الأعداء، وبخاصة اليهود وإخوانهم من المنافقين، الذين لم يألوا جهدًا في الشغب على الإسلام والمسلمين؛ فإنهم كانوا يتخذون من توجُّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس في الصلاة ذريعةً للاستكبار عن الدخول في الإسلام، والادِّعاء بأنهم هم الأصل، وكانوا يقولون: استقبل محمدٌ قبلتَنا، وغدًا يدخل في ديننا ومِلَّتِنا.

وعلى عادة اليهود في الأَثَرَة والأنانِيَةِ والعنصرية الجامحة كانوا يحبون أن يكون كلُّ مَجْدٍ لهم، فلما نزل الأمرُ بالتحوّل إلى البيت الحرام عزّ عليهم ذلك، ودفعهم الحسدُ إلى الانطلاق لمحاولة بث الفتنة، فأطلقوا أبواقَهم من المنافقين لإلقاء بذور الشك بين المسلمين في قيادتهم المعصومة، وفي أساس عقيدتهم الرشيدة السديدة، والادعاء بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يتلقى الوحيَ من الله، وإنما يأتي بالدِّين من تلقاء نفسه.

وقالوا: إن محمدًا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكُنَّا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظر، وذهبت طائفة من زعمائهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدون فتنتَه، وقالوا: يا محمدُ، ارجعْ إلى قبلتِك التي كنتَ عليها نتبعْك ونصدِّقْك.

وهذا يدل على أنهم انتهازيون لا يَجْرُون إلا وراء المصلحة، دون اعتبارٍ للعقائد والقِيَم، فهم كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم لمجرد أنه حوَّل وَجْهَهُ- بأمر ربه- إلى البيت الحرام، ناسين أن الأرض كلَّها لله، وأن الجهاتِ جميعَها واحدة بالنسبة لاطِّلاعه على عباده، ومن ثم استحقوا الوصف بالسفاهة ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)﴾ (البقرة).

ومن دلائل سفاهتهم: ظنهم أن تلويحَهم له صلى الله عليه وسلم باتباعه وتصديقه كفيلٌ بإغرائه بالعودة إلى التوجه نحو بيت المقدس، وبذلك يبلغون غرضَهم المفضوحَ بتأكيد إنكار الوحي، وإثبات بشرية القرآن، وتأييد الأراجيف والإشاعات الكاذبة التي روّجوها، ويحققون حلمَهم وأمانيَّهم الحاقدةَ بصدِّ الناس عن الإسلام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأكد هذا الحدثُ خُبْث مقاصدهم، وكشف أن الحقد والهوى والتعصب للباطل يحملهم على أن يقولوا ويفعلوا غير ما يستوجبه الحق المعلوم، وأن موقفهم من الإسلام ونبيه ليس مُؤَسَّسًا على جهلهم بحقائقه أو عدم اقتناعهم بطرق عرضه، كما يتصور بعضُ المسلمين، فهم لا ينقصهم الدليل، إنما ينقصهم الإخلاصُ والتجرُّدُ من الهوى، والاستعدادُ لقبول الحق متى ظهر ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)﴾ (البقرة).

ولهذا كان من واجب الأمة ألا تُلقي لشغبهم بالاً، وألا تتأثر بما يُلقونه من أباطيل وما يروِّجونه من أكاذيب ودسائس، وأن تشتغل بالعمل واستباق الخيرات، ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾ (البقرة).

ما أشبه الليلة بالبارحة:
هل ترى أيها القارئ الكريم أي فرق بين ما صنعه أولئك اليهود وإخوانهم المنافقون وما يصنعه الصهاينة اليوم- ومن ورائهم الطابور الخامس في قلب أمتنا الإسلامية- في فلسطين وعلى امتداد العالم، من شقٍّ للصفوف، وتزوير للحقائق والتشكيك في الثوابت، وسعي لإلباس الحق ثوب الباطل، ونصب للفخاخ في طريق الوحدة الإسلامية، وزرع للأشواك على طريق التعاون العربي والإسلامي، وإرهاب إعلامي لكل المناصرين للحق والداعمين للمقاومة من مختلف شعوب الأرض، واستغلال للإمكانيات الهائلة لقوى الضغط العالمية، لتمرير مشروعهم الزائف على الرأي العام العالمي.

إن من واجب الأمة على كل المستويات- على مستوى الأنظمة، وعلى مستوى النخب الفكرية والثقافية وقادة الرأي وعلى مستوى جماهير الأمة- أن تتعلم هذا الدرس من السيرة النبوية المباركة، وألا تتلكأ في العمل الجاد لتحرير فلسطين كل فلسطين، وأن تدرك أن الصهاينة لا يعرفون غير الحيل والألاعيب وفنون المكر المختلفة في التعامل مع غيرهم، وأن العمل الصحيح هو تقديم الدعم الكامل ماديًّا ومعنويًّا للمجاهدين، والتبني القوي لمشروع المقاومة، من خلال:

1- التعريف بقضية فلسطين وجذورها التاريخية، وبيان حقيقة الصراع مع الصهاينة، وأنه يأتي من منطلق رد العدوان واسترداد الحقوق، وأن القضية قضية المسلمين جميعًا، وكشف خداع المصطلحات، وتكريس المعاني الصحيحة لها في أذهان الناس وعلى ألسنتهم، فالجهاد ومقاومة المحتل ليس إرهابًا، والعمليات الاستشهادية ليست انتحارًا.

2- التأكيد على أن لكل فرد من الأمة دوره في هذا المضمار، وليس لأحد حُجَّة في التخلف والتخاذل والتراخي.

3- مواجهة الإحباط واليأس الذي قد يتسرب إلى قلوب الجماهير، وبث الأمل في النفوس، والتأكيد على الثقة بالله سبحانه وتعالى، وإعادة الثقة بالنفس فرديًّا وجماعيًّا، وبقدرة الأمة على المواجهة الإيجابية.

4- الدعوة إلى تحويل المشاعر والعواطف تجاه ما يحدث في فلسطين إلى أفعال إيجابية ومؤثرة، وإشاعة روح الجهاد في الأمة، والتأكيد على أهمية التربية للفرد وللمجتمع، والتأكيد على أن هناك حسابات ومعايير أخرى للنصر، إضافة إلى الحسابات والمعايير المادية الظاهرية.

وحَرِيٌّ بالأمة اليوم أن تحسن قراءة حادثة تحويل القبلة، وأن تتعلم منها كيف تواجه أعداءَها وخصومها، وتبطل- بإذن اللّه- كيدَهم، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله الله.
والله أكبر ولله الحمد.. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الجمعة، 16 يوليو 2010

مصر تلملم جراحها


بقلم: د. عصام العريان
في حساب الربح والخسارة بعد إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد الذي أقرَّته حكومة مجرمي الحرب في تل أبيب، يتضح دون خلاف بين المراقبين أن أكبر الخاسرين هي مصر والرئيس مبارك، وأن إيران سجَّلت نقاطًا كبيرة لصالحها أيًّا كان الاختلاف أو الاتفاق معها.

مصر- وبعد أسابيع من حرب مجنونة على غزة- تهدف إلى كسر إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني وإخضاع حماس لعباس وإسكات منصات إطلاق الصواريخ التي تنهمر على مدن ومستوطنات جنوب فلسطين وتصيب الصهاينة بالهلع؛ ليس من صوت الصواريخ أو من الدمار البسيط التي تحقِّقه أو الإصابات الطفيفة، ولكن من المستقبل إذا امتلكت المقاومة ما هو أكبر أو صمدت في معركة الإرادة أو في المواجهة مع دولٍ ما زالت تتمنَّع في وجه المشروع الصهيوني وفي ظل توازن قوى وردع متبادل ونظام صاروخي باليستي وتغيرات ديموجرافية على الأرض تنذر بطرح أسئلة من نوع: كيف يستمر الكيان الصهيوني في الحياة؟! (مجلة تايم)، أو حرب مائة العام (إيكونومست)، أو مستقبل الكيان الصهيوني (نيوزويك).

ماذا كان تصور مصر خلال تلك المواجهة؟! كانت ضد المقاومة ومع التسوية.. كانت تراهن على وحدة الصف الفلسطيني خلف محمود عباس.. كان تراهن على الإبقاء على علاقتها الحميمة مع الكيان الصهيوني على أمل أن تستفيد بتلك العلاقات فوق الطبيعية لتخفيف المعاناة عن الفلسطينيين أو الإسراع بعملية التسوية، وطبعًا لأسباب أخرى لا تخفى على أحد تتعلَّق بانتقال السلطة إلى الوريث.

قمعت مصر التأييد الشعبي في القاهرة التي يحتشد فيها الإعلاميون، وسمحت به في المحافظات، واعتقلت حتى الآن حوالي ألف من الإخوان وأنصارهم في حادتٍ ليس له مثيل في أي بلد عربي أو إسلامي أو عالمي؛ فلم نسمع حتى في الضفة الغربية أو الأردن عن اعتقالات بسبب التضامن مع غزة أو تحقيقات في النيابة بذريعة إمداد غزة بالإغاثة الإنسانية أو تأليب الجماهير على التظاهر دعمًا لغزة واستغلال مشاعرها، وهي الاتهامات التي تم توجيهها إلى العشرات.

الآن وقبل أن تصمت المدافع وتكف الطائرات عن الأزيز في سماء غزة أو ترحل الدبابات عائدةً إلى حظائرها في القواعد الصهيونية؛ بدأت مصر تشعر بالإهانة، وبدت مُثخنةً بالجراح، فهل تلملم مصر جراحها؟ وهل يبتلع الرئيس مبارك الإهانة التي ألحقها به أولمرت وليفني وباراك؟ لا أعتقد.

فها هو الرئيس في خطابه المتلفز يوم السبت 17/1 يدعو أولمرت من جديد إلى لقاء مع عباس بحضور ساركوزي.. لماذا؟

هل للخروج من المأزق؟ أو للعتاب الذي لا يفسد للود قضية؟ ويبقى الود ما بقي العتاب.
لقد كانت سخرية أولمرت من مبارك قاسيةً وهو يعلن أنه استجاب لندائه بوقف إطلاق النار الذي أطلق عبر التليفزيون.

قرار معلن منذ أيام، ويدَّعي العدو أنه اتخذه بعد تحقيق كافة أهدافه التي لم يُعلن عنها قط؛ كي لا يتعرَّض أثناء التحقيق للحساب العسير، واتخذه من جانب واحد دون أي اعتبار للزيارات المكوكية لعاموس جلعاد للقاهرة والمفاوضات الشاقة التي بذلت مصر وعمر سليمان فيها جهودًا هائلة للضغط على حماس وإجبارها على المرونة وقبول تنازلات رضيت عنها مصر أخيرًا، وبعد توريط مصر في اتفاق أمني صهيوني أمريكي على حساب مصر يُلزمها بما لا يجب أن تلتزم به مطلقًا، ويتهمها أنها شريكة في تهريب السلاح، وهي التي أفسدت أمنها القومي بالضغوط المستمرة على أهلنا في سيناء بسبب الاتهامات التي توجِّهها إليها العدو بأنها تدعم أهل غزة عبر التهريب المستمر للغذاء والدواء والسلاح، بينما يظهر الآن حديث جديد حول التهريب عبر البحر لأسلحةٍ إيرانيةٍ متطورةٍ كانت سببًا رئيسيًّا في صمود المقاومة، ويجري حديث غريب عن بناء جدار عازل تحت الأرض على الحدود المصرية الفلسطينية لمنع التهريب.

ولم يتحدَّث أحد من أبواق الإعلام أو يتساءل عن عدم هروب الفلسطينيين تحت القصف من غزة إلى رفح أو العريش، ولم يتم اجتياح الحدود، بل صمد أهل غزة خلف قيادتهم والمقاومة في وجه العدوان، وقدَّموا الشهداء قوافل والجرحى بالآلاف، ولم يتألَّموا أو يصرخوا إلا في وجه الذين خانوا قضيتهم وباعوهم للعدو بثمن بخس.

على مصر أن تلملم الآن جراحها وتحاول أن تستعيد ثقتها بنفسها بدلاً من الهجوم المستمر على قطر و(الجزيرة) وإيران.

مصر التي بددت رصيدها التاريخي لا وارث لها في العالم العربي، حاول العراق وفشل، وحاولت السعودية وفشلت، ولا اعتقد أن قطر تحاول القيام بهذا الدور.. الجميع يريد أن يُقدِّم أوراق اعتماده إلى الرئيس الجديد أوباما.

الوارث قادم من المحيط الإسلامي (إيران وتركيا)، والرابح الأكبر في المنطقة خلال السنوات الماضية هي إيران، ونحن نواجهها بأساليب بالية وتهريج إعلامي وافتعال الفتن المذهبية.نجحت إيران في أفغانستان فأطاحت بطالبان التي بدأت تعود بقوة الآن.

ونجحت إيران في العراق فأطاحت بصدام ونظامه الدموي وحلِّ نفوذها ليتقاسم البلد مع النفوذ الأمريكي، وضاع أهل السنة بين المقاومة والمشاركة والتفرق، ونجحت إيران في لبنان وسوريا بدعم حزب الله وتدعيم المقاومة وهزيمة العدو الصهيوني في لبنان مرتين بالانسحاب من الجنوب 2002م ثم بالحرب والهزيمة في 2006م.

ونجحت إيران في فلسطين بدعم خيار المقاومة وتبنِّي خطاب يهاجم على الدوام العدو الصهيوني، وتهريب السلاح إلى المقاومة في فلسطين وتدريب المقاتلين وتقديم الدعم المالي، فسجَّلت نقطة جديدة لها في الشعور العربي والإسلامي.

وهي تمارس ديمقراطية خاصة بها؛ فيكفي أنها البلد الذي به رؤساء جمهورية سابقون، "رفسنجاني" و"خاتمي"، وتجري بها انتخابات شبه حرة تُحدث تغييرات وتحولات داخل نخبة الحكم بين إصلاحيين ومحافظين، متشددين وعلمانيين.

إيران ما زالت صامدة اقتصاديًّا واجتماعيًّا رغم الحصار الشديد الذي مارسته ضدها أمريكا والغرب.

إيران نجحت دبلوماسيًّا في فتح علاقات مهمة مع روسيا والصين، وبنت قوة نووية سليمة تستطيع أن تحوِّلها خلال شهور إلى سلاح نووي.

قد يقول البعض: هل هذا غزل في إيران؟ وهل تمثِّل إيران لنا نموذجًا يُحتَذى به؟أرد بقوة: لا.. لا.. لا.

هو فقط تعرُّف على الحقائق لنستفيد من الدروس؛ فلا يكفي أن نصبَّ اللعنات على إيران ونكيل الاتهامات لها بأنها تريد مدَّ نفوذها الشيعي وتخترق المجتمعات السنية لتفريقها، ولا يكفي أن نجعل الآخرين (أمريكا والصهاينة) يحاربون معاركنا ونصطف فقط خلفهم في معركةٍ لن تكون معركتنا أبدًا، بل نكون أكبر الخاسرين فيها.

علينا أن نلتفت إلى أنفسنا ونلملم جراحنا ونستعيد الثقة بأنفسنا؛ فنحن نشكِّل أكثر من 90% من الأمة الإسلامية، ولدينا قدرة على النهوض إذا امتلكنا الإرادة القوية والفهم السليم والتضحية اللازمة والوفاء المطلوب والمعرفة الصحيحة بمنهج النهوض.

والآن هل يبتلع الرئيس مبارك إهانة العدو؟ أم يرد له الصاع صاعين بدعم المقاومة والتحول الكبير في إستراتيجية مصر نحو فلسطين والمنطقة والعالم؟

إذا كان تليفون الرئيس ونداءه هو الذي أوقف العدوان فلماذا لم يتصل مبكرًا؟! وإذا كان اتصل بالفعل ووجَّه النداء فلماذا لم يَسْتَجِبْ العدو إلا الآن؟! أم أن التليفونات كانت مفقودة والحرارة ضائعة والصوت لا يصل؟!

ليس أمام مبارك إلا ابتلاع الإهانة والاستمرار في نفس الطريق الذي سار عليه ثلاثين سنة؛ فمن الصعب على من وصل الثمانين أن يُغيِّر فهمه وأسلوبه، ومن المستحيل أن يتخلَّى عن ابنه في ظل هذه الظروف.

فهل نجحت مصر في تقديم أوراق اعتماد جديرة باهتمام الإدارة الجديدة؟ وهل نجح الرئيس الذي تخطَّى 80 سنة أن يقنع الرئيس الذي لم يتجاوز 47 عامًا والذي يتمنع بذكاء واضح ومرونة عالية بأن يعتمد عليه وعلى دوره وعلى قدرته في تقديم خدمات لأمريكا في عهد أوباما؟ أشك كثيرًا، وإذا كان شكِّي في محله فإن مصر قادمة على تغييرات حقيقية مهمة.

يعيد الرئيس طرح مبادرته التي أهدرها العدو واستهزأ بها، بينما تجاوبت معها حماس ورحَّبت بها وتعاملت بمرونة على قمة دولية في شرم الشيخ يرأسها معه ساركوزي، وهذه بالتالي تعيد إلى الأذهان القمة المأسوف عليها في نفس المكان أيضًا عام 1996م، والتي رأسها "كلنتون" وحضرها "بيريز" وعرفات، وسمَّوها "ضد الإرهاب"، وكانت نتيجتها ما حدث في نيويورك وأفغانستان والعراق والصومال ولبنان وفلسطين وإزاحة عرفات من المشهد بالسم القاتل.

ماذا يريد الرئيس من الإصرار على نفس الأسلوب وذات الطريقة؟ ألم نتعلم بعد من التجارب الفاشلة؟!

هل يستطيع الرئيس أن يقول بملء فمه إن المقاومة في غزة وفلسطين مقاومة مشروعة وحركة تحرر وطني وليست إرهابًا يجب مقاومته؟! هل يستطيع الرئيس أن يقول لزعماء أوربا الذي أعلنوا أن المطلوب من حضورهم ليس وقف تهريب السلاح عبر البحر إلى غزة والمقاومة لدرء خطرٍ عن العدو، بل منع إمداد هذا العدو بالسلاح الذي يقتل به الأبرياء والأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين؟!

هل يستطيع الرئيس أن يقول لهم: إنكم ارتكبتم في تاريخنا الحديث أكبر جريمة مرتين: مرة باضطهادكم اليهود في أوربا، ثم مرة أخرى بزرع الكيان الصهيوني في الجسد العربي ثم ثالثًا بتكريس هذا الوجود الاستيطاني ودعمه في كل حروبه ضد العرب والمسلمين وذبح الفلسطينيين؟! هل يستطيع؟!

أعتقد أنه لا يخطر مثل ذلك الحديث في نفسه أو على باله، وإذا خطر له فسيبتلع لسانه مع الإهانة المتكررة من العدو والأعداء والمتحالفين!
الرئيس يبحث عن دور جديد وورقة اعتماد يقدمها للرئيس أوباما.
فوصل سريعة
* رسالة إلى أوباما تحوَّلت إلى برقية:
كان في تقديري أن أكتب رسالةً إلى أوباما في يوم تنصيبه في مقال اليوم، ولكن أكتفي ببرقية سريعة: "تكلم يا رجل.. انطق.. أوقف المذبحة.. ابْنِ مصداقيةً لك في المنطقة.. مصلحتك ومصلحة بلادك أن تقول لا للعدو الصهيوني وللمجزرة القائمة الآن في غزة، فلتكن أكثر قسوةً مع قادة الصهاينة".. هذا رأيٌ لكاتب في (نيوزويك)، وليس مجرد رأي قلته أنا.

* مصر لا وارث لها:
مصر بدَّدت رصيدها التاريخي عندما تولَّى صبيان أمانة السياسات وإدارة الملفات الاقتصادية والإستراتيجية، وعندما وقعت النخبة أسيرة ملف التوريث.
المصيبة أن مصر لا وارث لها ليقود العرب أو المنطقة.

* في عزاء د. محمود أمين العالم:
سألني وحيد حامد متعجبًا: "ما الذي أتى بك؟!"، وقال إنني لا أسمع إلا ذكريات من نوع: "في أي معتقل كنت، وإلى أية منظَّمة شيوعية انتسبت؟ وهل انضممت إلى التنظيم الطليعي؟" ما الذي أتى بك؟!

لم أكن وحدي من غير الشيوعيين في العزاء، كان هناك كثيرون يؤمنون بأهمية وحدة الصف الوطني على أسس سلمية لمواجهة الأخطار التي تواجه الأمة، ويقدِّرون مكان الفقيد مهما كان حجم الاختلاف الأيديولوجي أو الفكري أو السياسي معه أثناء حياته.

وبهذه المناسبة لا أنسى كيف حاسب المرحوم المأمون الهضيبي نفسه على تسرعه في الإجابة بلا على سؤال للراحل د. فؤاد مرسي (توأم العالم في قيادة الحركة الشيوعية) أمامي عندما سأل: ألا يمكن أن يكون الشخص ماركسيًّا ومسلمًا؟

لقي فؤاد مرسي ربه بعد ذلك اللقاء بيومين تقريبًا، وكان لوم الهضيبي نفسَه أنه تسرَّع ولم يستفسر عن معنى السؤال ليحدِّد وجهة الإجابة؛ لعله يساعد الرجل في مخرج مشرف له أمام الله، ولعله يلقى الله مؤمنًا مسلمًا.

* رحيل عالم بارز وقطب يساري آخر أ. د. عبد العظيم أنيس:
بعد رحيل د. محمود أمين العالم بأيامٍ رحل زميله في الكفاح والنضال المفكر البارز وعالم الرياضيات الشهير الأستاذ الدكتور عبد العظيم أنيس الذي ترك العمل الحزبي والتنظيمي السياسي أيضًا منذ سنوات.

وفي عزائه اجتمعت المعارضة ورموز حكومية؛ لأنه خال الوزير طارق كامل، وشقيقه الأستاذ الدكتور حسام كامل رئيس جامعة القاهرة.

يرحل القادة البارزون للحركة الشيوعية واليسار المصري واحدًا إثر الآخر؛ منذ سنوات إسماعيل صبري عبد الله، فؤاد مرسي، إبراهيم سعد الدين، والعالم، وأنيس، وغيرهم دون أن نرى وجوهًا جديدة تحاكي تلك الوجوه التي حفرت تاريخها في ضمير اليساريين والتفَّ حولها نخبة آمنت بصدقهم ونقائهم رغم الاختلافات الحادة.