بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 9 يوليو 2010

آية الإسراء في مواجهة المُنكِرين والأدْعياء[06/07/2010][17:32 مكة المكرمة]

كتب الشهيد سيد قطب- رحمه الله- عن الآية الأولى من الإسراء: تبدأ السورة بتسبيح الله، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء.

وتذكر صفة العبودية ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ (الإسراء: من الآية 1) لتقريرها، وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر، وذلك كيلا تنسى هذه الصفة، ولا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية.

*****
وفصل القول في كلمة "سبحان" على النحو الآتي:
سبحان الله: معناه تنزيهًا لله من الصاحبة والولد، وقيل: تنزيه الله تعالى عن كل ما لا ينبغي له أَن يُوصف، قال: ونَصْبُه أَنه في موضع فعل على معنى تسبيحًا له، تقول: سَبَّحْتُ الله تسبيحًا له: أَي نزَّهته تنزيهًا، قال الزجاج في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ (الإسراء: من الآية 1)؛ قال: منصوب على المصدر؛ المعنى أُسبِّح الله تسبيحًا. قال: وسبحان في اللغة تنزيه الله عز وجل عن السوء.

قال سيبويه: قال أَبو الخطاب: إن سبحان الله كقولك براءَةَ الله أَي أُبَرِّئُ اللهَ من السوء براءةً؛ وقيل: قوله سبحانك أَي أُنزهك يا رب من كل سوء وأُبرؤك.

وروى الأَزهري بإِسناده أَن ابن الكَوَّا سأَل عليًّا، رضوان الله تعالى عليه، عنه، فقال: كلمة رضيها الله لنفسه فأَوصى بها.

*****
ولكن أدعياء تجديد النص الديني، ومواجهته بالعقلانية سقطوا في بؤرة سافلة لا تتفق لا مع واقع، ولا مع عقل، ولا مع حق، ونعرض بعض أكاذيبهم وسقوطهم فيما يأتي:

1- الإسراء لم يكن من مكة إلى بيت المقدس ولكنه كان من مكة إلى أرض الحجاز.. إلى المدينة المنورة، فكان تدريبًا مناميًّا للرسول على الهجرة التي جاءت فيما بعد، والبركة كانت حول المسجد النبوي والمدينة المنورة إذ أنه لم يكن في بيت المقدس مسجد.

2- احتلت فلسطين من قبل المسلمين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وبدأ الناس في فلسطين في ذلك الوقت اعتناقهم الإسلام.

تُرى كيف نتصور وجود مسجد في فلسطين في زمن النبي محمد (أي قبل احتلال فلسطين من قبل المسلمين)، سواء سمي ذلك بالمسجد الأقصى, أو خلافه؟.

3- "إن تغيير القبلة من القدس إلى المسجد الحرام في مكة جاء دليلاً على أن القدس لم تعد مركز العبادة لأتباع النبي صلي اللّه عليه وسلم؛ ومن ثم لم تعد تستحق الاحترام من جانب المسلمين، وإذا لم يُفهم الأمر على هذا الأساس فإن تغيير القبلة لا يحمل في طياته أي معنى".

4- ويمضي الأدعياء في هذا الهراء فيرون أن الذي بني المسجد الأقصى هو عبد الملك بن مروان؛ ليجذب المسلمين إليه بعد أن استقل عدوه عبد اللّه بن الزبير بالسيطرة على مكة, ومنع عبد الملك الحج (أي أنه قام بعمل يماثل ما قام به أبرهة الأشرم- صاحب الفيل- من بناء كنيسة ليحج إليها العرب بدلاً من الكعبة)؛ لذا شرع عبد الملك بتشييد جامع كبير في القدس, الذي كان بمثابة القبلة الأولى، ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر تقاليد لإعلاء شأن الأهمية الدينية لهذا الجامع, وتحويله إلى ثالث الحرمين".

*****
تُرى لو أن وايزمان, أو بن جوريون, أو شارون تناول هذا الموضوع.. أكان يكتب أشنع وأخس من هذا الكلام الذي أفرزه هؤلاء المغامير الحفاة العراة الذين يحملون أسماء إسلامية؟!!.

وكل هذه الأكاذيب ساقطة بما يأتي:
1- أن الإسراء منسوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهو لا يعجزه شيء، فهو الذي أًُسرى بمحمد ولم يقل سرى محمد.

2- مسألة المسجد وعدم وجوده أيام الإسراء (المسجد الأقصى) لا يعني بالضرورة أن يكون مبنى ذا جدران، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".

وما زلت أذكر كلمة للمستشرق: "ر. ف. بودلي" في كتابه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "وقد عرفت عظمة هذا الدين في صحراء الهرم، إذ رأيت ذلك البدوي ينيخ جمله، ويصلي صلاته في ظل الجمل، فقلت له: هكذا تصلي بلا طقوس وفي غير كنيسة.. هل تقبل صلاتك؟ فقال على الفور: نعم، وذكر قول الرسول محمد: "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا".

3- الهجرة من مكة إلى المدينة ليست في حاجة إلى "بروفة " في اليقظة أو في المنام، فالمسألة ترجع كلها إلى قدرة الله، ولا ننسى أن عشرات من المسلمين هاجروا من قبل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الحبشة، ووفقهم الله في رحلتهم الميمونة.

*****
والإيحاء اللغوي والنفسي للآية يعكس معنى التنزيه والعظمة والقدرة: فسبحان تنزيه وقدرة، ونسبة الإسراء إليه لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرة لا تحدٍّ، وتعظيم لشخصية المُسْري والساري، والعبودية لله تعني العزة والشموخ؛ لأنها التصاق بمنبع العظمة والقوة فهي تذكِّرنا بقوله تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: من الآية 8)، والليل يعكس جو المناجاة والتسبيح، والبركة إنما هي زيادة الخير في الشيء على غير ما عهد الناس، وهناك هادفية سامية منسوبة إلى الله سبحانه وتعالى وهي إراءة النبي.

*****
يقول الراغب الأصفهاني في كتابه القيم "المفردات في غريب القرآن": "البركة": ثبوت الخير الإلهي في الشيء, كثبوت الماء في البِرْكة, ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس, وعلي وجه لا يُحصى, ولا يحصر, قيل لكل ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك, وفيه بركة".

*****
وهناك إجماع إذن على تفسير "حوله" بالمفهوم المكاني: أي ما أحاط بالمسجد الأقصى- أو بيت المقدس- من أماكن وأراضٍ "باركها" الله, أي منحها من الخير ما يزيد على المعهود المتعارف عليه في تقدير البشر وحساباتهم.

ولكن النظر في الآية والسياق القرآني يتسع كذلك إلى تفسير "حوله" بالمفهوم "القيمي", والحول- في اللغة- معناه: القوة والقدرة والبراعة والدهاء.

واستصحاب الواقع التاريخي, واستقراء مراحله وأحداثه المختلفة يقطع بأن "منطقة المسرى"- بيت المقدس وامتدادها- بارك الله في "حَول" من عاش لها, وارتبط بها, ودافع عنها وعمل على تخليصها من الأذى والبغي والعدوان.

ومن الأماكن ما يبعث في نفوس أصحابها, ومن يرتبطون بها- فكريًّا وعقديًّا- طاقات روحية ونفسية تنعكس وتتجسد في أعمال هائلة يعجز عنها الوصف.

*****
وصور "الحول" الذي باركه الله في منطقة المسرى وامتداداتها أكثر من أن تُحصى, نكتفي منها- في مقامنا هذا- بصور منها في القديم, وفي الحديث.

وأظهر الصور قديمًا نراها في معركة حطين (583هـ- 1187م), وهي المعركة التي أنزلت بالصليبيين هزيمة ساحقة, فتحت أمام المسلمين أبواب فلسطين كلها, وكانت بداية قوية لانهيار حكم الصليبيين في المشرق العربي, وقبلها وحّد صلاح الدين- تحت راية الإسلام- مصر والشام والعراق والجزيرة.

كانت قوات الصليبيين لا تقل عن 50 ألفًا, وجيش صلاح الدين لا يزيد على نصف هذا العدد, وتمخضت المعركة عن انتصار ساحق مبين للمسلمين, وقُتل من الأعداء قرابة 30 ألفًا, وأُسر غيرهم آلاف, منهم ملوك وأمراء مثل "الملك غي", والأمير "رينو دي شاتيون".

قال ابن الأثير: "وكثر القتل والأسر فيهم, فكان من يرى القتلى منهم لا يظن أنهم أسر منهم أحد, ومن يرى الأسرى منهم لا يظن أنه قُتل منهم أحد", وكان انتصار حطين نقطة انطلاق لجيش صلاح الدين إلى التحرير الشامل, فتم تحرير قلعة طبرية وعكا, ومجد بابا, والناصرة, وقيسارية, وصفا, وإسكندرونة, والبيرة, وجبل الجليل, وتل الصافية, وتل الأحمر, والسلع, ويافا, وصيدا, ونابلس, وقلعة نابلس, وسبطية, وتبنين, وبيروت, والرملة, وعسقلان, وغزة, وبيت لحم, وبيت جبريل, والنطرون، والخليل, وغيرها من عشرات المواقع والمدن والقرى.

إنه العدد الأقل الذي "بارك الله حوله" فغلب- بل سحق- العدد الأكبر ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾ (البقرة: من الآية 249).

*****
وفي وقتنا الحاضر الذي نعيشه نرى كيف بارك الله حول (أي قوة) انتفاضة الأطفال, وجعل حجارتهم أشد لذعًا ولسعًا على اليهود من الرصاص, وقد رأينا على شاشة التلفاز كيف هرول أعداد من الجنود الصهاينة أمام "قذائف الحجارة" من أيدي أطفال الأقصى, محاولين التماس "سواتر" تحميهم من زخات هذه الحجارة, ورأينا ما لا يقل عن 10 جنود يولون الأدبار في هلع أمام امرأة فلسطينية أرادوا اقتحام بيتها, فرفعت في وجوههم "مذراة" القمح, وهي قطعة خشبية لها أصابع كأصابع الكف يذري بها القمح في الهواء لفصل الحب عن التبن, وعلل بعضهم هربه بأن ما رأه في يد المرأة كان مدفعًا رشاشًا غريبًا له "مواسير" متعددة, وصدق تعالى إذ قال: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاة﴾ (البقرة: من الآية 96)، وإذ قال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ (الأنفال: من الآية 17).

ومن صور "الحول" الذي باركه الله ما رأيناه من بطل حماس "محمود هنود" الذي استطاع أن يهزم خمسمائة من الجيش الصهيوني, ويقتل ثلاثة من ضباطهم ويجرح آخرين, ثم يفلت بعد ذلك من أيديهم.

ورأينا "حماس", وقد ازدادت قوة وحولاً في الجانبين العسكري والسياسي حتى آل إليها قيادة الشعب الفلسطيني بإرادة هذا الشعب.

ورأينا ما سجَّله ويسجله حزب الله من انتصارات باهرة على الجيش الصهيوني, وتحطيمه أسطورة "الجيش الذي لا يقهر", وكيف استطاع هؤلاء المجاهدون أن يزرعوا الرعب في قلوب الصهاينة, ويدخلوهم الجحور والمخابئ لأول مرة في التاريخ، والأمثلة في هذا المقام أكثر من أن تُحصى، وما زالت المقاومة الإسلامية- وقد بارك الله فيها- صامدة تذيق العدو الأمرين ليل نهار، ولم تنهزم المقاومة الإسلامية في غزة أمام همجية اليهود ووحشيتهم، وما زال رجالها يقدمون مزيدًا من الشهداء، ويحققون مزيدًا من الانتصارات.

إنها البَرَكة الإلهية الممتدة التي وسم الله بها "حول" المؤمنين وجهادهم على مدى العصور ما ثبتوا على إيمانهم ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾ (الروم)، وهذا التفسير- ولا شك- يدفع المؤمنين إلى مزيد من اليقين والثقة في نصر الله, ويفتح أمامهم أبواب الأمل الصادق إلى تحقيق النصر المؤزر المبين.

وأخيرًا.. نؤكد للقارئ الحقائق الثلاث الآتية:
1- أن الأقصى في التفسير الثاني يقصد به سكان منطقة الأقصى والمقيمين في فلسطين وما حولها من المؤمنين, وهذا ما يسمى في البلاغة "المجاز المرسل", كما ترى في قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ (يوسف: من الآية 82) والمقصود أهل القرية.

2- أن الفعل الماضي قد يُستعمل في القرآن وفي لغة العرب فيفيد المستقبل والديمومة والامتداد, فالبركة متجذرة في الماضي, وممتدة إلى الحاضر والمستقبل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

3- أن التفسير الثاني الذي عرضناه، أي التفسير القيمي، لا يلغي التفسير المكاني للحول فهو الأصل، وهو الذي أجمع عليه كل المفسرين على وجه التقريب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق