بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 9 يوليو 2010

بين يدي الإسراء

ونحن نعيش في هذه الأيام مع ذكرى الإسراء والمعراج؛ يحتاج المسلم أن يقف أمامها وقفةَ اتعاظٍ وعبرة؛ لأن تذكر قضية الإسراء، أو قضية قصص القرآن، أو قصص السنة، أو قصص السيرة ليس المقصود منه مجرد سرد قصص وحكايات وروايات قد يكون معظمنا يحفظها عن ظهر قلب، لكن هذا القصص جاء لغاية ولهدف قال عنه الحق جلَّ وعلا: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾ (يوسف).

عبرة، والذي لا يعتبر من ماضيه يعيش تائهًا في مستقبل حياته، وكان الإمام أبو حنيفة النعمان- رضي الله عنه- يقول: "الحكايات عن السابقين أحبُّ إليَّ من كثير فقه؛ لأنها آداب القوم وآثارهم"، وشاهد ذلك قول الحق جل وعلا: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)﴾ (هود).

وقفتنا مع ذكرى الإسراء كجزءٍ من تاريخنا إنما نقصد من ورائها جملة أمور هي:
1- تثبيت قلوب المؤمنين: قال تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)﴾ (هود)، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)﴾ (الأنعام)، وقال الجنيد- رحمه الله-: "الحكايات جندٌ من جند الله عزَّ وجلَّ يقوي بها إيمان المريدين".
2- أنها سبيل إلى معرفة سِيَر أهل الصلاح والاقتداء بهم: قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)﴾ (الأنعام).
3- أنها سبيل إلى أخذ العبر والدروس من السابقين: قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾ (يوسف)، وما أصدق الشاعر حين يقول:
اقرؤوا التاريخ إذْ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
4- معرفة السنن الكونية من سنن التمكين والنصر ونهاية الظالم ونصر المؤمنين الصادقين ولو بعد حين: كما قال تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)﴾ (القمر)، وقال سبحانه: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾ (الأنبياء)، وقال جل وعلا: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)﴾ (سبأ)، قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: "وقد قصَّ الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم- خبر ما مضى من خلق المخلوقات، وذكر الأمم الماضين، وكيف فعل بأوليائه، وماذا حلَّ بأعدائه، وبَيَّنَ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيانًا شافيًا".

ولما في القصص التاريخي من فوائد وعبر فإن الله سبحانه قصَّ في كتابه كثيرًا من القصص للأنبياء وغيرهم، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99)﴾ (طه)، وقال تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)﴾ (هود)، والقصص القرآني أحسن القصص كما قال جل وعلا: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)﴾ (يوسف)، أما سبب كونه أحسن القصص فلأسباب ثلاثة أشار إليها القرآن؛ وهي:
1- أنها حق وصدق، وليست من نسج الخيال، قال تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ (الكهف: من الآية 13)، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)﴾ (آل عمران).
2- لأن المخبر بهذه القصص عالم بتفاصيلها ودقائقها؛ لكمال علمه وإحاطته سبحانه، قال تعالى: ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)﴾ (الأعراف).
3- أنه لا يذكر في هذا القصص شيء إلا لفائدة، وما أُهمل شيءٌ إلا لعدم الانتفاع بذكره؛ ولذا لما ذكر سبحانه اختلاف أهل التاريخ من أهل الكتاب في عدد أهل الكهف قال سبحانه: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ (الكهف: من الآية 22)؛ ولذا يجد المتأمل في الطريقة القرآنية في تزكية النفوس باستخدام القصص التاريخي السبيل الناجح المحبب إلى النفوس لإصلاحهم، وقد أمر سبحانه نبيه باستخدام هذه الطريقة فقال جل وعلا: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 176).

من أجل ذلك كان حديثنا عن الإسراء، وبناءً على ما تقدَّم فإن المسلم يحتاج إلى هذه الوقفات مع التاريخ؛ ليستطيع مواجهة ومعايشة الواقع المعاصر فعندما تأتي ذكرى الإسراء يقف المسلم ليتعلم كيف ضحَّى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام في سبيل هذا الدين بكل غالٍ وثمين؛ ضحوا بأنفسهم وأموالهم وأولادهم وأهليهم وأوطانهم؛ ليصل إلينا هذا الدين كما وصل، ثم ينبغي على كل منا أن يسأل نفسه بعد ذلك ماذا قدمت أنا للإسلام؟ ماذا قدمنا لهذا الدين المظلوم الذي ظلمناه بتقصيرنا في حقه قبل أن يجرؤ أعداء الإسلام على ظلمه، بل إنهم ما تجرءوا على انتهاك أعراضنا، وتدنيس مقدساتنا وسفك دمائنا وتشريد أهلينا وحصار إخواننا إلا يوم أن هان الإسلام على أنفسنا عندما تأتي ذكرى الإسراء نقف لنتعلم كيف أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام- رضوان الله عليهم- عقدوا صفقة مع خالقهم، باعوا فيها واشتروا وفوا مع ربهم؛ فوفَّى الله لهم وهذه الصفقة معروضة الآن على كل واحد منا كان قوام هذه الصفقة: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24).

هذه قضية الإسراء؛ ولذلك فإن حادث الإسراء جدير بأن نقف أمامه وقفة اتعاظ وعبرة نتفهم مغزاه ونتأمل مرماه ونسترشد به فيما نتعرض له من محن الحياة، وحياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- سجل حافل يزخر بالأحداث الكريمة، والذكريات التي تبعث في النفوس الأمل إذا حاق بها اليأس وترشد إلى منهج الخلاص إذا اشتدَّ بها الخوف والقلق.. ذكريات عظيمة لسنا بصدد إحصائها فهي تفوق الحصر، ولكن لعل من أعظم ومضاتها ذكرى الإسراء التي نقف معها اليوم نحاول أن نتلمس من خلالها درسًا بليغًا يقود الأمة وسط المدلهمات إلى شاطئ الأمان كما فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؛ لنعد إلى التاريخ نستقصي أخباره ونتنسم أسراره ونتعرف آثاره، ونستبين الأجواء التي سبقت هذه النفحة الإلهية والمنحة الربانية، ولنعلم من خلال هذا الاستقراء أن التاريخ يعيد نفسه، والسعيد من اتعظ بهذا الماضي وذلك التاريخ.

عاش الرسول- صلى الله عليه وسلم- أيام الدعوة الأولى وهو ينعم بأنيسين أم المؤمنين خديجة- رضي الله عنها- التي كانت بمثابة الحماية الداخلية لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- تؤنسه في المنزل وعمه أبو طالب الذي كان بمثابة الحماية الخارجية لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يؤنسه خارج المنزل، نعم كانت أم المؤمنين خديجة نموذج الزوجة الصالحة التي بادرت أول عهد النبوة بتصديقه وسارعت فورًا ودون إبطاء إلى الإيمان به ووضعت مالها تحت تصرفه تواسيه بنفسها ومالها وتخفف عنه.

وعلى الجانب الآخر كان أبو طالب يمنعه من أذى أعدائه ويدفع عنه كيد خصومه ويقف إلى جانبه إذا دهمه خطب أو ألمَّت به نازلة أو حزبه أمر.

هكذا كان كل منهما عونًا له في نائبات الأمور وسندًا له في الشدائد من الحوادث، فإذا ما تلبَّد الجو أمامه وأظلمت الدنيا في عينيه وساءت معاملة قومه له ولاقى ما لاقى من عنتِ قومه عاد إلى منزله فتتلقاه زوجته البارة تقابله بابتسامة حانية فينشرح صدره ويرتاح قلبه ويهدئ فؤاده وتسكن جوارحه ولا يكاد يبادلها الحديث ويفضي إليها بأحزانه وآلامه حتى تُبدد عنه كل ألم وتُسرِّي عنه كل هم وتفتح في وجهه كل أبواب الأمل "كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر"، فيخفف الله بها عن نبيه تصدقه وتهون عليه أمر الناس فيخرج نشطًا فتيًّا يدعو إلى الله من جديد صابرًا محتسبًا.

فإذا أعرض عنه قومه، وكادوا له وأرادوا النيل منه ودبروا عليه وقف أمامهم أبو طالب يذبُّ عن ابن أخيه ويحوطه ويحميه ويشد أزره ويقويه "يا ابن أخي، اذهب فقل ما شئت فوالله لا أسلمك لشيءٍ أبدًا" تساوم قريش أبا طالب ويقايضوه على محمد في مقابل عمارة بن حمزة فيقول لهم: "بئس ما تعرضون عليَّ؛ تعطونني ابنكم أغذيه لكم وأعطيكم ابني لتقتلوه".

هكذا كانت تواسيه خديجة، وهكذا كان يعينه أبو طالب، وفي عام واحد وقُبيل الإسراء ماتت أم المؤمنين خديجة ومات عقبها أبو طالب، فاتسع نطاق الإيذاء أمام الأعداء، فَقَدَ الرسول صلى الله عليه وسلم الزوجةَ الصالحةَ والشريكةَ الوفيةَ التي كانت تغمره بحنانها وتعينه بمالها، ثم فَقَدَ الرجل الذي كان يحيطه بعنايته ويدافع عنه فتراكمت المتاعب على نفسه وتكاثرت الأحزان على فؤاده وقلبه حتى سَمَّى هذا العام بعام الحزن، ولا غرابةَ فقد يخرج من بيته ليستقبل أذى قومه في عنف وبدون رحمة أو شفقة أو إنسانية ثم يعود إلى بيته ليجد الكآبة والوحشة ولم تغبْ عن قريش تلك المعاناة، وهذه المأساة، فضاعفوا من كيدهم وبالغوا في أذاهم له عساهم يدركون منه مآربهم، وعسى أن يستبدَّ به الهم- كما كانوا يتصورون- فيكفيهم أمره ويموت من فرطِ الألم والحسرة.

وهنا أدرك النبي- صلى الله عليه وسلم- أن مكة أصبحت لا تصلح أن تكون نواةً لبناء دولة الإسلام، وأن بقاءه فيها بينهم غير مأمون ولا ميسور فخرج إلى الطائف يدعو الناس إلى الإسلام ما طلب منهم جاهً ولا سلطانًا ولا مقابلاً لدعوته، بل عله يجد فيهم ومن بينهم مصدقًا وناصرًا ومؤازرًا ومعينًا أو حتى موقرًا، ولكن القوم في الطائف كانوا أشدُّ كفرًا وعنادًا، فقال لهم النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إن أبيتم إلا ما أنتم عليه فاكتموا عني خبركم"، لكن القوم كانوا قد تجردوا من أدنى مشاعر الرحمة والشفقة والإنسانية فما كاد النبي- صلى الله عليه وسلم- يعرض عليهم دعوته حتى قابلوه بالسخرية والتهكم والازدراء بل وسلطوا وأغروا به سفهاءهم يرمونه بالحجارة فأدموا قدميه الشريفتين، وهنا يعلمنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قيمة اللجوء إلى الله في وقت الشدة فالتجأ إلى حائط حديقة لعتبة وشيبة ابني ربيعة، يرفع يده إلى السماء بعد أن تخلَّى أهل الأرض عن دعوته بدعاءٍ يفيض إيمانًا ويقينًا، بل ورضًا بما ناله في سبيل الله "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله".

واضطر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعود إلى مكة مكروبًا كاسف البال حزين النفس مغموم الفؤاد، فما استطاع أن يدخلها إلا في جوار رجل مشرك (المطعم بن عدي)، كانت هذه الظروف القاسية والجو القاتم والأحوال الكئيبة والأوقات الرهيبة اللحظات العصيبة هي ملابسات الإسراء والمعراج نلمح من خلالها أهم وأبرز سمات المرحلة التي سبقت الإسراء، وهي قضية الابتلاء الذي جعله الحق جل وعلا أحد أهم وأبرز سمات الإيمان والدعوة فطبيعة الإيمان تستلزم الابتلاء ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾ (العنكبوت)، فهي سنة من سنن الله في خلقه جعلها الحق جلَّ وعلا قرين الإيمان، ودليل الصدق، وتمييزًا للصف المسلم ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)﴾ (آل عمران).

فالأمر كما يصوره الشهيد سيد قطب- رحمه الله- في ظلاله: إنه الطريق الذي لا طريقَ سواه ليثبت على هذه الدعوة أصلب الناس عودًا الذين يتحملون أعباءها بالصبر عليها.. هؤلاء هم الذين يصلحون لحملها فهم عليها مؤتمنون، ثم إنَّ الله يعلم حقيقةَ هذه القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في الواقع ما هو معلوم ومكشوف لعلم الله فيكون الحساب على ما وقع من العمل، لا على مجرد علم الله بأمرهم، ثم إنه الإعداد لتحمُّل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعداد خاص، لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات والنفس تصهرها الشدائد، وكذلك يفعل الابتلاء فلا يصمد إلا الأصلب عودًا والأقوى طبيعة، والأشدُّ اتصالاً بالله وأصحاب الثقة فيما عند الله من النصر أو الأجر، انتهى كلامه بتصرف.

ثم إن الابتلاء له فوائد أخرى؛ أبرزها أنه يعلم النفس طبيعة ضعفها وضرورة إنابتها إلى الله والإقبال عليه تضرعًا ودعاءً وترويض النفس بالصبر على الابتلاء.

كما قلنا كانت هذه هي الظروف التي سبقت الإسراء والمعراج، وبعد أن ضاقت الأرض على نبينا صلى الله عليه وسلم جاءته الدعوة من ربِّه ليرحل إلى المسجد الأقصى ثم إلى السماوات العلى فما فوقها ليحظى بحضرةِ الذات الإلهية في جوٍّ يُثبت الله به فؤاده ويشرح به صدره ويرفع به ذكره.

هيَّأ الله له هذه الرحلة ليطرد عنه ما تراكم على قلبه من هموم وما تكدس في فؤاده من متاعب وعناء وإرهاق، وليشعر ببرد الراحة والطمأنينة والسكينة في معية الله، فهو يشعر برعاية الله له فهو في كنفه وحمايته وحفظه ثم ليعلم أنه إن هان على الناس فهو عزيزٌ عند رب الناس، وإذا أساء أهل الأرض استقباله وتجهموا وتنكروا له فقد لاقاه أهل السماء بالحفاوة التي تليق به، وأخيرًا وهو الأهم ليطمئن على مستقبل دعوته فيستيقن بأن ساعةَ الانطلاق والتمكين والتحرر والعزة والرفعة والكرامة والعلو والسيادة قد وافت وأطلت بشائرها واقتربت ساعتها وبدأت طلائعها وحانت سيادتها ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾ (القصص).

وبعد.. فإن ذكرى الإسراء والمعراج التي تأتي لتذكِّرنا بأمانة هذا الدين الذي ارتضاه الله لهذه الأمة واستأمنها عليه؛ تأتي في ظروفٍ قريبةِ الشبه من الظروف التي واكبت حدوثها، تأتي لتهتف بالمسلمين وتصرخ في وجوههم أنْ هبُّوا فقد طال رقادكم، وانتبهوا من نومكم، واستيقظوا من سباتكم فإن الدنيا بأسرها تنتظر عودتكم وتحنُّ للقياكم، واستعدوا لهذا بالفهم والإخلاص والإيمان والعمل الصالح الدءوب والجهاد لتحقيق التمكين والصبر والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوَّة التي تكفل ترابط الأمة ثم الثقة التي لا تهتز ولا تتأثر بالمعوقات ولا العقبات ولا الابتلاءات.

لا تركنوا إلى الأرض، بل تعلموا من معراج نبيكم أن تحلقوا بأعمالكم وأمالكم ودينكم ودنياكم كما حلَّق نبيكم من وسط المحنة والابتلاء في الآفاق العليا، واجتاز السبع الطباق.

لا يثنِكم ما ترون من أحداث الزمان والوقت الراهن وما تشاهدون من مكائد البشرية والمخذولين من بعض أبناء الأمة، فقد علَّمكم الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تستهينون بالآلام وتنهضون منها بالآمال، مستعينين في ذلك كله بالله، راجين منه أن يمدكم بالعزم الأكيد، وأن يوفقكم بالعمل السديد.

لا تدعوا المسجد الأقصى يهدِّده أبناء القردة والخنازير ممن لعنهم الله، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، اتَّحِدوا ووفِّروا جهودكم ودماءكم وأموالكم لملاقاة أعدائكم أعداء الدين، مستعينين بما أمركم الله به ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾ (الأنفال)، كافحوهم بكل سلاح حتى تستردوا أوطانكم المسلوبة، وكرامتكم المهدرة، وتستعيدوا حقكم المغصوب، وتؤمِّنوا البيت الذي أسري إليه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتحه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحرَّره صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، مستشعرين في هذا كله معية الله وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)﴾ (الحج).

وحِّدوا صفوفكم فعسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون، والله معكم ولن يتركم أعمالكم، وما أعظمها من مهام، وما أثقلها من تبعاتٍ يراها الناس خيالاً ويراها المسلم حقيقةً، ولن نيأس أبدًا ولنا في الله أعظم الأمل ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21)، ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: من الآية 51).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق