بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 9 يوليو 2010

دروس من رحلة الإسراء والمعراج

عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على ما يزيد على عشرين قبيلةً، يدعوهم إلى الإسلام، فما آمن به إلا غلام نصراني واحد، يسمى عدَّاس، وأعرضت جميع القبائل عنه، وأغرت به سفهاءهم، فقذفوه بالحجارة، حتى دميت قدماه، وعاد مطرودًا إلى مكة؛ حيث دخلها في جوار رجل مشرك هو المطعم بن عدي، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الإعراض، ورفض أن يدعو عليهم بالهلاك، بل دعا لهم بالهداية؛ فكان صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء).

2- سرى الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الحزن الذي أصابه من إعراض القبائل عنه، فأرسل له طائفةً من الجن، استمعت للقرآن، فآمنت به، وأيَّدت دعوته صلى الله عليه وسلم، وحملوا هذه الرسالة إلى قومهم لينذروهم بها، فكانوا أحسن قبولاً وإجابةً من الإنس.. قال تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)﴾ (الجن)، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (32)﴾ (الأحقاف). فكأنها رسالة من الله لنبيه تقول: إذا كان الإنس كذبوك؛ فإن الجن قد صدقوك، وإذا كان أهل الأرض طردوك فإن أهل السماء استقبلوك، وإذا كان بعض البشر أذوك، فإن الله تعالى كرمك باستقبال الملائكة والأنبياء في السماء.

فهل نحن حملنا الرسالة وبلغناها مثل الجن؟ والنبي صلى الله عليه وسلم مدحهم، فقال: "إنهم كانوا أحسن منكم جوابًا"، حينما سمعوا قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)﴾ (الرحمن). قالوا: "ولا بشيء من آلائك نكذب يا ربنا".

3- بدأت الرحلة من المسجد الحرام بمكة؛ لبيان أهمية هذا المسجد في الإسلام، فهو أول بيتٍ وُضِعَ للناس، بنته الملائكة، ورفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، يطوف حوله البشر بالليل والنهار، فإذا توقف البشر طافت الملائكة، فبيت الله الحرام- وهو الكعبة- يعلِّم المسلمين التوحيد الخالص لله عز وجل، والوحدة والترابط فيما بينهم؛ لأنه يربطهم بالله الواحد الأحد، ويتجهون إليه جميعًا من أي مكان في العالم للصلاة، فهو نقطة الدائرة بالنسبة إلى أي مسلم في العالم.

4- كانت الرحلة إلى المسجد الأقصى بفلسطين، إشارةً إلى انتقال القيادة والريادة من أمة اليهود، الذين عاثوا في الأرض فسادًا، فلم يعودوا يصلحون لقيادة البشرية إلى أمة جديدة، صاحبة رسالة وهداية؛ هي أمة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).

5- أرض فلسطين وما حولها أرض مباركة، بركة حسية ومعنوية، فيها بيت المقدس؛ أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش هناك أغلب الأنبياء، ودفن هناك إبراهيم ولوط ويعقوب ويحيى وزكريا عليهم السلام.

لقد مدحها الله في القرآن الكريم في خمسة مواضع؛ وهي أرض إسلامية صرفة، ليست ملكًا لحاكم ولا لشعب، وإنما هي ملك للإسلام والمسلمين في كل مكان، وهذا يبيِّن واجبنا نحوها ونحو أهلها والمقدسات التي على أرضها، وفي الحديث: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك" (الحديث أخرجه الإمام البخاري (7460)، عن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما).

وفي رواية: (قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: "في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس".

وكل البلاد الإسلامية التي تحيط بها من أكناف بيت المقدس.

6- شرب النبي صلى الله عليه وسلم اللبن بدلاً من الماء والخمر، إشارةً إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار الفطرة، وهي التي يولد الناس عليها، وقال جبريل عليه السلام (هديت إلى الفطرة)، قال تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه﴾ (الروم: من الآية 30).

ونتعلم أن سريرة المسلم- وقلبه- يجب أن تكون بيضاء نقية مثل اللبن، فلا يضمر شرًّا، ولا يعرف حقدًا، ولا يظهر خلاف ما يبطن، وإنما باطنه أفضل من ظاهره.

7- إمامة النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمرسلين السابقين في بيت المقدس، إشارةً إلى مكانة النبي عند ربه؛ حيث جعله إمامًا لجميع الأنبياء والمرسلين، وإشارة إلى وحدة الرسالات السابقة في المصدر والهدف والغاية، فمصدرها جميعًا من الله، وهدفها تعبيد الناس إلى الله، وغايتها مرضاة الله تعالى، فالأنبياء جميعًا إخوة فيما بينهم، كل واحد يؤدي دوره، ويأتي من بعده ليكمل الرسالة، وفي الحديث: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأتمها إلا موضع لبنة؛ فكان الناس يقولون: لولا هذه اللبنة، فأنا هذه اللبنة.." (الحديث أخرجه الإمام البخاري (3641) عن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما).

8- المشاهد التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج؛ إشارات إلى تحذير الأمة من هذه الانحرافات؛ حيث كانت العقوبات الشديدة المنفرة، فيحذِّر النبي الأمة من هذه الآفات مثل الربا، والزنا، وأكل مال اليتيم؛ لأنها أمراض اجتماعية تدمِّر الأفراد والمجتمع.

فالربا: يجعل الغني يمص دم الفقير، ويزداد بمال الفقير غنًى، ويزداد الفقير فقرًا وضعفًا، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ﴾ (البقرة: من الآية 275).

والزنا: يخلط الأنساب، ويفتح أبواب الشر والفساد، وينشر الأمراض والأوباء، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32)﴾ (الإسراء).

وأكل مال اليتيم جريمة ظالمة، تجعل من الحارس لصًّا، ومن الراعي ذئبًا، فمن أجل ذلك صوره القرآن بأنه يأكل نارًا في بطنه، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)﴾ (النساء).

9- فرضت الصلاة في السماء في رحلة المعراج، إشارة إلى أهمية الصلاة في الإسلام؛ حيث هي أحد الأركان الخمسة، قال صلى الله عليه وسلم فيها: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (الحديث أخرجه الإمام الترمذي (2621)، وقال: صحيح غريب حسن. عن بريدة بن الحصيب الأسلمي).

فالصلاة معراج للأرواح والنفوس، خمس مرات كل يوم في الأداء، وخمسون في الأجر والثواب عند الله تعالى، وإشارة إلى أن المسلم يسمو بنفسه وروحه فوق الشهوات والشبهات، ودائمًا يتطلع إلى المعالي، ويتعلَّق بالمثل الأعلى في كل شيء من قيم الحياة، فلا يرضى بالدون أو المؤخرة.

10- أيضًا أهمية العبودية في الإسلام؛ حيث مدحها الله، ووصف بها نبيه في مطلع سورة الإسراء، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير (1)﴾ (الإسراء). وفي آخر سورة النحل، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)﴾ (النحل).

فبالتقوى والإحسان يصل الإنسان إلى مرتبة العبودية، التي هي من أعظم الصفات، وهي نهاية الخضوع، وقمة الشعور بعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

نسأل الله أن يردَّ المسجد الأقصى إلى حظيرة الإسلام والمسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق