بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 6 مارس 2010

خواطر شهر رمضان العظيم


﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ المائدة: من الآية 3) ها هو ذا شهر رمضان العظيم أطل علينا بوجهه المشرق المنير، وطالع الأمة الإسلامية فاستيقظت معه القلوب، وتتنبهت المشاعر، ويهتف في قلب كل مسلم صوت من أصوات الحق "يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير هلم.
ها هو ذا شهر رمضان العظيم شهر الوحي والتنزيل، ﴿الذي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ بقرة: من الآية 185) أطل على أمة القرآن، فإذا بها تتهيَّأ لبناء ركن من أركان الإيمان، مستجيبة لنداء الحق تبارك وتعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ والصوم عبادة من العبادات التي ندب الحق إليها عباده، وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا يتم إلا بها ولا يكمل إلا معها، والمفطر في رمضان بغير عذرٍ آثم مجرم في حق نفسه، مُفرِّط في جنب الله، مستهتر بشعور الناس، خارج على أدب أمته وملته، يجب أن يحاسب على هذا حسابًا عسيرًا بيد المجتمع، فيزدري ويحقر وبيد القانون فيؤاخذ ويعزر، ولعذاب الآخرة أشد وأكبر لو كانوا يعلمون. وشهر الصوم فرصة تتاح في كل عام مرة، حيث تفتح أبواب السماوات، وتتنزل رحمة الله على عباده بالبركات، وينظر الله تعالى إلى عباده في أيامه ولياليه، فيستجيب للداعين، ويضاعف مثوبة الطائعين، ويمن بالمغفرة والقبول على المذنبين والمقصرين ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)
واذا وقفنا برهة أمام تشريع الإسلام في العبادات لوجدنا العجب العجاب من هذا التشريع الحكيم والوضع الكريم السليم الذي وُضعت على قواعده هذه العبادات. فليست العبادات في الإسلام ضرائب تُؤدى أو واجبات تُقضى، أو فرائض تُفرض فحسب، ولكنها مظهر الصلة بين الله وخلقه، ومشرق النور في قلوبهم من ملكوته، والحجاب بينهم وبين وساوس الإثم ونزواته، ونمط من أنماط التكريم للإنسان إذ يسعد فيها بمناجاة العليم الخبير الذي بيده ملكوت كل شيء. تلك هي العبادات الإسلامية في معناها الروحي، ثم انظر بعد ذلك على أي القواعد وُضعت.
فالعبادات في الإسلام لا كلفةَ فيها ولا حرج، ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ وُضعت على البساطة التامة والتخفيف الكامل الذي لا يؤذي أحدًا ولا يؤلم إنسانًا، ووضعت إلى جانبها الرخص والكفارات التي تعفي غير القادر من العمل مع الإبقاء على حرمة التشريع وقداسة القانون، فمَن لم يستطع الوضوء تيمم، ومَن لم يستطع الصوم الآن قضى بعد حين أيامًا معدودات، وإن لم يستطع مطلقًا ففدية طعام مسكين، ومَن سافر فله أن يجمع الصلوات وأن يقصرها وله أن يصوم وله أن يفطر، ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
ثم هذه العبادات بعد ذلك لكل عبادة منها معناها الاجتماعي، ومغزاها العملي فليست ألغازًا محجوبةً وليست طلاسم مجهولة، وليست ألفاظًا خالية من المعاني، وليست ضروبًا من الشعوذات في الأعمال والمباني، ولكنها أقوال أو أفعال لها في النفس أثرها، ولها في المجتمع خطرها، ولو تعمدت إلى واحدة منها بالتحليل وإمعان النظر لوجدت من حكمها ودقائق أسرارها ما يبهر الأفهام والفكر، فهذه الصلاة برنامج كامل لتربية الفرد الكامل والشعب الكامل، وهذا الصوم تحرير للنفس الإنسانية من قيود العادات وأدران الشهوات وتقوية للإرادة في الخير حتى تنتصر دائمًا على نزعات الشر، وفيه بعد ذلك مآرب أخرى، وإن أسمى ما يحرص عليه الإنسان أن يكون حرًَّا وبذلك يمتاز عن الحيوان، ومَن تحرر من أهواء نفسه فقد ملك أمره وعلى هذا القياس كل العبادات الإسلامية وما انطوت عليه من خير للناس.
ثم هذه العبادات بعد ذلك لا تعمل عملها ولا ينال العابد ثوابها حتى تصدر عن وحي نفسه وتنبع من أعماق قلبه، فالنية الصالحة شرط في صحتها وقبولها وإخلاص القصد ركن من أركان ثوابها، ونية المرء خير من عمله، وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلٍّ امرئ ما نوى، فلن يرفع إلى الله عمل لا إخلاص معه ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ (والأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها فليست الحركات والسكنات والأقوال والإشارات بمغنية عن صاحبها شيئًا ما لم يصحبها قلبٌ خاشعٌ مخبتٌ صادق التوجه إلى الله العلي الكبير. تلك بعض خصائص العبادات في ديننا، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (النساء: من الآية 82)، فالحمد لله على نعمة الإسلام.
أيها الموجدون إن كل إنسان منا هو في الحقيقة تاجر، وبضاعتك هي عملك الذي تقدمه كل يوم، وسوف تعرف الربح والخسارة إذا نُصبت الموازين يوم القيامة، فهنالك يظهر الرابحون الفائزون، ويظهر الخائبون الخاسرون. وبما أن كل إنسان منا تاجر؛ إذاً فكيف نتاجر مع الله؟! أقول: إن الله تبارك وتعالى قد جعل لنا -نحن التجار- مواسم للتجارة، وكل أيام العام فيها تجارة؛ لكن هناك مواسم زمانية -كشهر رمضان- تضاعف فيها الأرباح، وتكون التجارة فيها أعظم منها فيما سواها. وكذلك جعل مواسم مكانية لهذه التجارة، فهناك أمكنة للتجارة أرباحها مضاعفة أضعافاً كثيرة عن غيرها من الأمكنة؛ فالبلد الحرام الطاعة فيه مضاعفة. فمثلاً: الصلاة في المسجد الحرام ليست كالصلاة فيما سواه لشرف المكان. وأيضاً: فإن شرف الزمان -كما هو الحال- في شهر رمضان له أثره في أن تكون الطاعة أكثر أجراً وأكثر قبولاً، فجعل الله تعالى هذا الشهر موسماً لذلك؛ ولهذا لما علم الجيل الأول بذلك، ظهر هذا في أعمالهم وفي حياتهم، فقد ورد أن الصحابة الكرام كانوا يدعون الله تبارك وتعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان؛ فإذا صاموه دعوا الله تبارك وتعالى ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان. فالحول كله تفكير في رمضان واهتمام بشأنه، إما استقبالاً له، وإما رجاءً أن يُتَقَبَّلْ؛ لأنه أشرف ما في العام، فكان الصحابة الكرام يتاجرون طوال العام بالذكر، وبالجهاد، وبقراءة القرآن، وبالصدقة، وبالتفكر في ملكوت السموات والأرض؛ لكن! إذا جاء هذا الشهر؛ ضاعفوا ذلك وغيَّروا طريقة حياتهم، واستقبلوه استقبال البصير العالم بقيمته وأهميته.وهكذا كان العلماء من السلف وهم الذين أناروا للأمة طريقها بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وببيان الأحكام، وهم الذين قاموا مقام الأنبياء، وورثوا ميراث النبوة، { وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم }. فهؤلاء العلماء كانوا إذا جاء شهر رمضان، يتركون العلم، ويتفرغون لقراءة القرآن، حتى قال بعضهم: [إنما هما شيئان: القرآن والصدقة ]. لان هذا الشهر هو موسم الخير تترك فيه الأعمال الفاضلة إلى ما هو أفضل منها، فهذا حالهم وهذا شأنهم.
فما هذه الأيام والليالي إلا رواحل، تنقلنا من دار إلى دار، وتقربنا من دار هي الدار الآخرة، وتباعدنا عن هذه الدار الدنيا، لكن من الذي يستشعر ذلك؟! وكما قال بعض السلف : الأيام والليالي خزائن، فضع في خزينتك ما شئت، فسوف تلقاه. فإن وضعت ذهباً وفضة، وجدت النهاية هناك ذهباً وفضة، وإن وضعت تراباً أو فحماً أو حصىً، فإن الخزائن هناك إذا فتحت تجد فيها ما وضعت، فهذه الليالي والأيام هي بهذه المثابة.وإن الله تبارك وتعالى قد فضَّل هذا الشهر على سائر الشهور، وكان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهم أكثر الأمة اجتهاداً وعبادةً واعتباراً واتعاظاً- يقدرون لهذا الشهر قدره؛ تأسياً واقتداءً بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فهذا الشهر هو شهر الصبر وشهر التقوى وشهر الكرم والجود، وإن ديننا هذا يقوم على أمرين: على الصبر وعلى الشكر، وأساس ذلك اليقين، لهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [الصبر شطر الإيمان، واليقين الإيمان كله].
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين، ونادى منادٍ من قبل الحق تبارك وتعالى: يا باغي الشر أقصر ويا باغي الخير هلم".
يقول الصحابي عبد الرحمن بن سمرة : إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه بعد صلاة فجر أحد الأيام من بيته ، فوقف على الصفة – بمسجد المدينة – يقول لهم :" إني رأيت البارحة عجباً رأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا ، كلما دنا من حوض منع وطرد ، فجاءه صيام شهر رمضان فأسقاه وأرواه "، وهذا دليل على شدة الموقف يوم القيامة ، وقد تكون أعمال ذلك الرجل ضعيفة ، يضيّع كثيراً من الحقوق ، فلم يؤهله رصيده الأخروي للدنوّ من الحياض إلا بشفاعة أو إذن ، فلما وصله الدعم الإلهي والرحمة الربّانيّة - وقلْ : وصلته بطاقة السماح ، وهي الصيام ،كما قال تعالى : في الحديث القدسي : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " لما للصيام من ثواب كبير وأجر عظيم – جاءه الفرج فروى ظمأه ، نسأل الله تعالى أن يروينا بيد الحبيب المصطفى شربة لا نظمأ بعدها أبداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق