جمع الله سبحانه وتعالى في نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم صفات الجمال والكمال البشري ، وتألّقت روحـه الطاهرة بعظيم الشمائـل والخِصال ، وكريم الصفات والأفعال ، حتى أبهرت سيرته القريب والبعيد ، وتملكت هيبتهُ العدوّ والصديق ، وقد صوّر لنا هذه المشاعر الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله عنه أبلغ تصوير حينما قال :
وأجمل منك لم ترَ قط عيني وأكمل منك لم تلد النساء
خُلقت مبرّأً من كل عيب كأنك قد خُلقت كما تشاء
فمن سمات الكمال التي تحلّى بها – صلى الله عليه وسلم - خُلُقُ الرحمة والرأفة بالغير ، كيف لا ؟ وهو المبعوث رحمة للعالمين ، فقد وهبه الله قلباً رحيماً ، يرقّ للضعيف ، ويحنّ على المسكين ، ويعطف على الخلق أجمعين ، حتى صارت الرحمة له سجيّة ، فشملت الصغير والكبير ، والقريب والبعيد ، والمؤمن والكافر ، فنال بذلك رحمة الله تعالى ، فالراحمون يرحمهم الرحمن .
وقد تجلّت رحمته صلى الله عليه وسلم في عددٍ من المظاهر والمواقف ، ومن تلك المواقف :
رحمته بالأطفال: كان صلى الله عليه وسلم يعطف على الأطفال ويرقّ لهم ، حتى كان كالوالد لهم ، يقبّلهم ويضمّهم ، ويلاعبهم ويحنّكهم بالتمر ،كما فعل بعبدالله بن الزبير عند ولادته .
وجاءه أعرابي فرآه يُقبّل الحسن بن علي رضي الله عنهما فتعجّب الأعرابي وقال : " تقبلون صبيانكم ؟ فما نقبلهم " فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : ( أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة ؟ ) .
وصلى عليه الصلاة والسلام مرّة وهو حامل أمامة بنت زينب ، فكان إذا سجد وضعها ، وإذا قام حملها .
وكان إذا دخل في الصلاة فسمع بكاء الصبيّ ، أسرع في أدائها وخفّفها ، فعن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي ،فأتجوز في صلاتي ، كراهية أن أشقّ على أمّه) رواه البخاري ومسلم.
وكان يحمل الأطفال ، ويصبر على أذاهم ، فعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ( أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي ، فبال على ثوبه ، فدعا بماء ، فأتبعه إياه) رواه البخاري.
وكان يحزن لفقد الأطفال ، ويصيبه ما يصيب البشر ، مع كامل الرضا والتسليم ، والصبر والاحتساب ، ولما مات حفيده صلى الله عليه وسلم فاضت عيناه ، فقال سعد بن عبادة - رضي الله عنه : " يا رسول الله ما هذا؟ " فقال : ( هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) .
رحمته بالنساء : لما كانت طبيعة النساء الضعف وقلة التحمل ، كانت العناية بهنّ أعظم ، والرفق بهنّ أكثر ، وقد تجلّى ذلك في خلقه وسيرته على أكمل وجه ، فحثّ صلى الله عليه وسلم على رعاية البنات والإحسان إليهنّ ، وكان يقول : ( من ولي من البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له سترا من النار ) ، بل إنه شدّد في الوصية بحق الزوجة والاهتمام بشؤونها فقال : ( ألا واستوصوا بالنساء خيرا ؛ فإنهنّ عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) .
وضرب صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التلطّف مع أهل بيته ، حتى إنه كان يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رضي الله عنها رجلها على ركبته حتى تركب البعير ، وكان عندما تأتيه ابنته فاطمة رضي الله عنها يأخذ بيدها ويقبلها ، ويجلسها في مكانه الذي يجلس فيه .رحمته بالضعفاء عموماً
وكان صلى الله عليه وسلم يهتمّ بأمر الضعفاء والخدم ، الذين هم مظنّة وقوع الظلم عليهم ، والاستيلاء على حقوقهم ، وكان يقول في شأن الخدم : ( هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) ، ومن مظاهر الرحمة بهم كذلك ، ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاء خادم أحدكم بطعامه فليقعده معه أو ليناوله منه فإنه هو الذي ولي حره ودخانه ) رواه ابن ماجة وأصله في مسلم .
ومثل ذلك اليتامى والأرامل ، فقد حثّ الناس على كفالة اليتيم ، وكان يقول : ( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، وأشار بالسبابة والوسطى ) ، وجعل الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل ، واعتبر وجود الضعفاء في الأمة ، والعطف عليهم سبباً من أسباب النصر على الأعداء ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( أبغوني الضعفاء ؛ فإنما تنصرون وتُرزقون بضعفائكم ) .
رحمته بالأعداء حرباً وسلماً : فعلى الرغم من تعدد أشكال الأذى الذي ذاقه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الكفار في العهد المكي، إلا أنه صلى الله عليه وسلم قد ضرب المثل الأعلى في التعامل معهم ، وليس أدلّ على ذلك مما حدث عند خروج رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في غزوة ناحية بلاد نجد من أرض الحجاز، وفى طريق عودته-صلى الله عليه وسلم- من تلك الغزوة مر بوادِ به شجر كثير الشوك، في وقت الظهيرة، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الجيش بالتوقف في هذا المكان لينالوا قسطًا من الراحة، فنام الجيش، ونام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تحت ظل شجرة كثيرة الأوراق وقد علق بها سيفه، وبعد فترة نادى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المسلمين فتجمعوا حوله – صلى الله عليه وسلم- ، فإذا برجل أعرابي يجلس أمامه فقال رسول الله- صلى عليه وسلم-: إن هذا الرجل أخذ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وسيفي في يده، فقال لي : من يمنعك منى ؟! (أي من يمنعني من قتلك الآن) ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (في ثبات عظيم وثقة وإيمان بالله) : الله، فارتعد الأعرابي بشدة، ووقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، وقال له : من يمنعك منى ؟ فقال الرجل لا أحد، ولم يقابل النبي الكريم إساءة هذا الأعرابي له بمثلها، بل- صلى الله عليه وسلم- عفا عنه فأسلم الرجل، وعاد إلى قومه، وأخبرهم بخلق النبي، وجميل عفوه وصفحه فأسلم معه خلق كثير.
فَكَانَتْ رَحْمتُه صلى الله عليه وسلم رَحْمةً عَامَّةً شَمِلَتِ المؤْمِنَ وَالكَافِرَ، فَهَا هُوَ الطَّفَيْلُ بْن ُ عَمْروٍ الدَّوْسِيُّ ، يَيأْسُ مِن هِدَايةِ قَبِيلَتِه دَوْسٍ، فَيذْهَبُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهt عليه وسلم وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ دَوْسًا قَد عَصَتْ وَأَبتْ, فَادْعُ اللهَ عَليْها.فَاسْتَقْبَل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم الْقِبلةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَأَيْقَن النَّاسُ بِهَلاكِ دَوْسٍ إِذَا دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وائتِ بِهمْ [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[دَعَا لَهُمْ بِالهِدَايةِ وَالرَّشَادِ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِم بِالعَذَابِ وَالِاسْتِئْصَالِ, لأَنَّه لَا يُرِيدُ للنَّاسِ إِلَّا الخيْرَ وَلَا يَرْجُو لَهُمْ إِلَّا الفَوْزَ وَالنَّجَاةَ.وَيَذْهَبُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى الطَّائِفِ لِدَعْوَةِ قَبَائِلِها إِلَى الْإِسْلَام, فَيُقَابِلَهُ أَهْلُهَا بِالجُحُودِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَيُغْرُوا بِه سُفَهَاءَهُمْ، فَيَضْرِبُوهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ مِنْ عَقِبَيْهِ صلى الله عليه وسلم.وَتَرْوِي عَائِشةُ رَضِي اللهُ عَنْهَا مَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقُولُ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَومٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ - وَكَانَ أَشدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُم - يَوْمَ الْعَقَبةِ، إِذْ عَرضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْد يَا لَيْلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلى مَا أَردْتُ, فَانْطَلقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي, فَنظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْريلُ, فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ؛ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّد! إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ, وَقَدْ بَعَثَنِي اللهُ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِك فَما شِئْتَ؟ إِنْ شِئتَ أَنْ أُطْبِق عَلَيْهِم الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا [متفق عليه[إِنَّها الرَّحْمَةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي جَعلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْسَى جِرَاحَه الَّتِي تَسِيلُ, وَقلْبَه المنْكِسِرَ، وَفُؤادَه المكْلُومَ، وَلَا يَتذكَّر سِوَى إِيصَالِ الخيْرِ لِهؤلاءِ النَّاسِ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور وَهِدَايتَهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ المسْتَقِيمِ.وَيفْتَحُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَيدْخُلُها فِي عَشْرةِ آلافِ مُقَاتِلٍ, وَيُحكِّمُه اللهُ عَزَّ وجَلَّ فِي رِقَاب مَنْ آذَوْه وَطَردُوه وَتَآمَرُوا عَلَى قَتْلِه، وَأَخْرَجُوه مِن بَلدِهِ، وَقَتلُوا أَصْحَابَه وَفَتنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ.فَيَقُولُ أَحَدُ الصَّحَابَةِ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الفَتْحُ الْأَعْظَمُ اليومَ يَوْمُ الملْحَمَة فَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ اليَوْمَ يَومُ المرْحَمَةِ.ثُمَّ يخْرُج النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى هَؤُلاءِ المنْهزِمِينَ وَقَدْ شَخِصتْ أَبْصَارُهمْ, وَوجِلَتْ قُلوبُهمْ, وَجَفَّتْ حُلُوقُهمْ، يَنْتَظِرونَ مَاذا سَيفْعَلُ بِهم هَذا القَائِدُ المنتَصِرُ، وَهمُ الّذِينَ اعْتادُوا عَلى الْغَدْرِ وَالانْتِقامِ وَالتَّمثيلِ بِقَتْلى المسْلِمينَ كَمَا فَعلُوا فِي أُحُدٍ وَغَيْرِهَا.فَقَالَ لَهمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا معْشَر قُرَيْشٍ مَا تروْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟.قَالُوا: خَيْرًا! أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أخٍ كَرِيمٍ.فَقَالَ لَهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ فَانْطلَقوا كَأَنَّهم نُشِروا مِنَ القُبورِ.فَهذَا العَفْو الشَّاملُ نَتيجةُ الرَّحْمةِ الَّتِي فِي قلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالَّتِي عَظُمَتْ لتَشْمَل أكْثرَ أَعْدَائِهِ إِيذاءً لَه وَلأصْحَابِه, فَلَوْلَا هَذِهِ الرحمةُ لما حَدثَ هَذا الْعَفْوُ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ يَقُول: إِنَّما أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ [رَوَاه الحاكم[
رحمته بالبهائم : ذَكَرْنَا أَنَّ الرحمةَ النَّبويَّةَ اتَّسعَتْ لِتشْملَ الْكَافِرَ فَضْلاً عَنِ المسْلِمِ الموَحِّدِ، وَنَزيدُ هُنَا أَنَّ رحْمةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَجاوَزَتِ الجنْسَ البَشَرِيَّ حَتَّى شَمِلَتِ الـحَيوَانَ والجَمَادَ وشملت رحمته صلى الله عليه وسلم البهائم التي لا تعقل ، فكان يحثّ الناس على الرفق بها ، وعدم تحميلها ما لا تطيق ، فقد روى الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته ، فليرح ذبيحته ). وَقَدْ ذَكر أَحدُ الْعُلَماءِ أَنَّ بعضَ الغَرْبِيِّين أَسْلَموا لـمّا عَلِمُوا آدابَ الإِسْلامِ فِي الذَّبْح وَهَذَا يَدلُّ عَلى كَمالِ هَذَا الدِّيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَللهِ الحمْدُ وَالـمِنَّةُ.
ودخل النبي صلّى الله عليه وسلم ذات مرة بستاناً لرجل من الأنصار ، فإذا فيه جَمَل ، فلما رأى الجملُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح عليه حتى سكن ، فقال : ( لمن هذا الجمل؟ ) فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله ، فقال له: ( أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها ؛ فإنه شكا لي أنك تجيعه وتتعبه ) رواه أبو داوود .
ولقَدْ قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَد بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ, ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَىَ مِنَ الْعَطَشِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلَبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ, فَمَلَأ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسولَ اللهِ! وَإِنَّ لَنَا فِي هَذه البَهائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَال صلى الله عليه وسلم: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ [مُتَّفَقٌ عليه[
بِهذِه الْقَاعِدةِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ سَبقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمِيعَ المنظَّماتِ وَالهيْئَاتِ الَّتِي تُعنَى بِالدِّفَاع عَنْ حُقُوقِ الحَيوَان وَالرِّفْقِ بِهِ، سَبَقها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِئاتِ السِّنينَ يَوْمَ قَال: عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هِرَّةٍ, سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ, لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ [متفق عليه[
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْصِدُ بِهذَا تَعلِيمَ أَصْحَابِهِ الرِّفْقَ بِالحيوَانِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْه، وَيُبيِّنُ لَهمْ أَنَّ قَتلَ الحيوَانَ غَيْرِ المأَذْونِ فِي قتْلِه, أَوْ التَّسبُّبَ فِي قَتْلِه يُمكِنُ أَنْ يَكُونَ سَببًا فِي دُخُولِ النَّارِ وَالعِياذُ بِاللهِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا تَعْرِفُه القَوانِينُ الوَضْعِيَّةُ الَّتِي يحكُمُ بِها النَّاسُ اليَوْمَ.
وَحَذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن قَتْلِ الحَيوَانِ بِلَا هَدفٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، إِلَّا سَأَلَهُ اللهُ عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ. قِيل: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا حقُّها؟ قَالَ: حَقُّهَا أَنْ يَذْبَحَهَا فَيَأْكُلَهَا, وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا فَيَرْمِي بِهِ [رواه النَّسائيُّ[
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا [متَّفقٌ عليْهِ] أَيْ لَا تتّخذُوا الحيوَانَ الحيَّ هَدفًا تَرمُونَهُ بِسِهامِكُمْ, لَأَنَّ هَذَا مُنَافٍ للرَّحمةِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى المؤْمنِ أَنْ يتحلَّى بِها.رحمته بالجمادات
ولم تقتصر رحمته صلى الله عليه وسلم على الحيوانات ، بل تعدّت ذلك إلى الرحمة بالجمادات ، وقد روت لنا كتب السير حادثة عجيبة تدل على رحمته وشفقته بالجمادات ، وهي : حادثة حنين الجذع ، فإنه لمّا شقّ على النبي صلى الله عليه وسلم طول القيام ، استند إلى جذعٍ بجانب المنبر ، فكان إذا خطب الناس اتّكأ عليه ، ثم ما لبث أن صُنع له منبر ، فتحول إليه وترك ذلك الجذع ، فحنّ الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمع الصحابة منه صوتاً كصوت البعير ، فأسرع إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه حتى سكن ، ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم : ( لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة ) رواه أحمد .
لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها رحمة ، فهو رحمة ، وشريعته رحمة ، وسيرته رحمة ، وسنته رحمة ، وصدق الله إذ يقول : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ( الأنبياء : 107 )
وأجمل منك لم ترَ قط عيني وأكمل منك لم تلد النساء
خُلقت مبرّأً من كل عيب كأنك قد خُلقت كما تشاء
فمن سمات الكمال التي تحلّى بها – صلى الله عليه وسلم - خُلُقُ الرحمة والرأفة بالغير ، كيف لا ؟ وهو المبعوث رحمة للعالمين ، فقد وهبه الله قلباً رحيماً ، يرقّ للضعيف ، ويحنّ على المسكين ، ويعطف على الخلق أجمعين ، حتى صارت الرحمة له سجيّة ، فشملت الصغير والكبير ، والقريب والبعيد ، والمؤمن والكافر ، فنال بذلك رحمة الله تعالى ، فالراحمون يرحمهم الرحمن .
وقد تجلّت رحمته صلى الله عليه وسلم في عددٍ من المظاهر والمواقف ، ومن تلك المواقف :
رحمته بالأطفال: كان صلى الله عليه وسلم يعطف على الأطفال ويرقّ لهم ، حتى كان كالوالد لهم ، يقبّلهم ويضمّهم ، ويلاعبهم ويحنّكهم بالتمر ،كما فعل بعبدالله بن الزبير عند ولادته .
وجاءه أعرابي فرآه يُقبّل الحسن بن علي رضي الله عنهما فتعجّب الأعرابي وقال : " تقبلون صبيانكم ؟ فما نقبلهم " فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : ( أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة ؟ ) .
وصلى عليه الصلاة والسلام مرّة وهو حامل أمامة بنت زينب ، فكان إذا سجد وضعها ، وإذا قام حملها .
وكان إذا دخل في الصلاة فسمع بكاء الصبيّ ، أسرع في أدائها وخفّفها ، فعن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي ،فأتجوز في صلاتي ، كراهية أن أشقّ على أمّه) رواه البخاري ومسلم.
وكان يحمل الأطفال ، ويصبر على أذاهم ، فعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: ( أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي ، فبال على ثوبه ، فدعا بماء ، فأتبعه إياه) رواه البخاري.
وكان يحزن لفقد الأطفال ، ويصيبه ما يصيب البشر ، مع كامل الرضا والتسليم ، والصبر والاحتساب ، ولما مات حفيده صلى الله عليه وسلم فاضت عيناه ، فقال سعد بن عبادة - رضي الله عنه : " يا رسول الله ما هذا؟ " فقال : ( هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) .
رحمته بالنساء : لما كانت طبيعة النساء الضعف وقلة التحمل ، كانت العناية بهنّ أعظم ، والرفق بهنّ أكثر ، وقد تجلّى ذلك في خلقه وسيرته على أكمل وجه ، فحثّ صلى الله عليه وسلم على رعاية البنات والإحسان إليهنّ ، وكان يقول : ( من ولي من البنات شيئاً فأحسن إليهن كن له سترا من النار ) ، بل إنه شدّد في الوصية بحق الزوجة والاهتمام بشؤونها فقال : ( ألا واستوصوا بالنساء خيرا ؛ فإنهنّ عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) .
وضرب صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التلطّف مع أهل بيته ، حتى إنه كان يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رضي الله عنها رجلها على ركبته حتى تركب البعير ، وكان عندما تأتيه ابنته فاطمة رضي الله عنها يأخذ بيدها ويقبلها ، ويجلسها في مكانه الذي يجلس فيه .رحمته بالضعفاء عموماً
وكان صلى الله عليه وسلم يهتمّ بأمر الضعفاء والخدم ، الذين هم مظنّة وقوع الظلم عليهم ، والاستيلاء على حقوقهم ، وكان يقول في شأن الخدم : ( هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) ، ومن مظاهر الرحمة بهم كذلك ، ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاء خادم أحدكم بطعامه فليقعده معه أو ليناوله منه فإنه هو الذي ولي حره ودخانه ) رواه ابن ماجة وأصله في مسلم .
ومثل ذلك اليتامى والأرامل ، فقد حثّ الناس على كفالة اليتيم ، وكان يقول : ( أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، وأشار بالسبابة والوسطى ) ، وجعل الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل ، واعتبر وجود الضعفاء في الأمة ، والعطف عليهم سبباً من أسباب النصر على الأعداء ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( أبغوني الضعفاء ؛ فإنما تنصرون وتُرزقون بضعفائكم ) .
رحمته بالأعداء حرباً وسلماً : فعلى الرغم من تعدد أشكال الأذى الذي ذاقه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الكفار في العهد المكي، إلا أنه صلى الله عليه وسلم قد ضرب المثل الأعلى في التعامل معهم ، وليس أدلّ على ذلك مما حدث عند خروج رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في غزوة ناحية بلاد نجد من أرض الحجاز، وفى طريق عودته-صلى الله عليه وسلم- من تلك الغزوة مر بوادِ به شجر كثير الشوك، في وقت الظهيرة، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الجيش بالتوقف في هذا المكان لينالوا قسطًا من الراحة، فنام الجيش، ونام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تحت ظل شجرة كثيرة الأوراق وقد علق بها سيفه، وبعد فترة نادى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المسلمين فتجمعوا حوله – صلى الله عليه وسلم- ، فإذا برجل أعرابي يجلس أمامه فقال رسول الله- صلى عليه وسلم-: إن هذا الرجل أخذ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وسيفي في يده، فقال لي : من يمنعك منى ؟! (أي من يمنعني من قتلك الآن) ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (في ثبات عظيم وثقة وإيمان بالله) : الله، فارتعد الأعرابي بشدة، ووقع السيف من يده ، فأخذه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، وقال له : من يمنعك منى ؟ فقال الرجل لا أحد، ولم يقابل النبي الكريم إساءة هذا الأعرابي له بمثلها، بل- صلى الله عليه وسلم- عفا عنه فأسلم الرجل، وعاد إلى قومه، وأخبرهم بخلق النبي، وجميل عفوه وصفحه فأسلم معه خلق كثير.
فَكَانَتْ رَحْمتُه صلى الله عليه وسلم رَحْمةً عَامَّةً شَمِلَتِ المؤْمِنَ وَالكَافِرَ، فَهَا هُوَ الطَّفَيْلُ بْن ُ عَمْروٍ الدَّوْسِيُّ ، يَيأْسُ مِن هِدَايةِ قَبِيلَتِه دَوْسٍ، فَيذْهَبُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهt عليه وسلم وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ دَوْسًا قَد عَصَتْ وَأَبتْ, فَادْعُ اللهَ عَليْها.فَاسْتَقْبَل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم الْقِبلةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَأَيْقَن النَّاسُ بِهَلاكِ دَوْسٍ إِذَا دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنَّ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وائتِ بِهمْ [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[دَعَا لَهُمْ بِالهِدَايةِ وَالرَّشَادِ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِم بِالعَذَابِ وَالِاسْتِئْصَالِ, لأَنَّه لَا يُرِيدُ للنَّاسِ إِلَّا الخيْرَ وَلَا يَرْجُو لَهُمْ إِلَّا الفَوْزَ وَالنَّجَاةَ.وَيَذْهَبُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى الطَّائِفِ لِدَعْوَةِ قَبَائِلِها إِلَى الْإِسْلَام, فَيُقَابِلَهُ أَهْلُهَا بِالجُحُودِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَيُغْرُوا بِه سُفَهَاءَهُمْ، فَيَضْرِبُوهُ بِالحِجَارَةِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ مِنْ عَقِبَيْهِ صلى الله عليه وسلم.وَتَرْوِي عَائِشةُ رَضِي اللهُ عَنْهَا مَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَقُولُ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَومٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ - وَكَانَ أَشدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُم - يَوْمَ الْعَقَبةِ، إِذْ عَرضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْد يَا لَيْلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلى مَا أَردْتُ, فَانْطَلقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي, فَنظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْريلُ, فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ؛ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّد! إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ, وَقَدْ بَعَثَنِي اللهُ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِك فَما شِئْتَ؟ إِنْ شِئتَ أَنْ أُطْبِق عَلَيْهِم الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا [متفق عليه[إِنَّها الرَّحْمَةُ النَّبَوِيَّةُ الَّتِي جَعلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْسَى جِرَاحَه الَّتِي تَسِيلُ, وَقلْبَه المنْكِسِرَ، وَفُؤادَه المكْلُومَ، وَلَا يَتذكَّر سِوَى إِيصَالِ الخيْرِ لِهؤلاءِ النَّاسِ وَإِخْرَاجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور وَهِدَايتَهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ المسْتَقِيمِ.وَيفْتَحُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَيدْخُلُها فِي عَشْرةِ آلافِ مُقَاتِلٍ, وَيُحكِّمُه اللهُ عَزَّ وجَلَّ فِي رِقَاب مَنْ آذَوْه وَطَردُوه وَتَآمَرُوا عَلَى قَتْلِه، وَأَخْرَجُوه مِن بَلدِهِ، وَقَتلُوا أَصْحَابَه وَفَتنُوهُمْ فِي دِينِهِمْ.فَيَقُولُ أَحَدُ الصَّحَابَةِ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الفَتْحُ الْأَعْظَمُ اليومَ يَوْمُ الملْحَمَة فَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ اليَوْمَ يَومُ المرْحَمَةِ.ثُمَّ يخْرُج النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلى هَؤُلاءِ المنْهزِمِينَ وَقَدْ شَخِصتْ أَبْصَارُهمْ, وَوجِلَتْ قُلوبُهمْ, وَجَفَّتْ حُلُوقُهمْ، يَنْتَظِرونَ مَاذا سَيفْعَلُ بِهم هَذا القَائِدُ المنتَصِرُ، وَهمُ الّذِينَ اعْتادُوا عَلى الْغَدْرِ وَالانْتِقامِ وَالتَّمثيلِ بِقَتْلى المسْلِمينَ كَمَا فَعلُوا فِي أُحُدٍ وَغَيْرِهَا.فَقَالَ لَهمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا معْشَر قُرَيْشٍ مَا تروْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟.قَالُوا: خَيْرًا! أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أخٍ كَرِيمٍ.فَقَالَ لَهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ فَانْطلَقوا كَأَنَّهم نُشِروا مِنَ القُبورِ.فَهذَا العَفْو الشَّاملُ نَتيجةُ الرَّحْمةِ الَّتِي فِي قلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالَّتِي عَظُمَتْ لتَشْمَل أكْثرَ أَعْدَائِهِ إِيذاءً لَه وَلأصْحَابِه, فَلَوْلَا هَذِهِ الرحمةُ لما حَدثَ هَذا الْعَفْوُ، وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ يَقُول: إِنَّما أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ [رَوَاه الحاكم[
رحمته بالبهائم : ذَكَرْنَا أَنَّ الرحمةَ النَّبويَّةَ اتَّسعَتْ لِتشْملَ الْكَافِرَ فَضْلاً عَنِ المسْلِمِ الموَحِّدِ، وَنَزيدُ هُنَا أَنَّ رحْمةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَجاوَزَتِ الجنْسَ البَشَرِيَّ حَتَّى شَمِلَتِ الـحَيوَانَ والجَمَادَ وشملت رحمته صلى الله عليه وسلم البهائم التي لا تعقل ، فكان يحثّ الناس على الرفق بها ، وعدم تحميلها ما لا تطيق ، فقد روى الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته ، فليرح ذبيحته ). وَقَدْ ذَكر أَحدُ الْعُلَماءِ أَنَّ بعضَ الغَرْبِيِّين أَسْلَموا لـمّا عَلِمُوا آدابَ الإِسْلامِ فِي الذَّبْح وَهَذَا يَدلُّ عَلى كَمالِ هَذَا الدِّيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَللهِ الحمْدُ وَالـمِنَّةُ.
ودخل النبي صلّى الله عليه وسلم ذات مرة بستاناً لرجل من الأنصار ، فإذا فيه جَمَل ، فلما رأى الجملُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح عليه حتى سكن ، فقال : ( لمن هذا الجمل؟ ) فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله ، فقال له: ( أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها ؛ فإنه شكا لي أنك تجيعه وتتعبه ) رواه أبو داوود .
ولقَدْ قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَد بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ, ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَىَ مِنَ الْعَطَشِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلَبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ, فَمَلَأ خُفَّهُ مَاءً، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا: يَا رَسولَ اللهِ! وَإِنَّ لَنَا فِي هَذه البَهائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَال صلى الله عليه وسلم: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ [مُتَّفَقٌ عليه[
بِهذِه الْقَاعِدةِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ سَبقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَمِيعَ المنظَّماتِ وَالهيْئَاتِ الَّتِي تُعنَى بِالدِّفَاع عَنْ حُقُوقِ الحَيوَان وَالرِّفْقِ بِهِ، سَبَقها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِئاتِ السِّنينَ يَوْمَ قَال: عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هِرَّةٍ, سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ, لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ [متفق عليه[
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْصِدُ بِهذَا تَعلِيمَ أَصْحَابِهِ الرِّفْقَ بِالحيوَانِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْه، وَيُبيِّنُ لَهمْ أَنَّ قَتلَ الحيوَانَ غَيْرِ المأَذْونِ فِي قتْلِه, أَوْ التَّسبُّبَ فِي قَتْلِه يُمكِنُ أَنْ يَكُونَ سَببًا فِي دُخُولِ النَّارِ وَالعِياذُ بِاللهِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا تَعْرِفُه القَوانِينُ الوَضْعِيَّةُ الَّتِي يحكُمُ بِها النَّاسُ اليَوْمَ.
وَحَذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن قَتْلِ الحَيوَانِ بِلَا هَدفٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، إِلَّا سَأَلَهُ اللهُ عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ. قِيل: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا حقُّها؟ قَالَ: حَقُّهَا أَنْ يَذْبَحَهَا فَيَأْكُلَهَا, وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا فَيَرْمِي بِهِ [رواه النَّسائيُّ[
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا [متَّفقٌ عليْهِ] أَيْ لَا تتّخذُوا الحيوَانَ الحيَّ هَدفًا تَرمُونَهُ بِسِهامِكُمْ, لَأَنَّ هَذَا مُنَافٍ للرَّحمةِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى المؤْمنِ أَنْ يتحلَّى بِها.رحمته بالجمادات
ولم تقتصر رحمته صلى الله عليه وسلم على الحيوانات ، بل تعدّت ذلك إلى الرحمة بالجمادات ، وقد روت لنا كتب السير حادثة عجيبة تدل على رحمته وشفقته بالجمادات ، وهي : حادثة حنين الجذع ، فإنه لمّا شقّ على النبي صلى الله عليه وسلم طول القيام ، استند إلى جذعٍ بجانب المنبر ، فكان إذا خطب الناس اتّكأ عليه ، ثم ما لبث أن صُنع له منبر ، فتحول إليه وترك ذلك الجذع ، فحنّ الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمع الصحابة منه صوتاً كصوت البعير ، فأسرع إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه حتى سكن ، ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم : ( لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة ) رواه أحمد .
لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها رحمة ، فهو رحمة ، وشريعته رحمة ، وسيرته رحمة ، وسنته رحمة ، وصدق الله إذ يقول : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ( الأنبياء : 107 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق